عناصر الخطبة
1/ معنى الزهد 2/ من أراد الزهد فعليه النظر في أمور ثلاثة 3/ من أنواع الزهد المستحب 4/ حقيقة الزهد في الدنيا 5/ أمور ليست من الزهداقتباس
وأذكِّرك أخي بأمرٍ مُتَقَرر وهو أنَّ الزُّهد -وغيره منَ الأُمُور الشرعيَّة- يُرْجَع فيه إلى النصوص الشرعية، لا إلى آراء الرجال وأحوالهم وأذواقهم، ومن المتقرر أيضًا أنَّ إمام الزاهدين في هذه الأمة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وبالأخصِّ الخلفاء الأربعة الذين أُمِرْنَا بمتابعتِهم، وكذلك الرُّسل من قبل نبيِّنا عليهم الصلاة والسلام هم القدوة في الزُّهد في الدنيا ..
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أمَّا بعدُ: فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدى هُدى محمدٍ، وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل بِدعة ضلالة.
الكلام في هذه الخطبة سيكون عن الزُّهد في الدنيا، وقَبل الدخول في الموضوع أُلْقي عليك أخي هذه الأسئلة: هل ترى أنَّك في عِداد الزُّهَّاد؟! هل ترى أنَّ الوصول لمرتبة الزُّهْد أمرٌ صعبٌ يتعذَّر عليك الوصولُ إليه؟! هل ترى أنَّ الزُّهْد كغَيره من الأمور الشرعيَّة أَدْخَل فيه بعضُ المتَعَبِّدة بأذواقهم وآرائهم ما ليس منه؟! ما هي الأشياء التي يدخل فيها الزُّهد؟! هذه الأسئلة وغيرها تجدُ إجابتها في هذه الخطبة؛ فألقِ سمعَك وكُنْ حاضرًا بذهنك.
الزهد خلاف الرغبة، يُقال: فلان زاهد في كذا، وفلان راغب فيه، والرغبة هي مِن جِنس الإرادة، فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، فكلُّ مَن لم يرغبْ في الشيء زاهدٌ فيه، والزهد له عشرات التعريفات، فكل زاهدٍ يُعرِّفه بما تميلُ نفسُه إليه، وإلى حاله ونوع زهادته، وأفضل وأجمع ما عُرِّف به الزُّهد تعريف الإمام الزاهد شيخ الإسلام ابن تيميَّة عرَّفَ الزهد بقوله: "هو ترْكُ ما لا ينفع في الآخرة".
وأذكِّرك أخي بأمرٍ مُتَقَرر وهو أنَّ الزُّهد وغيره منَ الأُمُور الشرعيَّة، يُرْجَع فيه إلى النصوص الشرعية، لا إلى آراء الرجال وأحوالهم وأذواقهم، ومن المتقرر أيضًا أنَّ إمام الزاهدين في هذه الأمة هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، وبالأخصِّ الخلفاء الأربعة الذين أُمِرْنَا بمتابعتِهم، وكذلك الرُّسل من قبل نبيِّنا -عليهم الصلاة والسلام- هم القدوة في الزُّهد في الدنيا، لكن ما خالفوا به هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- فهَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- مُقَدَّم على هَدْيهم، وزُهْدُه هو الزهد الأَكْمل.
إخوتي: الحُكم الشرعي المأمور به على سبيل الوجوب من الواجبات الشرعيَّة أو على سبيل الاستحباب من نوافل الطاعات، لا يتعلَّق به زهدٌ، فالشرع يأمرُ بفِعْله ويحضُّ عليه.
وما نُهِي عنه مِنَ المُحَرَّمات، فيُزْهَد فيها على سبيل الوجوب، وما نُهِي عنه من المكروهات، فيُسْتَحَب الزُّهْد فيه، ويدخل فيه المتشابهات، فيستحب الزهد فيها فتُتْرَك، إنْ كانت الشُّبهة قويَّة والتحريم أقرب من الكراهة، الْتَحَقَ بالزُّهد الواجب.
معاشر الإخوة: مَن أراد أنْ يزْهَدَ في الدنيا فلا بدَّ وأن ينظرَ في ثلاثة أمور:
الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها، وأنَّ لذَّاتها غير دائمة، بل يشوبها كَدَرٌ ومُنغصات، والمنَعَّم في الدنيا لو توفَّرت له أسباب الراحة، لحصل له من الآفات والعوارض التي تَعرض له ولمن يحب ما يُكدِّر عليه حياته، ويمنعه من تمام التنعُّم والراحة التامَّة.
الأمر الثاني: التذكُّر أنَّ ما كتبَه الله لك آتٍ لا مَحالة، وأنَّ زيادة الحِرْص لا تأتي بشيءٍ لم يكتبْه الله لك، فرِزْقُ الله لا يجرُّه حِرْصُ حريصٍ، ولا ترده كراهية كارهٍ، فحينما تُدْرك هذه الحقيقة حقيقة الإدراك، يحصل لك طمأنينة وراحةُ بالٍ، فتترك الحِرْصَ الزائد، ويزول عنك الوجلُ والخوف مما سيأتي.
الأمر الثالث: النظر في الآخرة وقُربها بالنسبة لكلِّ واحدٍ منَّا، فمَن مات قامتْ قيامتُه، وما أعدَّه الله لأوليائه من النعيم المقيم واللذَّات الدائمة الخالصة من الكدر، والنفوس مَجبولة على الحِرْص على القريب العاجل، وإنْ كان ناقصًا فتقدِّمه على الآجل، وإنْ كان تامًّا، فلتذكر النفْس وتحاسب على تحصيل الباقي على الفاني، على تحصيل التام على الناقص، فلنقلْ لنفوسنا: علامَ تؤثرين لذَّةً عاجلة ناقصة على لذَّة تامَّة دائمة؟! ألستِ تؤمنين بذلك وتعتقدينه حقًّا؟! فعلامَ الكَسَل والميل للشهوات المحرَّمة؟! فاصبري فأمامك الراحة التامَّة والنعيم المقيم، ورُبَّما تكونين في نهاية المضمار وأنت لا تشعرين: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205 - 207].
فهذه الأمور الثلاثة تسهِّلُ على العبد الزهدَ في الدنيا، وتثبِّت قَدَمَه في سَيْره إلى الله.
من الزُّهد المستحب الزُّهد فيما لا ينتفع به الشخص، فلا يشغل الواحد منَّا وقتَه وفِكره في أمورٍ لا تعود عليه أو على غيره بالنفْع؛ من فضول الكلام، من تَحسُّس معرفة أخبار الناس، وماذا قال فلان؟! وماذا فعَلَ عِلان؟! مع أنَّ هذه الأخبار غالبًا ستأتي الشخص من غير أن يبحثَ عنها، فإذا عوَّدتَ النفس على ترْكِ الفضول من الكلام؛ تعبُّدًا لله، وامتثالاً لقول النبي -صلى اللهم عليه وسلم-: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليَصْمُت". رواه البخاري ومسلم- سَهُل عليها الأمر، وأصبحتْ سجيَّة لها، فكم من كلامٍ نَدِمْنَا عليه، وتمنَّينا أنَّنا لم نقلْه، ويَنْدر أن نَنْدَمَ على ما لم نقلْه.
ومِن الزهد المستحب: الزهد في النظر فيما عند الناس مِن مُتَع الحياة الدنيا؛ من المآكل والمشارب، والمساكن والأثاث، فرُبَّما ترك ذلك في النفْس حسرةً وازدرى العبدُ نعمة الله عليه؛ (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131].
ورزقُ ربِّك من العلم النافع والهدى والتوفيق للخير خَيْرٌ وأبقَى، فإنْ لم تحصلْ هذه النِّعَم الدنيويَّة، فعندك خيرٌ منها في عاجلك وآجلك.
ومِن الزهد المستحَب: الزُّهد في الولايات، فلا يطلبها الشخص؛ لتحصيل العلو الدنيوي والرِّفعة عند الناس، فمن حالُه كذلك، غالبًا لا يوفَّق في القيام بها، ولا يُعان عليها، فلذا نَهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن سَمُرَة عن طلب الإمارة. رواه البخاري (6622)، ومسلم (1652).
ومن الزهد المستحب: الزُّهد في مَدْح الناس، فلا تسعَ لطلب مدْحِ الناس، أو تترك أمرًا مشروعًا؛ خوفًا من ذَمِّهم، فالذي ينفع مدحه ويشين ذَمُّه ذاك الله؛ فاحْرِص على أن تنالَ مَدْحَه.
ومن الزُّهد المستحب: الزُّهد في النفس، وهذا من أشقِّ أنواع الزُّهد، فلا ترى لنفسك حقًّا على غيرك، فتهون نفسُك في ذات الله، تذِلُّها تحبُّبًا لإخوانك المسلمين؛ الصغار والكبار، تبدؤهم بالتحيَّة، تَبش في وجوههم تَقرُّبًا لله، ترفق بهم إذا كان لك ولاية عليهم؛ لَيِّنٌ في توجيهك ونُصحك لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].
فلا تغضب لنفسك ولا تنتصر لها، ولا يمكن أن تحيا النفسُ حياة تامَّة بغير ذلك، وهذا هو هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة -رضي الله عنها-: "ما انتقمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، إلاَّ أنْ تُنْتَهك حُرمةُ الله، فينتقم لله بها". رواه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
الخطبة الثانية:
ليس المراد بالزُّهد في الدنيا أن يعتزلَ الشخصُ الدُّنيا، أو أن يكونَ صِفر اليدين؛ فلا مال ولا جاه ولا ولد، إنَّما الزُّهد في الدنيا أن لا تُساكنَ الدنيا القلبَ، بل تكون في اليد، فلا تُقَدَّم على مرضاة الله ومحبوباته، فالخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز مَلَكُوا الدنيا وهم سادة الزُّهد وأئمته.
عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن المبارَك وغيرهم من أغنياء السلف مَلَكُوا الأموال الطائلة، وهم سَادة الزُّهاد، بل زُهْد الغَني أكمل من زُهْد الفقير؛ فزُهْد الغني عن قُدرة بخلاف زُهْد الفقير.
ليس من الزهد المشروع المشي حافيًا دائمًا، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَلْبس النعال والخفاف، ويُصلِّي بها، وكذلك أصحابه، وهذا أمر مشهورٌ عنهم، ولا أكمل من هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان الاحتفاء دائمًا مستحبًّا، لفَعَله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، لكن أرشدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الاحتفاء أحيانًا، فالمشي حافيًا أحيانًا مستحبٌّ؛ فعن فضالة بن عبيد، قيل له -وكان أميرَ مصر-: "ما لي أراك حافيًا؟! قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمَرَنا أن نحتفي أحيانًا". رواه الإمام أحمد وغيره (22844)، وإسناده صحيح.
وليس من الزُّهد المشروع المداومة على لبْسِ الخَشِن من الثياب، ولبس الصوف وتَرْك لذيذِ الأطعمة؛ قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (10/ 642): "فعادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المطعم أنَّه لا يردُّ موجودًا، ولا يتكلَّف مفقودًا، ويلبس من اللباس ما تيسَّر من قُطنٍ وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحبَّ إليه".
وليس منَ الزُّهد المشروع تَرْك النكاح، وتَرْك بعض الأطعمة تعبُّدًا لله؛ فعن أَنَس أنَّ نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عَمله في السرِّ، فقال بعضُهم: لا أتزوَّج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ، فحمد الله وأثْنَى عليه، فقال: "ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا، لكني أصلِّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوَّج النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي، فليس منِّي". رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
وليس من الزهد المشروع البُعد عن النساء تعبُّدًا لله، بل الجِماع مما يُؤْجَر عليه الزوجان، ففيه من المصالح الشرعيَّة ما يَستدعي استحبابه أو وجوبَه؛ فعن سعد بن أبي وقَّاص قال: "ردَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التَّبَتُّل، ولو أَذِن له لاخْتَصَينا". رواه البخاري ومسلم.
وليس من الزهد المشروع الانقطاع عن الناس، وعَدم مُخالطتهم، والانقطاع للعبادة، فهَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- مُخالطة الناس، حتى الكفار والمنافقين، ودعوتهم وغَشيان مَجالسهم، نعم تُسْتَحبُّ العُزلة آخرَ الزمان، ووقت الفِتن، ولم يأتِ ذلك الوقت، والله أعلم.
ومن أعظم الزُّهد المذموم: الزهد في النصوص الشرعيَّة من كتاب ربِّنا وسُنة نبيِّنا، وكلام الصحابة الذين هم أعلمُ الخَلق بمراد الله ومراد رسوله، وتَرْك الاستدلال بها، والاستغناء عنها بآراء الرجال، والنظر في المصالح بزعْم الزاعم، ورُبَّما لم يكتفِ بذلك، بل ذَمَّ الواقفين عند النصوص، وازدراهم ونَعَتهم بنعوتٍ تُنَفِّرُ الناس منهم.
في الختام: لعلَّه تبيَّن لك أخي من خلال ما تقدَّم هل أنت من الزُّهاد في الدنيا أو لا؟! وعلى فرْضِ أنَّك لستَ منهم، فتستطيع أن تلحَقَ بهم -إن شاء الله-، فالزُّهد ليس مُتعسِّرًا، فضلاً عن كونه مُتعذِّرًا، فليس الزهد في عدم التمتُّع بالطيِّبات أو في تحريم ما أحلَّه الله، وليس الزُّهد بعدم امتلاك الأموال، فالزهد الحقيقي طاعة الله في الأوامر وتَرْك النواهي، وتكون الدنيا في اليد لا في القلب، فإذا تعارضتِ الدنيا مع الأوامر الشرعيَّة، قُدِّمَت الأوامر الشرعيَّة، فمن اتَّصف بذلك، فهو الزاهد حقًّا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم