عناصر الخطبة
1/ نعمة الأخوة ومكانتها 2/ حاجة الأخ لأخيه وبعض حقوقه 3/ بعض فوائد وثمرات الأخوة 4/ بعض صور عدم مراعاة حق الأخوة 5/ بعض مكدرات صفو الأخوةاقتباس
ألم تر كيف يشد الأخ ساعد أخيه ويؤازره، ويقف معه في السراء والضراء، وفي كل نائبة ومحنة وضائقة، وهو محل الثقة، ومكمن السر والستر، وهو أقرب من كل قريب، وأوثق وأودع من تودع عنده...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنعم علينا النعم، وأغدق علينا المنن، وجعلنا مسلمين حنفاء مقرين بفضله وكرمه وإحسانه، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله ومصطفاه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- ربكم وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه، تمسكوا بالدين والعقيدة الحقة، وعضوا على السنن بنواجذكم، وإياكم والمحدثات والبدع، فإنها مفسدة لدين المرء، ومضيعة لعمره ووقته.
أيها المسلمون: من متع هذه الحياة الدنيا والمنن الربانية الكريمة: أن يكون للمرء أخوة أشقاء، أو من أحد أبويه يبرهم ويبرونه، ويسعدهم ويسعدونه، ويصلهم ويصلونه، يرى فيهم أبويه أو أحدهما الذين رحلا عن هذه الحياة، فيرحمهما ببر إخوانه أبنائهما وأخواته، هم رائحة الوالدين، وذكرى الأبوين الكريمين: الأم والأب ووصيتهما.
الأخ رحم وصلة وقربى يبارك الله -تعالى- به حياة العبد، ويوسع له في رزقه، ويبسط له في عمره؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه" (رواه البخاري ومسلم)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" (رواه البخاري ومسلم).
الإخوان عضد ومعين وعون من الله -تعالى- على نوائب الدهر، وظلال يستظل به، وساعد يعتمد عليه، ألم تر كيف يشد الأخ ساعد أخيه ويؤازره، ويقف معه في السراء والضراء، وفي كل نائبة ومحنة وضائقة، وهو محل الثقة، ومكمن السر والستر، وهو أقرب من كل قريب، وأوثق وأودع من تودع عنده الأمانات والأثمان والمقيمات.
إنه عضيد أصيل لا يلين ولا يتراخى ولا يتخلى ولا يدبر ولا يتولى؛ لأنه يعلم أن أخاه جزء منه، فلا يمكن أن يتخلى المرء عن أجزائه وأعضائه.
أيها الإخوة في الله: يحتاج الأخ إلى أخيه حتى في أصعب المهمات، وأثقل النازلات، فهذا موسى -عليه السلام- يحتاج للمعاون بعد الله -تعالى-، يعينه على تبليغ رسالة ربه، ويدفع عنه بلاء القوم، ويخفف عنه قسوتهم وكبرياءهم، فيسأل ربه -عز وجل- أن يجعل له ومعه أخاه هارون وزيرا، يقول: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) [طـه: 25 - 36] فلم يطلب غير أخيه ليقينه وثقته في إخلاصه له، وبذل نفسه في نصرة أخيه؛ خاصة أنه على الهدى المستقيم: (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) [القصص: 33 - 34] (رِدْءًا) أي معيناً، فأجابه الله -تعالى-: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) [القصص: 35] نقويك به ونؤيدك.
أيها المسلمون: كم يحتاج المرء إلى المعين والمساعد خاصة في هذه الأزمان التي غلبت الدنيا على أهلها، واستولت النفوس على أصحابها، ونسيت تعاليم الديانة إلا من رحم الله، وهجرت السنن إلا من وفقه الله وثبته؟
فالأخ عضيد وسنيد بعد الله -تعالى- يوم تقل السنود، وتبخل الدنيا بالمعاون والعضيد والدليل، وهو ظلال إذا حرت الشموس، وألهبت الأوقات، وأظمأت الأزمان.
الأخ أصيل في أخوته، وصدوق في مودته، وثقة في أمانته.
حق على الأخ بر أخيه وصلته، والإحسان إليه، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمنا أن الله أمر بالإحسان إلى كل شيء فمن باب أولى أن يحسن الأخ لأخته وأخيه: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (رواه مسلم).
وحقه: أن يحترمه ويوقره صغيراً كان أو كبيراً، ويجله ويكرمه ويرشده إن كان أهلاً، وكان الأخر محتاجاً، وينصح له ويوجهه، يقول رسولنا الكريم: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فأتبعه" (رواه مسلم).
وحقه: أن يبذل له المساعدة والعون فيعينه على أمر دينه ودنياه، ويدفع عنه الضر وما يسوؤه ويكدره، وينصره إذا كان مظلوماً، ويرده عن الظلم إذا كان ظالماً، يقول رسول الله: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يديه" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصرة".
أيها المسلمون: الإخوان والأخوات نعمة كبيرة، ومنة جليلة من الله -عز وجل-، فتحتاج من يقدرها ويحوطها، ويحافظ عليها، وإذا أراد المرء أن يعرف قيمة هذه النعمة وقدرها، فلينظر إلى من كان له أخوة وأخوات ومن لا أخوة له، أو ينظر إلى أحوال من كان معه إخوة وأخوات ثم انصرفوا عنه بموت أو بسبب مطامع الدنيا وتركوه وحيداً لا يقدر على شيء؛ كأنه الملك الذي ذهب عنه جنوده وحراسه، فالأخوة نعمة تدارى وتصان وتحاط بالرعاية وتتعاهد وترحم وتحرس من المكدرات، التقى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخته من الرضاعة الشيماء بنت حليمة السعدية فاستقبلها خير استقبال وفرش لها رداءه وأجلسها عليه، وتحدث معها، وأكرمها، وأسعدها، وطيب خاطرها، وخيّرها بين البقاء معه أو العودة إلى أهلها، فاختارت أهلها.
الأخوة -أيها المسلمون-: أنس من الوحشة، وسفرة في الظلمة، وفرح في الحزن والكآبة، هي من أقوى روابط الأسر والعائلات، وأوثق عرى المجتمعات، فالمجتمعات التي تقدر الأخوة وتصونها، وتحرسها مجتمعات قوية أبية، ذات أسوار رفيعة، وأبراج عالية، لا يصل إليها ضعاف النفوس والإيمان، ولا المهازيل الأقزام، مجتمعات محروسة من الله -تعالى- للصلة والرحم المصان فيها.
أيها المسلمون: أسف شديد على أقوام لا يقدرون الأخوة ولا يعرفون قيمة الأرحام ولا يعقلون تعاليم السنّة والقرآن، أخوة مقطعة، ونعم مهملة، ولعب ولهو وغفلة عن الله وآياته، أخوة بينهم شحناء وعداوة وبغضاء، وغلظة بينه وبين أخيه ابن أمه وأبيه ما لا يعلمه إلا الله من القطيعة، خيره كله مصروف للناس، وشره كله مجموع لإخوانه، أنيسه البعيد، وقعيده الصديق، ويحرم أخاه من جلسة ولقاء، وجوه عابسة لبعضها، وقلوب غليظة على بعضها البعض، وصدور ضيقة لعبت بينهم الزوجات السيئات والأهواء والشهوات، والدنيا والطمع والغرور والشيطان، نسوا الأرحام ووصية الرحمن بصلة الرحم، والتحذير من قطيعتها.
أيها المسلمون: إن لم يكن في المرء خير لأرحامه والأقربين فلا خير فيه للأبعدين، إذا كان يبخل بالمودة والمحبة لمن هو جزء منه، ويمنع النفع عن حبيبه فلا يمكن أن ينفع الغير أو يقدم لهم خيراً ومسرة، وإذا قدمها فإنها مؤقته ومشكوك في خلوصها وصفائها، ولا تخلو من مصلحة.
لقد تألم الشاعر العربي على الأخوة الضائعة بين الإخوان، فتحسر قائلاً:
وإخوان حسبتهم دروعاً *** فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب *** لقد صدقوا ولكن عن ودادي
أيها المسلمون: الإخوان والأخوات سند وعتاد وقوة وشداد يكدر صفو الأخوة، ويعترض سيرها مكدرات ومعكرات في هذه الأزمان؛ بسبب انفتاح الناس على الدنيا، وضعف الإيمان والجهل، وإهمال ما أوصى به الله -تعالى- ورسوله في حق الأرحام، يكدر صفو الأخوة زوجات فاسقات سيئات لا يتقين الله -تعالى- ولا يراقبنه، يوغرن الصدور، ويغلظون القلوب، ويضيقون الصدور، زوجات عاثرات عثر حظهن، وقصر عن التعلم الشرعي، ومعرفة حقوق الرحم، وخطورة القطيعة، زوجات يئسن أن يعتدلن، يعتزل الأخ أخاه أو أخته، ويقطع صلتهما، ويهجر طريقهما، ومكانهما، بسبب ما امتلأ من البغضاء بفعل الزوجة حتى مات، ولقي ربه -عز وجل- وهو قاطع، لقد أفسدت عليه زوجته دينه ورحل إلى الآخرة بأكبر بلوى وأمره إلى الله -تعالى-.
إن الزوجة بالنسبة للرجل فرع وليست أصلاً، والأخ والأخت أصل ثابت، يمكن أن ترحل الزوجة وتأتي غيرها، لكن لا يمكن أن يبدل الأخ أخاه أو أخته ليأتي بأخ آخر كما هو الحال للزوجات، فلماذا يرضا العاقل بتحويل أصوله، والتخلي عنها، ويأذن لفرع وهي الزوجة تبعثر أرحامه، وتقطع أوصاله، وهي التي ما جاءت إلا الأمس، ويمكن استبدالها والإتيان بأحسن منها وأعقل.
ويكدر صفو الأخوة: مطامع دنيا؛ من مال وميراث وعطية وعقار وإيجار.
ويكدر الصفو: الجهل بالإسلام، وقلة الإيمان، ونسيان الديان، ومتابعة الشيطان، ولو كان المرء يعلم علم اليقين بمقام الأرحام، ومؤاخذة الله -تعالى- وعقابه لمن قطعها، لما تجرأ على تعد حدود الله.
إن العيش الهنيء الرغيد في هذه الحياة أن يكون المرء ملتفتاً لدينه يعمل به وأصلاً لإخوانه وأرحامه، باذلاً معروفه أولاً لهم، حبيباً معهم، يأنس باجتماعهم معه، يستوحش لفراقهم، يتألم لمرضهم، ويسعد إذا نزلت بهم العافية والسلامة.
فاتقوا الله -معشر المسلمين- وقدروا نعم الله فإن نعمة الإخوان والأخوات منّة كبيرة، فاشكروا الله عليها، برعايتها، والمحافظة عليها، وأداء حقوقها وواجباتها: إن كنتم ترجون الله والدار الآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وهدي سيد النبيين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم