عناصر الخطبة
1/ النجاة بالاعتصام بالسنة 2/ تلازم الخوف والرجاء عند العبادة وإنزالهما محلهما 3/ الخوفُ هَدْيُ النبيِّ وسِمة أهل الإيمان 4/ حاجتنا لاستحضار الخوف عند العمل والدعوة والإفتاء 5/ نماذج لدعاة ومناهج دعوية مُمَيِّعة لأحكام الشرع 6/ الأمر الإلهي بالاستمساك بالشرع وأخذه بقوة 7/ استمساك السلف الصالح بأحكام الشرع 8/ وجوب عدم الخلط بين يسر الشريعة وتمييعهااهداف الخطبة
الدعوة للاستمساك بأحكام الشريعة والأخذ بها بقوة/ التحذير من بعض المنتسبين للدعوة المميِّعين لأحكام الشريعةاقتباس
وينبغي الحذر من الخلط بين يسر الدين وسماحة الشريعة وبين الاستمساك بها، فرق بين سماحة الشريعة وبين الاستمساك بالشريعة، فلا تناقض هنا البتة، فرْقٌ بين كون الأحكام الشرعية مراعية للفطر لا تبتغي المشقة والضرر وبين التلاعب في مفهوم النصوص الشرعية، فنبحث عن المخارج، ونلتف...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
صح في الجامع الصغير من حديث العرباض -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: " قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ".
تركتكم على البيضاء، أي: على طريقتي وشريعتي ومنهجي وسنتي، ليلها كنهارها: أي: تركتكم على بصيرة بلا غموض فيها، ليلها أبيض تماما، ليس فيه ظلام، ليلها كنهارها، فهي واضحة لا تقبل الشبهة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " فلولا أن سنته -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين تسع المؤمن وتكفيه عند الاختلاف الكثير لم يجز الأمر بذلك"، أي أمره: -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليكون لو لم نستطع أن نتمسك بها فعلا، ويقول : "من اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين".
وكان السلف، كمالكٍ وغيره، يقولون: "السنة كسفينة نوح، مَن ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق"، والزهري كان يقول: "كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة".
هذه الوصية البليغة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأمة، لنا نحن، على الرغم من خطورتها وقيمتها العظيمة ودلالاتها المهمة جدا، يجهلها من الناس من يجهلها، ويفر منها من يفر، ويلتزم بها من وفق إلى فهمها والصبر عليها، يقول -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر:32]
فالجهل بورود الموعظة أو بمقصودها مفهوم، والتأثر بها والخضوع لها أيضا مفهوم؛ ولكن، ما بال الهروب من الموعظة؟ (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر:49]
إننا -أيها الإخوة- نعبد الله بمقتضى أسمائه وصفاته كلها بلا استثناء فإذا عبدناه بمقتضى صفتي الرأفة والرحمة فلا ننسى صفتي الغضب والانتقام، ولذا فإننا نرجوه ونخافه، نرجو رحمته ونخشى عذابه، فنطيعه لأننا نحسن الظن به -جل وعلا-، ونرجوه ونجتنب معصيته لأننا لا نأمن مكره -عز وجل-: (اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:98].
وهكذا كان الصحابة، وهو ما رباهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعلموه من القرآن، يقول -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء:57]
إذاً؛ فهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويقول -سبحانه- في أنبيائه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، ويقول -تعالى- في المتقين: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة:16]، ويقول -سبحانه- في العلماء الربانيين: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9].
ولكن؛ يجب وضع الرجاء في محله الصحيح، وكذلك الخوف في محله الصحيح، فلا تغليب للرجاء عند إرادة فعل السيئة، إذا أردنا أن نفعل السيئة لا نستشعر الرحمة والعفو من الله -تعالى-، لا، بل ينبغي أن نستشعر الغضب والعقاب، وأن نغلب الخوف عند إرادة المعصية حتى ترتعد النفس.
ولا تغليب للخوف عند إرادة التوبة؛ بل تغليب للرجاء، حتى تُقبل النفس على التوبة ولا تقنط من رحمة الله.
يقول البربهاري في السنة: "واعلم أنه ما عبد الله بمثل الخوف من الله وطريق الحذر"، ويقول: "واحذر أن تجلس مع من يدعو إلى الشوق والمحبة، ومن يخلو مع النساء".
وهو هنا يقصد غلاة الصوفية وأتباعهم؛ فإن المتصوف إذا تعبد بالشوق يتهور ويقيس محبة الله -عز وجل- بمحبة العباد، فيتشوق للخالق كما يتشوق المخلوق للمخلوق، فيقع في عبادته شيء من الانحراف؛ لأنه يغلب الرجاء وينسى الخوف، مما يخالف منهج الكتاب والسنة، فلا يبالي بعد ذلك بما شرعه الله -تعالى- من ضرورة الخوف لا مجرد الرجاء.
والخوف عموما هو سمة أهل الإيمان الكُمَّل الخُلَّص من عباد الله -سبحانه وتعالى-، ففي السنن، قال أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله، أراك قد شبتَ!"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعَمَّ يتساءلون".
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاف من ربه بحق كلما قرأ آيات الوعيد وآيات الأمر بالاستقامة، (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود:112].
وفي صحيح ابن ماجة من حديث البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى -سقطت الدموع على الأرض- ثم قال: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدّوا".
وفي صحيح الترغيب من حديث عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء".
إننا اليوم أحوج ما يكون إلى مثل هذا الخوف أو إلى جزء منه على الأقل حتى نثبت على المنهج، أن نستحضر الخوف من الله -تعالى- حين إرادة الفتيا، حين إرادة الدعوة إلى الله -تعالى-، حين إرادة الوقوف على أمره ونهيه -جل وعلا-، أن نستحضرها، فأكثر الناس اليوم يشاهدون من بعض مشاهير الدعاة وبعض القنوات الدينية والنماذج المنهجية من يربي الناشئة على الاستخفاف التام بالحكم الشرعي.
ترى أحدهم على سبيل المثال متحفزا في برنامجه يجمع المراهقين والمراهقات من شباب المسلمين من اثني عشر بلداً عربياً في مكان واحد، "فِرَق عَمَل" يسميهم، شباب وفتيات في المرحلة الثانوية مختلطين سويا مع بعض! عادي! يستقبلهم في المطار الأخ لتحقيق برنامج يسميه "إنجاز"، يدربهم على فكر تكوين الشركات ومن خلاله يغرس فيهم صفة اللا مبالاة والتمرد على ثوابت الدين، باسم الدين، مع الأسف!.
وفي برنامجه من الموسيقى المحرمة، وسفر البنات الشابات بلا محرم، واختلاطهن بالشباب، وكشف العورات، باسم الإسلام! إنه يقدم قيماً مستحدثة وممتعة للإسلام في شكله الجديد!.
إن هذا الضعف والاسترخاء والتميع تجاه أحكام الإسلام ليس هو الخلُق الذي علمناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن الصحابة -رضي الله عنهم- ومن زوجاته -رضي الله عنهن-، ولا هو الوضع الذي أوصى به القرآن للتعامل مع الشرع، بل العكس تماما، فقد قال -تعالى-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12]، بقوة، لا ضعف ولا ارتخاء أبداً!.
ويقول -سبحانه-: (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ) [الأعراف:170]، يُمَسِّكُونَ -بالتشديد- مبالغة، وهو لا يُمْسِك فحسب؛ بل يُمَسِّك، ويعني اللفظ شدة الإمساك بالكتاب.
وقال أيضا -جل وعلا-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف:43]، استمسَك، أي: مسك بقوة.
هذا هو الموقف الصحيح بنص القرآن، وليس الاسترخاء والميوعة.
وينبغي الحذر من الخلط بين يسر الدين وسماحة الشريعة وبين الاستمساك بها، فرق بين سماحة الشريعة وبين الاستمساك بالشريعة، فلا تناقض هنا البتة، فرْقٌ بين كون الأحكام الشرعية مراعية للفطر لا تبتغي المشقة والضرر وبين التلاعب في مفهوم النصوص الشرعية، فنبحث عن المخارج، ونلتف حول بعض الأحكام كي نسقط التكليف، كما هو دأب المتساهلين.
ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه رسول الله فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده".
فقيل للرجل بعدما ذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك فانتفع به، قال : لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد الخاتم قيمته في نفس ذلك المؤمن! كيف وقد أخذه وقد رماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطرحه، فما عاد يشتهيه، هذا هو توقيرهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأمره ونهيه، فإذا نهى عن شيء تركوه وكرهوه، وهو التزام واضح لا هوادة فيه ولا ارتخاء ولا ميوعة.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه"، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، يحبه الله ورسوله، قال: "فتساورت لها، رجاء أن أدعى لها".
قال: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال له: "امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك"، قال: فسار علي شيئا، ثم وقف ولم يلتفت –أي: وقف وهو معطٍ ظهره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فصرخ -كي يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتِلْهُم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".
فعلي -رضي الله عنه- أخذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- على ظاهره، ولم يخض في تأويله فقال مثلاً: هو يقصد بعدم الالتفات لما قال: "لا تلتفت"، شدة العزم والتصميم مثلا والمضي، لا، ما فعل ذلك، ما دام ظاهر كلامه -صلى الله عليه وسلم- الذي هو عدم الالتفات معقولا ومحتملا ومقدورا عليه التزم بظاهره ولم يلتفت، هكذا ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته، وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وحينما خلع النبي -صلى الله عليه وسلم- نعليه في الصلاة خلع الصحابة نعالهم تأسيا ومتابعة له، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم.
فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟"، قالوا: "رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل -صلى الله عليه وسلم- أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا"، وقال:" إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما".
لم يوبخهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل أقرهم على ذلك؛ لكنه سألهم: لماذا فعلتم ذلك؟.
وهذه أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة يصفن حال نساء الصحابة -رضي الله عنهن- عند نزول آية الحجاب كيف سارعن إلى طاعة الله ورسوله، ففي سنن أبي داوود عن عائشة أنها قالت: "يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَل! لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ –أغلظها- فَاخْتَمَرْنَ بِهِ".
وأم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةٌ".
هذه الأمثلة البالغة، هذا التسليم العجيب، هذا الخضوع الكامل لأمر الله ورسوله، هل ترون فيه ذرة من تردد؟ لماذا يا ترى هم كذلك؟! أليس في هذا التسليم دليل على احترام الشرع وتوقيره؟ أليس فيه دليل على الخوف من الله -تعالى-؟ أليس فيه دليل على حب الله -عز وجل-؟ ولا يجتمع الحب والخوف إلا في هذا الموطن، موطن العبودية.
أسأل الله -تعالى- أن يخبت قلوبنا لما أنزل من الحق، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي علم الأصول -أيها الإخوة- ولن أطيل في ذلك كثيرا لأن الموضوع في الخطبة ليس تخصصيا، في علم أصول الفقه قاعدة تقول: "النكرة في سياق النفي تقتضي العموم والاستغراق".
فمثلا في حديث: "لا يصلينّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء"، قالوا: كلمة "شيء" نكرة في سياق النفي، وبالتالي لو كان على عاتقك أدنى شيء من ثوبك لزال الإثم عنك، ولو خيط واحد، ولا يخفى على أحد أن هذا -وإن كان موافقا لتلك القواعد- ليس مقصودا شرعا، لأن المعنى هو ليس على عاتقه منه شيء يستره، وهذا نفهمه عن طريق المعقول العام، فالمسألة عند الله -تعالى- ليست مجرد عبث -والعياذ بالله- بحيث يأثم من ليس على عاتقه من ثوبه خيط وينتفي الإثم لو وضع الخيط، هذا عبث ينزه الله -تعالى- عنه.
حتى إن الشيخ ابن باز رحمه الله -تعالى- لما سئل كان يرى أن الصلاة بالفانلة العلاقي ربما دخل صاحبها تحت هذا النهي، أي أنه ليس على عاتقه شيء، فلم يلتفت الشيخ إلى تلك القاعدة في علم الأصول في هذه المسألة، لأن الفقه كما قال علي -رضي الله عنه-: "فهم أعطاه الله لرجل مسلم"، فاشترط مع الفهم الإسلام، أي: التورع والنظر إلى حقيقة الحكم.
وهذا يذكرني بأحد هؤلاء الذين ينسون الورع والخوف من الله ويجعلون علم الأصول حاكما على الشرع، يجعلون علم أصول الفقه حاكما على الشرع ووسيلة لإيجاد المخارج من أجل التحايل على الحكم الشرعي لا وسيلة إلى معرفة الحكم.
كان أحدهم يناقش من خلال هذا العلم إمكانية النظر في تغليب مصلحة مسلسل الفاروق في تعريفه بعمر كمصلحة على مفاسد المسلسل، كسبّ الإله، وتعظيم الأوثان، والموسيقى، وكشف العورات، والأخطاء الشرعية الأخرى المعروفة في ذلك المسلسل. أتى بهذا العلم كي يمرر الإباحة!.
وهل يتقرب إلى الله -تعالى- بالمنكر ابتداء؟! هل تنال طاعته بمعصيته -جل وعلا-؟! الله غني، هذا المنهج البليد من بعض الدعاة المعاصرين أو العصرانيين يعجب الليبراليين؛ لأنه في نظرهم مدخل مهم إلى الحرية المزعومة التي يسعون إلى ترسيخها بالمجتمع.
في سنن الترمذي يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا فقال: "هذا سبيل الله". ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، وقرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأزل الشرك والمشركين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم