هل المصائب كفارات أم عقوبات؟!

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2025-02-14 - 1446/08/15 2025-02-23 - 1446/08/24
عناصر الخطبة
1/في أقدار الله حكم عظيمة 2/من قواعد الابتلاء بالمصائب 3/علامة تمييز الابتلاء من العقوبة

اقتباس

وتأمل في حالِ نبيِ اللهِ يوسفَ -عليهِ السلامُ- كيفَ مرَ بمصائبَ ومصاعبَ منذُ طفولتهِ، في حسدِ إخوتهِ، ثم بالرميِ في الجبِ والسجنِ، وفتنِ الرقِ وشهوةِ الفرجِ والمالِ والمنصبِ، وفي النهايةِ يعترفُ لربهِ بلطفهِ وعلمهِ وحكمتهِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يفعلُ ما يشاءُ ويَحكمُ ما يُريدُ، يُعطِي ويمنعُ، ويخفِضُ ويرفعُ، (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[هود: 56]، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

 

أما بعدُ: فاتقُوا اللهَ حقَ تقواهُ؛ فإن مَن اتقَى اللهَ حفظهُ ووقاهُ.

 

أيُها المؤمنونَ: للهِ حِكَمٌ دقيقةٌ لطيفةٌ، تُحيِّرُ الألبابَ لدقةِ لطفهِ، وكمالِ علمهِ، وتمامِ حكمتهِ، ومن هذهِ الحِكمِ ما ينِدُّ عن فهمِ أكثرِنا، بل منها ما لا يُدركهُ أحدٌ من الخلقِ، وما سمَى اللهُ نفسَه بـ "الحكيمِ" إلا لدقةِ مقاصدِ ابتلائهِ الناسَ.

 

وتأمل في حالِ نبيِ اللهِ يوسفَ -عليهِ السلامُ- كيفَ مرَ بمصائبَ ومصاعبَ منذُ طفولتهِ، في حسدِ إخوتهِ، ثم بالرميِ في الجبِ والسجنِ، وفتنِ الرقِ وشهوةِ الفرجِ والمالِ والمنصبِ، وفي النهايةِ يعترفُ لربهِ بلطفهِ وعلمهِ وحكمتهِ قائلاً: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 100].

 

وإن ثمتَ أربعةُ أمورٍ مهمةٍ يجبُ إدراكُها في مقامِ الابتلاءِ بالمصائبِ:

أولاً: أن اللهَ جعلَ الذنوبَ سبباً للمصائبِ، قالَ -تعالَى-: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)[النساء: 79]، وقد تقعُ نوازلُ ومصائبُ فلا يجِدُ المصابُ سبباً يُوجِبُ نزولَ المصيبةِ، وهذا من الجهلِ والظلمِ اللذَينِ جُبِلَ عليهِما الإنسانُ؛ ولذا قالَ -تعالَى- حاكياً حالَ الصحابةِ بعدَ مصيبةِ غزوةِ أُحدٍ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 165]، فاللهُ -تعالَى- استفهمَ استفهاماً إنكارياً تعجُبياً أن يَجهلَ ذلكَ مِثلُهم، مع سَبْقِهِم في الفضلِ والعلمِ والديانةِ.

 

ثانياً: أن المصائبَ تَنزلُ بالصالحينَ أكثرَ من غيرِهم، وقد صحَ عندَ أحمدَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَقَهُ وَجَعٌ، فَجَعَلَ يَشْتَكِي وَيَتَقَلَّبُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ صَنَعَ هَذَا بَعْضُنَا لَوَجِدْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الصَّالِحِينَ يُشَدَّدُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ مُؤْمِنًا نَكْبَةٌ مِنْ شَوْكَةٍ، فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، إِلَّا حُطَّتْ بِهِ عَنْهُ خَطِيئَةٌ، وَرُفِعَ بِهَا دَرَجَةً".

 

وفي هذا تذكيرٌ وتعليمٌ لنا أن كرامةَ المنزلةِ عندَ اللهِ ليسَ بسلامةِ الدنيا، بل بسلامةِ الآخرةِ، بل قد يُصابُ أحدُنا بمصيبةٍ، وغيرهُ ممن هوَ أعظمُ ذنباً مصيبتُهُ أدنَى، وفي خَفاياها حكمةُ اللطيفِ الخبيرِ، ومِنَ الناسِ مَن تَنزِلُ به المصيبةُ؛ رحمةً بهِ ليرجعَ إلى ربهِ، كما في قولهِ -تعالى-: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السجدة: 21]، قالَ ابنُ عباسٍ: "الْعَذَابُ الْأَدْنَى هو المصائبُ".

 

ثالثاً: أن اللهَ قد يَخصُ بعضَ خلقهِ بنوعٍ باطنٍ من البلاءِ؛ لأنه ألْيقُ في تكفيرِ ذنبهِ، كما رُويَ في الحديثِ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا مِنَ الْعَمَلِ، ابْتَلَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُزْنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ"(مسند أحمد).

 

ومن الناسِ من تُلازِمهُ صغائرُ البلايا لطفاً من اللهِ ورحمة، ولو كانت مصيبةً واحدةً كبيرةً لما أطاقَ، وقد سألَتْ عائشةُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذهِ الآيةِ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)[النساء: 123]، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، هَذِهِ مُتَابَعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعَبْدَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّةِ، وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةُ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا، فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي ضِبْنِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الْكِيرِ"(مسند أحمد).

 

رابعاً: أن كثيراً منا يُخطئُ حين يَقتصرُ نظرُهُ إلى وجوهِ الحرمانِ والمنعِ، ولا ينظرُ لوجوهِ العطاءِ والبسطِ، فالمصيبةُ التي تُرجِعكُ إلى اللهِ خيرٌ من النعمةِ التي تُبعِدُكَ عنهُ، وفي قولهِ -تعالَى-: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)[العاديات: 6]، قالَ الحسنُ البصريُ: "هو الكفورُ الذي يَعُدُّ المصائبَ ويَنسَى نِعَمَ ربهِ".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على لُطفهِ الخفيِ، وفضلهِ الجليِ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِ الأميِ.

 

 وبعدُ: فإن قالَ قائلٌ: كيفَ أعرفُ أن اللهَ ابتلانِي لتكفيرِ سيئاتِي، أو لرفعةِ درجاتِي، وليسَ عقوبةً وانتقاماً؟!.

 

فيُقالُ: الجوابُ الجازمُ أمرُهُ إلى علامِ الغيوبِ، لكن لذلكَ علاماتٌ، قال عنها بعضُ الصالحينَ: ‌علامةُ ‌الابتلاءِ على وجهِ العقوبةِ عدمُ صبرِكَ عندَ وجودِ البلاءِ، وجزعُك وشكواكَ إلى الخلقِ، وعلامةُ الابتلاءِ تكفيراً للخطيئاتِ صبرُكَ الجميلُ من غيرِ شكوَى، ولا جزعٍ، ولا تثاقُلٍ في أداءِ الطاعاتِ، وعلامةُ أن الابتلاءَ لارتفاعِ الدرجاتِ وجوُد الرضا بقلبِكَ، وطمأنينةِ نفسِكَ، والسكونِ للأقدارِ حتى تنكشفَ.

 

ولكنْ لنحذرْ -عبادَ اللهِ- أن نجزِمَ في الحكمِ على أنفسِنا، أو على عبادِ اللهِ المبتلَينَ، بأنها تكفيرُ سيئاتٍ، أو رفعةُ درجاتٍ، أو عقوبةٌ من ربِ البرياتِ.

 

فاللهمَّ -يا حَكيمُ يا عَليمُ- اصْرِفْ عَنَّا وَاصْرِفْنَا عَنْ شَرِّ مَا قَضَيْتَ، وَاقْدُرْ لَنَا الْخَيْرَ حَيْثُ كُنَّا، ثُمَّ أَرْضِنَا بِقَضَائِكَ، اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا ومقدساتِنا. وجنودَنا وحدودَنا، اللهم وبارِكْ في عمرِ وليِّ أمرِنا ووليِ عهدِهِ، وزدْهُم عزًا وبذلاً لنصرةِ الإسلامِ، واجزِهم خيرًا على خدمةِ الحرمين ونَجدةِ المسلمينَ وراحةِ رعيتِهم، اللهم طهرِ جَنَبَاتِ المسجدِ الأقصَى من رجسِ يهودَ، وتمِّمْ نصرَكَ لأهلِ غزةَ، ربَنا لا تجعلْنا فتنةً للقومِ الظالمينَ، وأصلحْ أحوالَنا وأحوالَ المسلمينَ، اللهم باركْ أرزاقَنا وحسِّنْ أخلاقَنا، وبارِكْ في أهلِينا ومَن يلِينا، اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.

 

اللهم صلِ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.

 

المرفقات

هل المصائب كفارات أم عقوبات؟!.pdf

هل المصائب كفارات أم عقوبات؟!.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات