عناصر الخطبة
1/ لماذا نشهد؟ 2/عظمة الشهادة وخطورتها 3/ أنتم شهداء الله في الأرض 4/صور ونماذج من إقامة الشهادة لله: الشهادة على النفس, الشهادة على الأقارب, إقامتها بصدق وتجرد, الشهادة بعلم ويقين, الشهادة لله مراعاة عظمتها. 5/وصية بإقامة الشهادة للهاقتباس
إن الشهادة أمرها عظيم وشأنها خطير، فمن شهد على شيء فليشهد شهادة الحق والعدل، شهادة القسط والإنصاف، لا شهادة الجور والزور، ولا شهادة الخوف والكتمان، فمن أدى الشهادة على وجهها وبحقيقتها فقد حاز رضى الله -سبحانه وتعالى- وتجنب سخطه، وساهم في إرساء قواعد الخير والعدل في المجتمع...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك العظيم العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم ما تخفون وما تعلنون (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 19 - 20]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والحكم والتدبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بيّن لأمته ما فيه خيرها وسعادتها، وحذرها من سوء العاقبة والمصير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم: ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق : 2]، في هذه الآية يأمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نقيم الشهادة عندما نشهد على شيء لله وحده، فنريد بشهادتنا وجه الله، محتسبين أجرها وفضلها عند الله، فلا نقيم الشهادة من أجل الحصول على متاع دنيوي، ولا نقيمها محاباة لفلان أو لعلان، ولا نقيمها نكاية بفلان لأن بيننا وبينه عداوة فنريد أن ننتقم منه ونقف في وجهه، ولا نقيمها لأن طالبها صديق لنا أو قريب منا فنريد أن نرضيه حتى لا يغضب علينا، ولا نقيمها لأن من سنشهد له رجل غني أو مسئول ثري فنريد بشهادتنا وجاهة عنده أو تزلفاً وتقرباً منه، أو لأنه فقير فنريد أن نشهد له تعاطفاً معه، كل هذا مرفوض جملة وتفصيلاً.
إن الواجب هو إقامة الشهادة لله، فطالما أن لدينا علم يقيني عن شيء رأيناه بأعيننا وعايشناه بأنفسنا فلنؤدي شهادتنا عليه بحسب الواقع والواقعة التي رأيناها تماماً، بلا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، إن كنا فعلاً نؤمن بالله واليوم الآخر، أما إذا ذهب خوفنا من الله، وضعفت في قلوبنا عظمة الله، فلنجامل بشهادتنا ولا نقيمها من أجل الله وحده، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء : 135]، فالله ينادينا في هذه الآية أن نقوم في الحكم بين الناس بالقسط أي بالعدل، وأن نكون عند الشهادة (شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، نؤدي الشهادة لله، فلا نشهد لغني من أجل غناه ولا لفقير من أجل فقره، فإن الله أولى بهما، وانظروا -عباد الله- كيف أن الله -جل جلاله- جعل الشهادة على عبده كالشهادة له -عز وجل-، فلا يميلن أحدكم مع الفقير رحمة به، ولا مع الغني طمعاً فيه، وليوكل ذلك لله تعالى، فهو أولى بهما.
ثم قال -سبحانه وتعالى- في آخر الآية: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى)، ينهانا عن إتباع الهوى حتى لا نجور في قضائنا وشهاداتنا فنميل مع النفس الأمارة بالسوء وما يزينه الشيطان لها، وحذرنا أيضاً من لي اللسان بالشهادة فلا نأتي بها عادلة، أو الإعراض عنها بكتمها وعدم أدائها، أو الإعراض عن بعضها فلا تكون كافية في إحقاق الحق وإبطال الباطل، (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي خبيراً بأموركم فلا يخفى عليه منها شيء سواء عدلتم أو جرتم، أتممتم أو نقصتم، فرقابته لكم قائمة وجزاؤه لكم سيكون إن عدلتم بالخير، وإن جرتم بالعذاب فهل نريد واعظاً أكثر من هذا؟!.
أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم وشأنها خطير، فمن شهد على شيء فليشهد شهادة الحق والعدل، شهادة القسط والإنصاف، لا شهادة الجور والزور، ولا شهادة الخوف والكتمان، فمن أدى الشهادة على وجهها وبحقيقتها فقد حاز رضى الله -سبحانه وتعالى- وتجنب سخطه، وساهم في إرساء قواعد الخير والعدل في المجتمع بإعانته للمحق للحصول على حقه والوقوف في وجه الظالم والمحتال لرده عن ظلمه والوصول إلى هدفه الخسيس بأخذ ما ليس له، فكم ضاعت من حقوق، وكم سقطت من واجبات، وكم ثبتت من مظالم من جراء التلاعب بالشهادة، وعدم أدائها أداءً صحيحاً بالوجه الذي يرضاه الله -سبحانه وتعالى-، ويتحقق به العدل، ويسقط به الظلم والباطل.
إن المؤمن إيماناً حقيقياً المراقب لله -سبحانه وتعالى- حق المراقبة يقيم الشهادة بحق حتى ولو كان على نفسه، مع أنه يعلم أنه بشهادته على نفسه سيضر بها، وسيضيع حقه، لكن هذا كله لا يهمه طالما أنه وقف مع الحقيقة، فهمه أولاً وأخيراً أن يقيم الشهادة لله بحق وصدق، فهل سترتفع نفوسنا إلى هذا المستوى العظيم بالأفعال والحقائق، لا بالكلام والادعاءات، أم سنقول كما يقول الكثير وهل أصبت بالجنون حتى أضر نفسي بنفسي، وأعمي عيني بيدي كما يقولون، وما علم أنه بعدم أداء الشهادة على حقيقتها قد جلب لنفسه سخطاً ونقمة لا يعلم بها إلا من خاف ربه، وحسب حساباً ليوم لا تخفى على الله فيه خافية، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [النساء : 135].
كذلك من إقامة الشهادة لله إقامتها على أقرب الأقرباء، كالوالدين والأرحام والأصدقاء، فلا يجوز عند الشهادة مراعاتهم، ولا مجاملتهم، ولا الاستحياء منهم، فإن الحق أعلى وأغلى منهم، ومن قدمهم على الحق فقد ارتكب جرماً شنيعاً وفعل منكراً عظيماً، لأن شهادته ستترتب عليها أمورا خطيرة وحقوقا كبيرة، فربما تثبت هذه الحقوق لمن لا يستحقها، أو تضيع على من يستحقها، بسبب هذه المجاملات في الشهادة، وتقديم الأقرباء عند الشهادة على الحق، فلنحذر من هذا حذراً شديداً، ولا يجوز لنا أن نتعذر بالخوف من غضبهم منا، أو حنقهم منا، أو مقاطعتهم لنا، فكل هذا يهون ولا يساوي شيئاً عند الحق.
وعلى صاحب الشاهدة أن يُخبر هؤلاء الأقرباء والأصدقاء بأهمية الشهادة، ووجوب إقامتها لله، وخطر الزور فيها، ويعلمهم أن الحق فوق كل شيء، وسيبقى الحق حقاً حتى وإن ألبس لباس الباطل، ويبقى الباطل باطلاً ولو ألبس لباس الحق، ويوم القيامة تتكشف الحقائق فيبقى الإثم والعذاب، وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن أُمَّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا" [البخاري (2458) مسلم (1713) ] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء : 135].
ومن إقامة الشهادة لله إقامتها بكل تجرد وصدق، بدون أحكام مسبقة، أو نفوس مشحونة بالحسد أو العصبية أو الهوى، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء: 135] لأن بعض الناس عندما يشهد لا يشهد شهادة متجردة لله، وإنما تشوب شهادته علائق وعوائق تؤثر على شهادته، فتحرفه عن قول الشهادة بحق وحقيقة، كما يفعل بعض الناس عند الشهادة على شخص بينه وبينه عداوات وحساسيات فيتعمد الشهادة ضده، ويشهد عليه بخلاف الحق، أو يؤدي الشهادة منقوصة لأن بينهما مواقف عدائية فيريد أن يشفي غليله منه، أو لأنه ليس من عشيرته، والآخر من عشيرته وبني جنسه فيقف ضده لهذا السبب، وأحياناً يكون لمجرد هوى وردود أفعال، أو عصبيات عرقية أو مذهبية أو طائفية أو رواسب اجتماعية، وهذا واقع والله المستعان، وقد نهانا الله -تبارك وتعالى- عن هذا نهياً عظيماً فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة : 8]، فعند الحق يتساوى المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، والأعداء والأصدقاء، والأغنياء والفقراء، فالميزان والمقياس هو الحق وليس الأشخاص.
ومن إقامة الشهادة لله أن يشهدها الشاهد بعلم ويقين، فمن شهد فليشهد عن علم ورؤية، ولا يجوز له أبداً أن يشهد بما لا يعلم، أو يشهد شهادة ظنية ليس عنده فيها يقين أكيد، يقول الله عن إخوة يوسف -عليه السلام-: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) [يوسف : 81]، فمن أكبر الكبائر، أن يشهد الإنسان كذباً وزوراً، فهذه هي شهادة الزور التي قرنها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالشرك بالله، يقول الله -سبحانه وتعالى-: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج : 30] ويقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ- أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ" [البخاري (2654) مسلم (88) ]، فذكر شهادة الزور في سياق أكبر الكبائر، واهتم عند ذكرها بالتحذير منها بالقول والفعل حيث جلس بعد أن كان متكئا، وكرر التحذير مرات وكرات حتى قالوا ليته سكت.
وفي حديث آخر يقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ شَهَادَةً لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" [ أحمد (10617) ]، ويقول الله -تبارك وتعالى- في وصف عباد الرحمن، المستحقين لدخول الجنان: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان : 72] ويقول: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : 150]، وقال: (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ) [الأنعام : 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
أيها الناس: ومن إقامة الشهادة لله أن يراعي الإنسان عظمة الشهادة ويقوم بحقها، فيشهد إذا طلب منه الشهادة ولا يتلكأ في ذلك، ولا يقل لا علاقة لي، أو لا شأن لي بهذه المشكلة، أو يقوم بطلب مبلغ على أداء شهادته فيضر صاحب الحق بذلك، ولهذا يقول الله: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة:282] فما دام أنهم قد طلبوا منه الشهادة فليشهد بالحق، ولا يجنح لهذا الفريق ولا لذاك، وقد يكون أداء الشهادة في حقه فرض عين كأن يكون هو الشاهد الوحيد على الحدث، أو يكون هو الشاهد العدل وغيره من الشهود شهادتهم مخرومة، فهنا لا يجوز له أن يكتم الشهادة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : 283].
ومن عظمة الشهادة أن يعلم الشهداء أنهم شهداء الله في أرضه، فمن شهدوا له بالحق فهو المحق، ومن شهدوا له بالباطل فهو صاحب الباطل، ومن هنا ندرك خطر الشهادة وعظمتها، فمن شهد شهادة باطلة فإنه ليس من شهداء الله في الأرض، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ) [الزخرف:19] ومنه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه، قَالَ: "مُـرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ ، قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ" [البخاري (1367) مسلم (949) ].
ومن عظمتها أنه لا يجوز أن يشهد فيها من ليس أهلاً لها، فينصّب نفسه على أنه من أهل الشهادة وهو ليس من أهل الشهادة، يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ " [ البخاري(3650) مسلم (2535)].
ومن عظمتها أنه يجب التروي فيها عند أدائها، ولهذا ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- من يكثر من الحلف عند الشهادة، ويسبق يمينه شهادته، وتسبق شهادته يمينه فقال: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ" [ البخاري (2652) مسلم (2533) ].
فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بإقامة الشهادة لله وحده، وألا نقيمها من أجل الدنيا، أو محاباة لأحد، أو نجعلها دينا كما يفعله بعض الناس، يشهد لفلان في قضيته على أن يشهد له في قضيته، فكل هذا يناقض وجوب إقامة الشهادة لله، فعلينا أن نشهد بالحق حتى ولو على أنفسنا، والمقربين منا، وأن نشهد بعلم ويقين، وبكل تجرد وإخلاص، مستشعرين عظمة الشهادة، وخطرها حين أن تكون لغير الله.
اللهم أعنا على إقامة الشهادة من أجلك، وأعنا على الشهادة بالحق على أنفسنا وأقربائنا.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا الصدق والإخلاص في الشهادة، وأن تعيينا على القيام بها خير قيام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم