عناصر الخطبة
1/ سواء أحوال الأمة المعاصرة 2/ مواجهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكثير من التحديات 3/ قيام النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات العبادات والطاعات رغم مشاق الحياة 4/ أعظم سبب لنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسوخها في قلوب أصحابه وأتباعه 5/ العبادة أعظم سلاح.اقتباس
لما رأى -صلى الله عليه وسلم- أن جميع السبل لم تجدِ نفعًا في إفساح الأمر لدعوته والكفّ عنه ليقوم بمهمته، فعاش في المدينة بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- عشرة أعوام كلها جهاد وصبر وتخطيط، وتكتيك، واستعداد وإعداد، وجوع وخوف، وضيق وامتحان، وابتلاء وحزن وهم، وكرّ وفرّ، وعنف وحزم، ومع هذا وأمثاله معه دوّن لنا سيرةً ما عرف التاريخ لها مثلاً في سائر شؤون الحياة، من قرأها وتمعن فيها، حار عقله وعجزت مداركه؛ لأننا في زمن لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يخضع إلا للقوة الحسية، فيصعب من هذه مقوماته أن يفهم منهجًا قام على العبادة والزهد والورع والتقوى.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: تكلمنا في جمعة مضت عن أهمية الذكر، وفي الجمعة الماضية تكلمنا عن صلاة الاستخارة، فأخشى أن يوجد بيننا من يقول الأمة تمر بهذه الأحداث الجسام، وأنت تحدثنا عن الذكر والعبادة والصلاة، فأحببت أن أسدّ مدخل الشيطان، وأسدّ منافذه على مَن وقر ذلك في نفسه في هذه الخطبة.
نعم إن كثيرًا من المسلمين في هذا الزمن قد قهره ما يراه من قوة الأعداء، ومن ضعف المسلمين، حتى أصبح يرى أن الحديث عن العبادة وعن الصلاة وعن الطاعة ينبغي أن يؤجل، فأحببت أن أربطكم بهؤلاء ذي المنهج الذي مضى وسار عليه سلف الأمة حتى يروا كيف كانوا يتعايشون مع مثل هذه الأحداث.
عباد الله: لقد واجَه نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من التحديات منذ أن شرّفه الله بحمل دينه، وأمره بالدعوة إليه، فبقي في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجاهد في سبيل ربه بالتي هي أحسن، متسلحًا في ذلك بالصبر والاحتساب والعبادة، لا يزيد على ذلك، وكان كلما ازداد أذى قومه له -صلى الله عليه وسلم- ازداد بذلك صبرًا واعتمادًا على الله، ولجوءًا إليه سبحانه.
وفي المقابل كانت قريش كلما ابتكرت خطة لصدّه -صلى الله عليه وسلم- فرأت تلك الخطة لم تجدِ نفعًا، سارعت إلى خطة أقوى، وهكذا حتى خطّطوا لقتله -صلى الله عليه وسلم-، فنتج عن ذلك هجرته إلى المدينة؛ ليتحول الأمر بعد ذلك من المدارة إلى المواجهة، وليتحول الصبر على الأذى إلى الصبر على المجابهة.
ولما رأى -صلى الله عليه وسلم- أن جميع السبل لم تجدِ نفعًا في إفساح الأمر لدعوته والكفّ عنه ليقوم بمهمته، فعاش في المدينة بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- عشرة أعوام كلها جهاد وصبر وتخطيط، وتكتيك، واستعداد وإعداد، وجوع وخوف، وضيق وامتحان، وابتلاء وحزن وهم، وكرّ وفرّ، وعنف وحزم، ومع هذا وأمثاله معه دوّن لنا سيرةً ما عرف التاريخ لها مثلاً في سائر شؤون الحياة، من قرأها وتمعن فيها، حار عقله وعجزت مداركه؛ لأننا في زمن لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يخضع إلا للقوة الحسية، فيصعب من هذه مقوماته أن يفهم منهجًا قام على العبادة والزهد والورع والتقوى.
عباد الله: لقد كان رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في حالة حرب منذ هجرته إلى وفاته، ومع ذلك فلم تُثْنِه تلك الأحداث الجسام عن نشر الدين، وتوجيه الثلة المباركة من أصحابه إلى القيام بتكاليف الدين، وتطبيق أوامره، واجتناب نواهيه في واقع الحياة، فلم يقل -صلى الله عليه وسلم-: أنا في شدة وضيق، وفي مواجهة للعدو، وفي ذبّ عن الإسلام، فاتركوا بعض تلك التكاليف حتى نصدّ الأعداء؛ فإذا صددناهم عدنا لتلك التكاليف التي أخرناها لعذر قاهر.
لم يقل هذا، ولم يفعل هذا، بل كانت تكاليف الدين وأوامره ملازمة له في سائر أحواله لا يؤخر صلاةً عن وقتها حتى في ساحات القتال: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ..) الآية [النساء: 102].
ولا تشغله هموم النهار عن قيام الليل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل: 20]، ولا يشغله عمل الليل عن عمل النهار، (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) [المزمل:7].
ولكن تأملوا بما أمره الله بعد هذه الآية لقد أمره بعملٍ غفل عنه كثير من أهل هذا الزمن لا وهو الذكر فقال سبحانه: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) [المزمل:8].
وهكذا كان يوازِن بين أحكام الشرع، لا يشغله صغيرها عن كبيرها، ولا يهمل سننها للاكتفاء بواجباتها، بل كان يحافظ على السنن كما يحافظ على الواجبات، ويحض أصحابه على التزود منها، فها هو أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" (متفق على صحته).
فلم يمنعه ما هو فيه -صلى الله عليه وسلم- من الأحداث الجسام من إرشاد أصحابه، وحثهم على التزود من الطاعات، بل لقد كان يمنعهم من الجهاد لعوارض شرعية مع شدة حاجته -صلى الله عليه وسلم- إلى جندي واحد يذُبّ عن دين الله، فها هو -صلى الله عليه وسلم- يستعرض جيشه في أُحُد فردَّ صغار الصحابة، ومنعهم من المشاركة في هذه المعركة، رغم أن جيش العدو يفوق جيشه بكثير، ورغم ما حصل لجيش المسلمين من خلل حينما رجع رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول عندما رجع بثلث الجيش، ومع ذلك منع صغار الصحابة من المشاركة في هذه المعركة.
وما ذلك إلا ليشرع لنا ويبين لنا كيف نتمسك بالدين في عسرنا ويسرنا، وفي غزوة أخرى جاءه رجل يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟" قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد" (متفق على صحته).
لم يمنعه ما هو فيه من الشدة والضنك، وما هو فيه من الخوف، وما هو فيه من تجمع الأعداء؛ ما منعه ذلك مِن أن يُلزِم هذا الرجل ببر والديه.
وجاءه رجل في غزوة أخرى فقال يا رسول الله: "إني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجَّة"، قال: "ارجع فحُجَّ مع امرأتك" (رواه البخاري).
انظروا يا أمة الإسلام لم يقل هذه امرأة مؤمنة، وتحج مع مؤمنين، لم يقل: هذه امرأة من الصحابة وستحج مع نفر من الصحابة، لم يقل نحن في أمرٍ نُعذر فيه، وإنما أمر هذا الرجل فقال: عد، فحُجّ مع امرأتك.
بل لقد ترك عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يخدم زوجته رقية، وهي مريضة حين خرج لغزوة بدرٍ، بل وترك معه أسامة بن زيد يساعده إذا احتاج لمساعدته.
فهذا المنهج القوي الذي كان يطبّقه في كل صغيرة وكبيرة، هو أعظم سبب لنجاح دعوته ورسوخها في قلوب أصحابه وأتباعه، وهو السبب الذي ألقى به الله الرعب في قلوب أعدائه؛ فإنهم لما رأوه يهتم بصغار الأمور قبل كبارها، ولما رأوه لا يهمل شيئًا من مصالح أتباعه، ولما رأوه لا يترك ثغرة إلا سدها، ولا حيلة إلا أعدها، ولا شبهة إلا ردها، ولا طاعة إلا قام بها، فكان بذلك يزداد قوة يومًا بعد يوم، وكان يزداد هيبة في قلوب أعدائه يومًا بعد يوم، ومتى ما طبّقنا منهجه، واقتفينا أثره فأبشروا بالنصر المؤزر، وبالقوة التي لا تقهر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: العبادة هي القوة التي تسلح بها سلفنا، فانتصروا رغم قلتهم وضعفهم، وهي القوة التي أهملناها فضعفنا رغم كثرتنا وقوتنا.
نعم والله، إنها من أعظم الأسلحة، العبادة أعظم سلاح، وذلك أنها تربِّي النفس وتثقل موازينها، ومن عبَد الله -جل وعلا- على بصيرة زال من قلبه خوف غيره (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) [التوبة: 13].
ولن يستطيع أحد أن يجاهد أعداءه حتى يجاهد نفسه، فجهاد النفس مقدّم على جهاد العدو، ومن لم يجاهد نفسه وشهواته فلن يجاهد أعداءه، فأعظم جندي افتقدناه هو الإيمان الذي قال الله عنه: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38].
ومن دافع الله عنه فهو القوي، ولكن ما هو الإيمان الذي يدافع الله عن أصحابه؟
اسمعوا في آية بعد آيتين من هذه الآية قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].
فمتى ما اهتممنا بالصلاة، ودعونا جيراننا الذين لا يؤدونها، ومتى أمرنا بأدائها وتعاونا عليها، وأقمناها وأديناها، وأشفقنا من المعرضين عنها، ومتى أدينا الزكاة وبذلناها ونحن نتوق لإخراجها ونستبشر بإعطائها، ومتى أمرنا بالمعروف، وأخذنا على يد الظالم، ونهينا المفسد، فأنكرنا عليه فأبشروا (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج:38].
صلوا وسلموا على ما أمركم بالصلاة عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أجمعين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم