عناصر الخطبة
1/خطورة غفلة الإنسان عن الغاية من خلقه 2/فضائل ذكر الله تبارك وتعالى 3/أفضل علاج لقسوة القلب وضعف الإيمان 4/خصائص ذكر الله تعالى 5/الحث على الإكثار من ذكر الله 6/أفضل المعينات على الذكر 7/ من عجائب الذكر ومزاياه الفريدة.اقتباس
المسلمُ المُوفَّق كلُّ عَمَله ذِكْرٌ في ذِكْر، وقلبه معلقٌ بخالقه ومولاه. دقاتُ قلبه، وخلجاتُ نفَسه، وتقلباتُ بصره، وحركاتُ جوارحه كلها لله وفي الله ومن أجلِ الله.. يعيش وفي أعماقه إحساسٌ وإيمانٌ، بأنّ إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفُّس الصبح، وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك.. كلُّ ذلك بأمر الله وتدبيره، ولعبادته وذِكْره...
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ للهِ؛ الحمدُ للهِ العظيم الأعظمِ، الكريم الأكرمِ، الرحيم الأرحم، التوابُ الوهاب المنعمِ؛ (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[القلم:4]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الغفور الودود، الإلهُ الحقّ المعبودُ، المتفرد بتدبير كل موجود؛ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[البروج:9].
وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ؛ لا خير إلا ودلَّنا عليه، ولا شرَّ إلا وحذرنا منه، فصلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ، وعلى آله وصحابتهِ وتابعيه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حقَّ تقواه، واغتنموا لحظاتِ الأعمارِ فما أسرعُهَا! وانتهزوا الفُرصَ السانحةَ فما أنفسُهَا! وتاجروا مع اللهِ فهي تجارةٌ ما أربحُهَا؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29- 30].
معاشر المؤمنين الكرام: معلومٌ أنّ الإنسانَ إنما خُلقَ لعبادة الله -تعالى- وذِكْره، وحِينَمَا يَذهَلُ الإِنسَانُ عَن هذه المهِمَّة العظيمة، وَينشغلُ بالدُّنيَا وَزَخَارِفهَا، وَتَصُدُّهُ فِتنُها وَمشاغِلُهَا، ويُلهيهِ التَّكَاثُرُ عَنِ التزودِ لِليَومِ الآخِرِ.. وحينما تكثرُ الذنوب، وتقسو القُلُوبُ، وحين تتكالبُ الكروب فتضيقُ الدروب؛ فَإِنَّ ذِكرَ اللهِ -جَلّ وعلا- هو أعظمُ مَا يُغِيثُ القُلُوبُ، وتستدفعُ به الكروب، ويسُقِى بِهِ زَرعُ الإِيمَانِ.
ومَنْ تأمَّلَ الْقُرْآنَ الكريمَ وَجَدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- قد تَكَرَّرَ فِيه كثيراً، بل لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ أَمْرٌ بِالْإِكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ كَالْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ، قال -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب:41]، وقال -تَعَالَى-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة:10]، وقال -جل وعلا-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)[آل عمران:41].
ثمّ إنه لَيسَ من أَحَدٍ إِلاَّ وَهُوَ بأمسِّ الحَاجَةِ لئن يُحْمَى من قسوة القلب وضعف الإيمان، ومن الفتن وكيد الشيطان، وأن يُعانَ على العبادة وطاعة الرحمن، والذكرُ هو أعظمُ ما يعين على ذلك -بإذن الله-، وفي صحيح البخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلُ الذي يذكُر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه، مثلُ الحيّ والميت".
فذِكْرُ اللهِ -جل وعلا- هو حِصنُ المؤمِن الحصِين، وكنزُهُ الدَّفِين، وذُخْرُهُ ليومِ الدِّينِ، وهُوَ قُوتُ القلوبِ، ونُورُ الصُدورِ، وقُرةُ العُيونِ، وسُرورُ النُفوسِ، ورُوحُ الحياةِ، وحياةُ الأرواحِ، يَطرُدُ الشيطانُ، ويُرضِي الرحمنَ، وَهو خَيرُ مَا شُغِلَت بِهِ الأَوقَاتُ، واستُثمِرت فيهِ الطاقَات، وَهُوَ أقوى عُدَّةُ المؤمِن فِي مُوَاجَهَةِ الْفِتَنِ وَالِابْتِلَاءَاتِ، وَهُوَ فَوْزُهُ فِي الْآخِرَةِ، ورِفعَتهُ في الدَرجات، وَمَا رُتِّبَ عَلَيه مِنَ الْأُجُورِ فلَا يُحْصِيهِ إِلَّا ربُّ الأرضِ والسموات.
ثم إنَّهُ متيسرٌ لمن أراده فِي كُلِّ حين، وَعَلَى كلِّ حَالِ، مسهلٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جُهدٍ ولا إلى انتقال، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا إن عجزوا، إلا الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، فَقَالَ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء:103]".
وأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ السَّبْقَ إنما يَكُونُ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ، فقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ""الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ".
وفي الحديث الصحيح، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم مِنْ أَنْ تلقَوْا عدوَّكُمْ فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: "بلى يا رسول الله"! قال: "ذكر الله -عز وجل-".
وحين قال رجلٌ يا رسول الله: إنّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيءٍ أتشبثُ به، قال: "لا يزالُ لسانكُ رطبًا من ذكر الله"(صححه الألباني). وجاء في صحيح مسلم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجَ على حلقةٍ من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟"، قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ ونحمدهُ على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال: "آللهُ ما أجلسَكُم إلا ذاك"، قالوا: آللهُ ما أجلسنَا إلا ذاك، قال: "أما إني لم أستَحلِفُكم تُهمةً لكم، ولكنَّهُ أتاني جِبريلُ فأخبرني أنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يُباهِي بِكم الملائكة".
ثم إنّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-، أَكْثَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ ذِكْرِهِ، ففِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ المتفق عليه: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأ خَيْرٍ مِنْهُ"، وفي محكم التنزيل؛ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة:152]؛ ووالله لو لم يكن للذكر إلا هذه الميزة، لكفَت ورجَحَت.
ثمّ إنّ العاقِلَ الموفَّق إذا وازَنَ حياتهَ القصيرةَ بالخلود المنتَظَر، تبيَّنَ لهُ أنَّ كُلَّ نَفَسٍ من أنفاسِهِ يَعدِلُ في الآخرةِ أحقابًا ودُهورًا لا نهايةَ لها، في نَعيمٍ -بإذن الله- لا يَنفدُ، وقُرةُ عَينٍ لا تَنقطِعْ، نسألُ اللهَ الكريمَ مِنْ واسع فَضْلِه، فالعاقِلُ لا يُضيِّعُ نَفيسَ عُمرِهِ بغيرِ عَملٍ صَالحٍ يدَّخره، ففي الحديث الصحيح: "مَا جَلَسَ قَومٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكرُوا الله -تَعَالَى- فِيهِ ولَم يُصَّلُّوا عَلَى نَبِيِّهم فِيهِ إلاَّ كانَ عَلَيهمْ تِرةٌ وحسرةً يوم القيامة".
وعن عبدالله بن مسعود -رضي اللهُ عنه-، قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْريَ بي فقالَ: يا محمَّدُ، أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ، وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ".
وقال معاذُ بنُ جبلٍ -رضي الله-: "ما شيءٌ أنجى من عذابِ اللهِ من ذكرِ اللهِ".
ثم استمعوا إلى كلامٍ مرتبٍ نفيسٍ، كتبهُ الإمامُ ابن الجوزي -رحمهُ اللهُ- في رسالةٍ لطيفةٍ إلى ابنهِ ينصحهُ فيها، سمَّاها لفتةُ الكبدِ في نصيحةِ الولدِ، وكانَ مما جاءَ فيها: "واعلم يا بُني أنَّ الأيامَ تُبْسَطُ ساعات، وأنَّ الساعاتِ تُبسَطُ أنفاسًا، وكُلَّ نَفَسٍ خِزانةٌ، فاحذَر أنْ يَذهبَ نَفَسٌ بغير شيءٍ فترى في القيامةِ خِزانةً فارغةً فتَندم، وانظرْ كُلَّ سَاعةٍ مِنْ سَاعاتِكَ بم تذْهَبُ، فلا تُودِعَها إلا أَشرَفَ مَا يُمكِنُكَ من العَملِ وأحْسنَهُ"، لله درّه! ما أعجب هذا الكلام وأعمقه!
وعلى هذا فإِنَّ شَرَفَ الذِّكرِ وَعُلُوَّ مَنزِلَتِهِ، وَعَظِيمَ فَضلِهِ، وَشِدَّةِ حَاجَةُ المسلمِ إِلَيهِ، مَعَ سُهُولَتِهِ وَيُسرِهِ، وَكثرةِ أَجورِهِ، إن كُلُّ ذلكَ ممّا يَحثُّ المسلمَ ويحفزُهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ -تَعَالَى- كَثِيرًا والذاكرات، وَأَلاَّ يكُونَ مِنَ الغَافِلِينَ المُفَرِّطِينَ في أفضلِ وأسهل الطاعات والقربات؛ قال -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون:9].
ألا وإنَّ من أعظم ما يُعينُ المسلمَ على أن يكونَ من أهل الذكر الموفقين: المحافظةُ على صلاة الجماعة، فمن حافظ على أداء الصلوات المكتوبات في بيوت الله، فهو ولا شك من الذاكرين المفلحين، ففي الحديث الصحيح: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَافَظَ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ لم يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ".
فإذا وُفِّق المسلمُ للمحافظة عَلَى صلاة الجماعة، واجتهدَ في تحسينها، وإكمَالِ خُشُوعهَا وَطُمَأنِينَتهَا، وإتمامها بالرَّوَاتِبِ القَبلَيةِ والبَعدَية، فَقَد نَالَ -بإذن الله- أَكبَر نَصِيبٍ مِن ذِكرِ اللهِ -تَعَالَى-؛ قال -تَعَالَى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب)[النور:36].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ)[الزمر:18].
معاشر المؤمنين الكرام: من عجائب الذكرِ ومزاياهُ الفريدة، أنه ذو دائرةٍ واسعة، يدخلُ في كل أنشطة الحياة ومجالاتها. وفي هذا يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: "كل عاملٍ لله بطاعةٍ فهو ذاكر لله -تَعَالَى-".
ولذا فالمسلمُ المُوفَّق كلُّ عَمَله ذِكْرٌ في ذِكْر، فهو يصحو وينام، ويقومُ ويقعد، ويغدو ويروح، ويفعل ما يفعل، وقلبه معلقٌ بخالقه ومولاه... دقاتُ قلبه، وخلجاتُ نفَسه، وتقلباتُ بصره، وحركاتُ جوارحه كلها لله وفي الله ومن أجلِ الله..
يعيش وفي أعماقه إحساسٌ وإيمانٌ، بأنّ إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفُّس الصبح، وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك.. كلُّ ذلك بأمر الله وتدبيره، ولعبادته وذِكْره.
تأمل: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62]، وقال -تَعَالَى-: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191].. وقال -جلّ وعلا-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين)[الأنعام:162].
فيدرك المسلم المُوفَّق أنّ في آنَاءِ اللَّيلِ وَأَطرَافِ النَّهَارِ، سَاعَات طويلة، وَلَحَظَات كثيرة، يمكن أن يَستَثمِرُهَا في طاعة خالقة ومولاه، وأنّ لهُ في كُلِّ لَحظَةٍ وَفي حَرَكَةٍ فرصًا مُتجددة لِذِكرِ اللهِ والتّقربِ منه بأحبِّ الأعمال إليه.
فَلِلخُرُوجِ مِن المَنزِلِ ذِكرٌ، وَلِلدُخُولِ ذِكرٌ، وَلِرُكُوبِ السَيَّارَة ذِكرٌ، وللأسواق ذكرٌ، وللمنزل الجديد ذكرٌ، وَعِندَ دُخُولِ الخَلاءِ ذِكرٌ، وَبعد الخُرُوجِ منه ذِكرٌ، وعند الوضوء ذَكرٌ، وحين الفراغِ مِنه ذَكَرٌ، وللباس ذكرٌ، ولدخول المسجد ذِكرٌ وللخروج منه ذِكرٌ، وإذا ما يعجبه ذكر، وَعِندَ النَومِ ذِكرٌ، وَعند الاستيقاظ ذِكرٌ، وَقَبلَ الأَكلِ والشرب ذِكرٌ، وَبَعدَهما ذِكرٌ، وفي الصباح أدعية وأذكار، وفي المساء مثل ذلك، بَل حَتَّى في تَقَلُّبِهِ في فِرَاشِهِ ذكرٌ، وَعند إِتيَانِهِ لأَهلَهُ ذِكرٌ.
فإذا حرص المسلمُ عَلَى تِلكَ الأَذكَارِ وَدَاوَمَ عَلَيهَا، وأداها على الوجه المطلوب، فحريٌّ أن يكونَ -بإذن الله- مِنَ المفلحين؛ فالله -جلَّ وعلا- يقول: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45].
ليس ذلك فحسب، فالدعاءُ ذِكْر، والاستغفار ذِكْر، والمناجاة ذِكْر، والثناء على الله ذِكْر، والشكر ذِكْر، وتعداد النعم ذكر، وقراءة القرآن ذكر، والتفكر في آيات الله وآلائه ذكر، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر، ومدارسة العلم ذكر، والنصيحة ذكر، والدعوة إلى الله ذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن ذكر، وإلقاء السلام ورده ذِكْر، ومتابعة الآذان ذِكْر، والصلاة ذكر.
بل جاءَ في الحَدِيثِ القُدسِيّ الصحيح: يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِن استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ".
وماذا يريد العبد من ربه أكثر من ذلك؟! على أنّ أهمّ ما ينبغي أن يهتم به الذاكر ويتعني به: تواطؤ القلب واللسان والعقل، وأن يكون الذكر بصوتٍ يسمعه صاحبه، قال -تَعَالَى-: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا)[الإسراء:110]. كما أنه يُستحبُّ للذاكر أن يكونَ على طهارةٍ، وأن يكون مستقبلاً للقبلة، وعلى هيئةٍ حسنة.
فاتقوا اللهَ -رحمَكُم اللهُ- وسَارِعوا في الخيرات، ونَافِسوا في المكرُمات، وأكثِروا مِنْ الطاعَات والقُربات، ودَاوِموا على الذِّكرِ في كل الأوقات؛ تفوزوا بجنة عرضها الأرض والسموات؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم)[الأنفال:2- 4].
فيا ابن آدم عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنْسَى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم