عناصر الخطبة
1/من صور الإنصاف والإجحاف في الحكم على الآخريناقتباس
نَحتَاجُ إلى مِيزَانٍ ذِي كِفَّتَينِ للحُكمِ بَينَ طَائفَتينِ أو فَردينِ، فَنَضَعُ أَخطَاءَ كُلِّ طَرَفٍ في كِفَّةٍ، ثُمَّ نَنظُرُ أَيَّ الكِفَّتينِ تَميلُ، فَطَبيعَةُ الإنسَانِ الخَطأُ، كَما في الحَديثِ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"؛ فَلا يُعقَلُ أن نَأتي لِشَخصٍ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد:
قَبلَ غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- فِي سَريَّةٍ إلى نَخْلَةً، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ -وهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ-، فَقَتَلوا عَمْرَو بنَ الحَضْرَمِيِّ، وَأَسَروا اثنَينِ وأَفلَتَ وَاحِدٌ، ثُمَّ أقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي الله عنه- بِالعِيرِ وَالأَسِيرينِ إِلَى المَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ قَالَ لَهُمْ: "مَا أمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ في الشَّهْرِ الحَرَامِ"، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وعَنَّفَهُمْ إخْوَانُهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَاتَّخَذَ المُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّا حَدَثَ وَسِيلَةً لِلطَّعْنِ في المُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ، وَأَرْجَفَ اليَهُودُ والمُنَافِقونَ في المَدِينَةِ، قَصْدَ إِشْعَالِ الفِتْنَةِ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ؟)؛ أَيْ: يَسأَلُكَ النَّاسُ عَن حَكمِ القِتَالِ في الشَهرِ الحَرامِ؟، (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)؛ أَيْ: عَظِيمٌ وَكَبيرَةٌ مِنْ كَبَائرِ الذُّنُوبِ، ولَكِنْ .. (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)؛ أَيْ: عَنْ دِينِهِ وصِرَاطِهِ المُستَقيمِ، (وَكُفْرٌ بِهِ)، وَكُفرٍ باللهِ -تَعَالى-، (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)؛ أَيْ: وَكُفرٍ بالمَسجِدِ الحَرامِ، بانتِهَاكِ حُرمَتِهِ، وَعَدمِ احتِرَامِهِ وَتَعظيمِهِ، (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ)؛ أَيْ: وإخراجُ أَهلِ المَسجِدِ الحَرَامِ مِنهُ -وَهُم الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصحَابُهُ والمؤمِنونَ-، وَذَلكَ بأَذيتِهِم والتَّضييقِ عَليهم، واضطِرَارِهم إلى الخُروجِ مِنْ مَكةَ إلى المَدينةِ؛ (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)؛ أَيْ: أَعظَمُ إثمًا وَجُرمًا عِندَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ القِتَالِ في الشَّهرِ الحَرامِ، ثُمَّ قَالَ سُبحَانَهُ: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)؛ أَيْ: الفِتنةُ في الدِّينِ بالشِّركِ، وَصَدُّ النَّاسِ عَن دِينِ اللهِ، وإكرَاهُهم على الشَّركِ باللهِ، وقِتَالُهم عَلى ذَلكَ، أَكبَرُ مِن القَتلِ في الشَّهرِ الحَرامِ، فَفَرِحَ المُسْلِمُونَ، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الخَوْفِ وَالهَمِّ.
وَهَكَذَا -أَيُّهَا الأحِبَّةُ- نَحتَاجُ إلى مِيزَانٍ ذِي كِفَّتَينِ للحُكمِ بَينَ طَائفَتينِ أو فَردينِ، فَنَضَعُ أَخطَاءَ كُلِّ طَرَفٍ في كِفَّةٍ، ثُمَّ نَنظُرُ أَيَّ الكِفَّتينِ تَميلُ، فَطَبيعَةُ الإنسَانِ الخَطأُ، كَما في الحَديثِ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"؛ فَلا يُعقَلُ أن نَأتي لِشَخصٍ قَد أَخطَأَ خَطأً وَاحِداً عَلى مَن كَانَ يَسومُهُ سُوءَ العَذابِ بُكرَةً وَعَشيَّاً، ونَقُولُ لَهُ: أَنتَ المُخطِئُ، وكَانَ يَنبَغي عَليكَ أن لا تُخطيءَ أَبَداً، وَنَتنَاسى أَخطَاءَ الآخَرِ.
مَنْ ذَا الذي مَـا سَـاءَ قَط؟ *** وَمَنْ لَهُ الحُسْنى فَقَـطْ؟
واسَمعوا إلى فِرعونَ وَهوَ يَلومُ مُوسى -عَليهِ السَّلامُ- عَلى خَطأٍ وَاحدٍ، (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ)؛ يَعنِي: قَتلَ القِبْطِيِّ، (وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)؛ أَيْ: مِنَ الجَاحِدينَ لِنعمَتي، وَحَقِّ تَربيَتي، (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)؛ أَيْ: أَخطَأتُ وَمَنْ ذَا الذي لا يُخطئُ، ثُمَّ وَضَعَ أخطَاءَ فِرعونَ في الكَفَّةِ الأخرى؛ فَقَالَ: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ فَمَا هَذهِ المِنَّةُ في تَربيَتي وأَنا شَخصٌ وَاحدٌ مِنهُم، وأَنتَ قَد ظَلَمتَ شَعبَاً كَامِلاً، وَجَعَلتَهم لَكَ بِمَنزلَةِ العَبيدِ، وَعَذبتَهُم وَسَخَّرتَهُم بِأَعمَالِكَ الشَّاقَّةِ، وقَتَلتَ الكَثيرَ مِن أَطفَالِهم، فَمَا هَذَا المِيزانُ في الحَكمِ عَلى الأخطَاءِ؟.
وَأَنتَ إذا أَردَتَ أن تَحكُمَ بينَ طَائفَتينِ، فإيَّاكَ أن تَحكُمَ حتى تَنظُرَ في الكِفَّتينِ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسَائرِ المُسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إنَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الكَريمِ الوَهابِ، غَافرِ الذَّنبِ، وَقَابلِ التَّوبِ، شَديدِ العِقابِ، يُحبُّ التَّوابينَ، وَيَغفرُ للمُخطئينَ المُستغفرينَ، لا إلهَ إلا هو، إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، يَقبلُ التَّوبةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعفو عَن السَّيئاتِ، وَيَعلمُ مَا تَفعلونَ، وَنَشهدُ أنَّ مُحمدَاً َعَبدُ اللهِ وَرَسولُه، أَرسلَهُ اللهُ رَحمةً وَأَمَاناً للعَالمينَ، صَلَّى اللهُ وَسلَّمَ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، أَمَا بَعدُ:
أَيُّهَا الأحِبَّةُ: تَعَالوا الآنَ لِنُطَبِّقَ مَا ذَكرنَاهُ في الخُطبَةِ الأولى عَلى الوَاقعِ؛ فَنَقولُ: هَبْ أنَّ إخوَانَنا في فِلسطِينَ قَد أَخطَأوا كَمَا يَزعُمُ البَعضُ فِيمَا فَعَلوهُ في السَّابعِ مِن أُكتوبرَ، فَأَينَ هَذا الخَطَأُ مِن خَمسَةٍ وَسَبعينَ سَنَةٍ مِن اغتِصَابِ الأرضِ والعُدوانِ، وتَشريدِ المُواطنينَ في البُلدَانِ، وَذُلِّ الاحتِلالِ، وقَهرِ الرِّجَالِ، ومِنَ المَجَازرِ التي رَاحَ ضَحيَّتَها عَشَراتُ الآلافِ مِنَ المَدَنيينَ والنِّساءِ والأطفَالِ، ومَن انتِهَاكِ الحُقوقِ والمُقَدَساتِ، وامتِلاءِ السُّجونِ بالمِسلِمينَ والمُسلِماتِ، فَهَل لَكَ أن تَتَخَيَّلَ مُجَردَ خَيالٍ كَيفَ هو شُعورُ الأحرارِ، مَعَ عَدوٍّ يَسومُهم سُوءَ العَذابِ في الليلِ والنَّهارِ، ثُمَّ نُعَاتِبُهم عَلى تَصرُّفٍ وَاحدٍ قَد اجتَهدوا في تَقدِيرِهِ، بَعدَما يَئسوا مِن القَوانينَ الدَّوليَّةِ، والاتِفَاقَاتِ الأمَميَّةِ، والتَطبِيعَاتِ العَرَبيَّةِ، ثُمَّ يَأتي مَنْ يَلُومُهم، وهُو مُتَكئٌ عَلى أريكَتِهِ، آمنٌ في سِربِهِ، مُعَافىً في جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ، ويَنسى مَا فَعَلَ الأعداءُ المُحتَلُّونَ، (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
بَلْ إنَّ أَهلَ غَزَّةَ الذينَ مَاتَ مِنهُم الآلافُ بِسَبَبِ الأحدَاثِ، يَرونَ هَذا العَملَ عَملاً بُطُوليَّاً، وأنَّهُ لا طَريقَ إلى العِزَّةِ والنَّصرِ إلا بِالجِهادِ في سَبيلِ اللهِ -تَعالى-، وشِعَارُهم مَنْ مَاتَ مَاتَ شَهيداً، وَمَن عَاشَ عَاشَ صَابراً ثَابِتاً حَميداً.
اللَّهُمَّ إِنَّ بِإِخْوانِنا الْمَنْكُوبِينَ فِي غَزَّةَ مِنَ البَلاَءِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْتَ، وَإِنَّ بِنا مِنَ الوَهَنِ وَالتَّقْصِيرِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ، إِلَهَنا إِلَى مَنْ نَشْتَكِي وَأَنْتَ الكَرِيمُ القَادِر، أَمْ بِمَنْ نَسْتَنْصِرُ وَأَنْتَ المَوْلَى النَّاصِر، أَمْ بِمَنْ نَسْتَغِيثُ وَأَنْتَ المَوْلَى القَاهِر، اللَّهُمَّ يا مَنْ بِيَدِهِ مَفاتِيحُ الفَرَجِ فَرِّجْ عَنْ إِخْوانِنا وَاكْشِفْ ما بِهِمْ مِنْ غٌمَّةٍ، اللَّهُمَّ يا عَزِيزُ يا جَبَّارُ يا قَاهِرُ يا قَادِرُ يا مُهَيْمِنُ يا مَنْ لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماءِ، أَنْزِلْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ عَلَى اليَهُودِ الصَّهَايِنَةِ، اللَّهُمَّ يا مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ، يا مَنْ يُغَيِّرُ وَلاَ يَتَغَيَّرُ قَدْ اشْتاقَتْ أُنْفُسُنا إِلَى عِزَّةِ الإِسْلاَمِ، فَنَسْأَلُكَ نَصْراً تُعِزُّ بِهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ وَتٌذِلُّ بِهِ البَاطِلَ وَأَهْلَهُ .. يا ربَّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم