موقع الإسلام سؤال وجواب
السؤال
سمعت في إحدى المحاضرات أنّ عدم إنكار المنكر مع الاستطاعة ، بسبب الاستحياء من فعل ذلك : هو من الشرك الأصغر ، فأرجو توضيح المسألة ، فالأمر يخيفني جداً ، وهل يعتبر ذلك من كبائر الذنوب أم الصغائر ؟ وهل هذا الشرك يقع في نفس مرتبة الرياء ؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
روى الإمام مسلم في صحيحه (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ) .
جاء في " فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى " (9/57) :
" يجب على المسلم إنكار المنكر بقدر استطاعته ، إذا علم أنه منكر بالأدلة الشرعية ، إما بيده إن كان أهلا لذلك ؛ كولي الأمر في رعيته ، ورب الأسرة في بيته ، ومن جعل له السلطان ذلك ، وإلا فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .
ثانيا :
الحياء خير كله ، والحياء لا يأتي إلا بخير ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القدرة عليه : ليس من هذا الخير الذي يأتي به الحياء ، وليس هذا هو الحياء الشرعي الممدوح ، بل هذا ضعف ، وخجلة تعتري النفوس ؛ فالحياء الممدوح هو : ما منع صاحبه من فعل القبائح والرذائل ، وسفاسف الأخلاق والأفعال والأقوال .
ثالثا :
روى البيهقي في " الشعب " (6469) عن الفضيل بن عياض رحمه الله ، قال : " تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللهُ عَنْهُمَا " .
وقد تلقى هذا الكلام عن الفضيل رحمه الله بالقبول عامة أهل العلم والسنة ، وجعلوه من جليل الكلام ؛ إلا أنه ليس معناه على ما ظنه السائل ، كما وجهه بذلك أهل العلم ، بل هو في باب آخر : أن يعرض له العمل من الخير ، فيتركه ، يتحسَّن بذلك الترك أمام الناس .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" ومعنى كلامه رحمه الله تعالى: أن من عزم على عبادة ، وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مراء ، لأنَّه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب ، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة ... فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل " انتهى من " شرح الأربعين " .
وقال ابن علان رحمه الله :
" وقرره الشيخ زكريا ـ يعني : الأنصاري ـ على وجه لطيف ، فقال : ترك العمل لأجل الناس : رياء ، من حيث يتوهم منهم أنهم ينسبونه إلى الرياء ، فيكره هذه النسبة ، ويحب دوام نظرهم له بالإخلاص ، فيكون حراما بتركه محبة لدوام نسبته للإخلاص ، لا للرياء " انتهى من " الفتوحات الربانية " (1/70) .
وقال الشيخ محمد بن مصطفى ، أبو سعيد الخادمي رحمه الله :
" ( وَقَدْ يَتْرُكُهُمَا ) أَيْ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ ( لَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الرِّيَاءِ ) أَيْ لِئَلَّا يَنْسُبَهُ أَحَدٌ إلَى الرِّيَاءِ ( وَيُقَالُ إنَّهُ مُرَاءٍ ) فَيَتْرُكُ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ( وَهَذَا عَيْنُ الرِّيَاءِ ) لِأَجْلِ النَّاسِ وَأَنَّهُ إذَا صَحَّ مُعَامَلَتُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَيِّرْ فِي الْوَحْدَةِ وَالْخُلْطَةِ ( لِأَنَّهُ تَرَكَ ) إيَّاهُمَا ( خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ .. ) " انتهى من " بريقة محمودية " (2/160) .
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله :
" مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ : أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا ، خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ !!
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي : عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ ، وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ ، بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، قَالَ : فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ : لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ . انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ : فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ ، فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْلِصًا : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ : مُرَاءٍ ، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ ، فَقَالَ : إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعِبَادَةَ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحَسُّوا مِنْ نُفُوسِهِمْ بِنَوْعِ تَزَيُّنٍ فَقَطَعُوا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِ الْأَعْمَشِ كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ " انتهى من " الآداب الشرعية " (1/266) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (91763) ، وجواب السؤال رقم : (188050) ، وجواب السؤال رقم : (121553) .
رابعا :
مدار الحال فيمن ترك إنكار المنكر : على نيته ومقصده ، فإن تركه تزينا عند الناس بتركه ، وحفظا لمكانته عندهم ، أو حرصا على أن يقال عنه : إنه مخلص ، أو نحو من ذلك : فهذا من الرياء ، وهذا هو الذي تكلم عنه الفضيل بن عياض ، كما سبق .
وأما إن تركه ضعفا ، أو خوفا ، أو نحو ذلك ، فهذا هو وإن كان حاله مذموما ، إلا أنه لا يبلغ به الشرك ، ولا الرياء ؛ بل حاله كحاله غيره ممن ترك الواجب الشرعي عليه ، مع القدرة عليه .
وأما من تركه مراعاة لمصلحة شرعية معتبرة : فهذا لا حرج عليه ، بل هو بحسب اجتهاده ، وما ترجح عنده .
قال علماء اللجنة :
" قوله : " إن ترك العمل من أجل الناس رياء " ليس على إطلاقه ، بل فيه تفصيل ، والمعول في ذلك على النية ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) مع العناية بتحري موافقة الشريعة في جميع الأعمال .
فإذا وقع للإنسان حالة ترك فيها العمل الذي لا يجب عليه ؛ لئلا يظن به ما يضره فليس هذا من الرياء ، بل هو من السياسة الشرعية ، وهكذا لو ترك بعض النوافل عند بعض الناس خشية أن يمدحوه بما يضره أو يخشى الفتنة به ، أما الواجب فليس له أن يتركه إلا لعذر شرعي " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى " (1/768-769) .
خامسا :
إذا قدر أن العبد ترك إنكار المنكر : إما لعجزه ، أو ضعفه ، أو لمصلحة شرعية ترجحت لديه ، أو غير ذلك ، فإن أضعف مراتب الإنكار : أن يكون ذلك بقلبه ، وهذا يستلزم منه ألا يجامع المنكر في مكانه ، بمعنى ألا يقعد في المكان الذي يُعصَى الله فيه ، وهو يقدر على مفارقته ، من غير عذر شرعي معتبر .
ثم إن الحكم في ذلك : يختلف باختلاف حال المنكر المعين ، فالذي يقعد في مكان يكفر فيه بالله عز وجل ، ويشرك به ، ويستهزأ بآياته ، ليس كمن يقعد في مكان يشرب فيه الدخان ، أو يستمع فيه إلى الغناء .
والمكان الذي يشيع فيه مثل هذا المنكر ، ليس في المكان الذي يقل فيه ، وهكذا ، وهي مراتب من فقه العمل ، وفقه الأمر والنهي ، والموفق من سدده الله ، واستضاء في كل ذلك بنور العلم والحكمة .
قال الله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) النساء/ 140 .
قال النحاس رحمه الله في " إعراب القرآن " (1/ 244) :
" فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأنّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضى بالكفر كفر " انتهى .
وقال القرطبي رحمه الله :
" فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ َ: (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) . فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ " انتهى من " تفسير القرطبي " (5/418) .
وانظر للفائدة إلى جواب السؤال رقم : (96662) ، وجواب السؤال رقم : (101639) ، وجواب السؤال رقم : (13217) ، وجواب السؤال رقم : (65551) .
والله أعلم .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم