اقتباس
يحسن بالخطباء أن يكونوا على أكمل حال في أفعالهم وأقولهم، وأكثر الناس التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحافظة على ما استطاعوا من المندوبات، واجتناباً للمكروهات، وفي ذلك فوائد تعود على الممتثلين لا تحصى، وهي من بركة موافقة القول الفعل، وإتباع العلم العمل؛ فمن ذلك ..
فعل المندوبات واجتناب المكروهات:
يحسن بالخطباء أن يكونوا على أكمل حال في أفعالهم وأقولهم، وأكثر الناس التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحافظة على ما استطاعوا من المندوبات، واجتناباً للمكروهات، وفي ذلك فوائد تعود على الممتثلين لا تحصى، وهي من بركة موافقة القول الفعل، وإتباع العلم العمل؛ فمن ذلك:
1- ثبوت العلم ونماؤه وزيادته؛ ذلك أن الخطيب في خطبته يلقي على الناس علماً ينفعهم، ومن أسباب زيادة العلم وبركته العمل به؛ كما جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:«من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل»(1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«ما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده» (2)، وقال إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى:«إنه ينبغي للرجل إذا سمع شيئاً في آداب النبي أن يتمسك به»، وعلل السخاوي ذلك فقال:«ولأن ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه» (3) وقال الشعبي وإسماعيل بن إبراهيم بن مجمع ووكيع بن الجراح رحمهم الله تعالى:«كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به» (4)وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال:«العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل».(5)
2- أن العمل بالعلم زكاة له؛ كما جاء عن بشر بن الحارث أنه قال:«يا أصحاب الحديث أتؤدون زكاة الحديث؟ فقيل له: يا أبا نصر وللحديث زكاة؟ قال: نعم، إذا سمعتم الحديث فما كان فيه من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه»(6)، وعن أبي قلابة قال:«إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة ولا يكن همك أن تحدث به الناس»(7)
3- أن العمل بالعلم يدل على انتفاع صاحبه به، وظهور آثاره عليه، فيزيده ذلك قرباً من الله تعالى وخشية ومحبة، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:«كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه وفي لسانه وبصره وبره» (8) وقال أبو القاسم بن منيع:«أردت الخروج إلى سويد بن سعيد فقلت لأحمد بن حنبل يكتب لي إليه، فكتب: وهذا رجل يكتب الحديث، فقلت يا أبا عبد الله، ولزومي؟ لو كتبتَ: هذا رجل من أصحاب الحديث، قال: صاحب الحديث عندنا من يستعمل الحديث».(9)
اعمل بالسُنة ولو مرة:
قد يدعو الخطيب إلى سنة سواء كانت السنة مهجورة -وهذا أعظم أجراً لما فيه من إحياء السنن- وقد تكون السنة معمولاً بها لكن بعض الناس مقصرون فيها، وينبغي للخطيب أن يعمل بالسنة التي يدعو الناس إليها ولو مرة على الأقل؛ ليكتب من العاملين بما يقولون.
عن عمرو بن قيس الملائي أنه قال:«إذا بلغك شيء من الخبر فاعمل به ولو مرة تكن من أهله» (10)، وقال النووي رحمه الله تعالى:«ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه لقوله: وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم» (11).
وهذه طريقة السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى، ومما نقل عنهم في ذلك:
1- قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:«ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به» (12)
2- وقول أبي عبد الله محمد بن خفيف رحمه الله تعالى:«ما سمعت شيئاً من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واستعملته»(13)
3- وعن محمد بن أبي جعفر بن حمدان قال:«صلى بنا سعيد ابن إسماعيل ليلة بمسجده وعليه إزار ورداء فقلت لأبي: يا أبتاه، هو محرم؟ فقال: لا، ولكنه يسمع مني المستخرج الذي خرجته على مسلم، فإذا مرت به سنة لم يكن استعملها فيما مضى أحب أن يستعملها في يومه وليلته، وأنه سمع من جملة ما قرئ علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم في إزار ورداء، فأحب أن يستعمل هذه السنة قبل أن يصبح» (14)
العوائد وتأثيرها في العبادات:
قد يعتاد الناس في دولة أو مدينة أو قرية أو مسجد عادةَ جهلٍ تسربت إليهم فلزموها على أنها سنة وتركوا السنة، وأهل مكة في جاهليتهم ألفوا عبادة الأصنام بعد أن جلبها لهم عمرو بن لحي، فما دون عبادة الأصنام من البدع، أو هجر السنن، أو تبديل غيرها بها قد يتسرب للناس عند غلبة الجهل، وتصدر ذوي الهوى أو الجهل، وإنما تموت السنن، وتنتشر البدع بذلك.
ومن ذلك: ما أحدثه بعض الناس في الخطبة من محدثات، أو قراءة سور أو آيات مخصوصة في صلوات لم ترد بها السنة، أو هجر ما وردت به السنة مثل: ترك قراءة سورتي السجدة والإنسان فجر الجمعة، أو ترك قراءة الجمعة والمنافقون، أو الجمعة والغاشية، أو الأعلى والغاشية، ونحو ذلك، فواجب على الخطباء أن لا يجاروا الناس في أهوائهم، ولا يتبعوهم في أخطائهم، بل ينقلونهم من الخطأ إلى الصواب، ومن الجهل إلى العلم، ومن البدعة إلى السنة، وهذه مهمة المصلحين الصادقين أتباع الرسل عليهم السلام؛ فإن الله تعالى إنما بعث الرسل للناس لأجل هذا. وقد صلى رجل ممن يكتب الحديث بجنب ابن مهدي فلم يرفع يديه فلما سلم قال له:«ألم تكتب عن ابن عيينة حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة؟ قال: نعم، قال: فماذا تقول لربك إذا لقيك في تركك لهذا العام وعدم استعماله؟»(15)
إزراء الخطيب على نفسه:
من المشاهد أن الخطيب في الغالب يكون محل إعجاب الناس وثنائهم عليه؛ لأنهم يرون فيه المرشد لهم إلى ما ينفعهم، الصادق في نصحه لهم، وينقدح في أذهانهم أنه يعمل بما يقول لهم، فيكون عندهم محل توقير واحترام وغبطة؛ لما يظهر لهم من استقامته، ولا يعلمون شيئاً عن سريرته؛ ولذا يتحرج كثير من الخطباء من مدح الناس وتزكيتهم لهم، وإعجابهم بهم، فيبادرون إلى الإزراء بأنفسهم والحط منها، وقد ورد عن السلف نصوص كثيرة في الإزراء على النفس، وكسرها عن العلو والكبر، والحط عليها خشية العجب والغرور، واستقلالهم العمل الصالح ولو كان كثيراً؛ لأنه لا يوازي نعم الله تعالى عليهم؛ ولأن استقلاله يحفز لمزيد العمل، كما أن استكثاره يؤدي إلى العجب والكسل.
ويكثر في كتب الرجال وصف الواحد من السلف ومن بعدهم من الصالحين: وكان مزرياً على نفسه، ومن أمثلة إزراء السلف على أنفسهم:
1- قول أيوب السختياني رحمه الله تعالى:«إذا ذُكر الصالحون كنت عنهم بمعزل».(16)
2- وقول مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى:«لو حمدت نفسي لقليت الناس».(17) أي: هجرتهم. وقال أيضاً في دعائه بعرفة:«اللهم لا ترد الناس لأجلي».(18)
3- وقول بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى:«لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنه قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم»(19)
قال الذهبي بعد أن ساقه:«قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها»(20).
4- وقول يونس بن عبيد رحمه الله تعالى:«إني لأعد مائة خصلة من خصال البر ما في منها خصلة واحدة»(21)
5- وقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى:«لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي».(22)
ولكن في إظهار الإزراء على النفس مدخل للشيطان على العبد، فقد يريد به استمالة الناس إليه، ومدحهم به، فرغم ما يَظهر لهم من صلاحه وعبادته، وكونه قدوة للناس يُكثر من ذم نفسه فيهم، فينال مدحهم بذلك، وجاء عن الحسن رحمه الله تعالى قوله:«ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر»،(23) وكان يقال:«من أظهر عيب نفسه فقد زكاها».(24)
وتحقيق القول في ذلك أن يقال: ينبغي الإزراء على النفس وهضمها في السر لا في العلن؛ لأن ذلك من التواضع لله تعالى، والتطامن له، والاعتراف بعظيم حقه، وهذه عبادة من أجَّلِّ العبادات، والأصل في العبادات إخفاؤها ليتمحض الإخلاص، وينأى العبد بها عن الرياء، إلا إذا دعت مصلحة راجحة لإظهار ذلك، مثل:
1- أن يكون له أتباع يريد تربيتهم على التواضع وعدم الكبر بالعلم.
2- أن يرى إعجاب الناس بعلمه وعمله وسمته، ويسمع ثناءهم عليه، فيخشى من إسرافهم في ذلك، ويخاف على نفسه، فيحط منها أمامهم لأجل ذلك.
ولكن يجب عليه الحذر من الإخبار بمعاص سترها الله تعالى عليه؛ لئلا يكون من المجاهرين بها، وإنما يتكلم بالعمومات كما كان الصديق رضي الله عنه إذا مُدح يقول:«اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون».(25) وقال رجل للإمام أحمد رحمه الله تعالى:«الحمد لله الذي رأيتك.قال: اقعد إيش ذا؟ من أنا؟»(26)
3- أن يحط من نفسه ليفرَّ من ولاية أو منصب؛ كما فعل أبو جعفر الفريابي رحمه الله تعالى حين عُرض عليه القضاء فذم نفسه، وجعل يقول مزرياً عليها:«أعيذك بالله أيها الأمير، مثلي يولى القضاء؟!»(27)
4- أن يُدخل نفسه مع مجموع الناس، كقول الخطيب في خطبته إذا ذكر أهل المعاصي أو المقصرين في الطاعات: وكلنا كذلك، ومن منا يسلم من ذلك، أدعوكم وأدعو نفسي، أو أوصيكم وأوصي نفسي. فهذا كله من الإزراء على النفس واستنقاصها لكنه مع مجموع الناس فلا محذور فيه.
بل إن هذا الخطاب يقرب الخطيب من الناس، ويحببهم في قوله، وفرق بين قول الخطيب للناس: أنعم الله تعالى عليكم فلم تشكروه، ودرأ عنكم الشر فعصيتموه، وبين قوله: أنعم الله تعالى علينا فلم نشكره، ودرأ الشر عنا فعصيناه، فالصيغة الثانية أدخل الخطيب نفسه مع الناس فساواها بهم، وهذا من الإزراء المحمود، وهو أقرب إلى قبول الناس؛ لأنهم يحسون بمشاركة الخطيب لهم، وقربه منهم، وإحساسه بهم، وعدم استعلائه عليهم.
وجماع ذلك: أن يكون إزراؤه على نفسه، والحط من قدره لله عز وجل، وليس لغرض دنيوي، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:«ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل... فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله تعالى على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته...»(28)
------------------
(1) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (34).
(2) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(814).
(3) قواعد التحديث: ص359
(4) أثر مجمع بن جارية رواه البيهقي في الشعب (1798) والخطيب في اقتضاء العلم العمل (148)، وأثر الشعبي رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (816)، وأثر وكيع في أمالي ابن طاهر (47).
(5) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم(813) وجاء مثله عن ابن المنكدر في اقتضاء العلم العمل (41).
(6) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (180).
(7) رواه ابن عبد البر في الجامع لبيان العلم (755) والخطيب في اقتضاء العلم العمل (37).
(8) رواه أحمد في الزهد: ص261 والبيهقي في الشعب(1809)
(9) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (183)
(10) الباعث الحثيث 2/439
(11) الأذكار ص6، والحديث الذي ساقة في البخاري(6858) ومسلم(1337).
(12) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (184).
(13) رواه ابن عساكر: 52/406.
(14) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (185).
(15) فتح المغيث 2/360.
(16) رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ: 2/140، وأبو نعيم: 3/5-6.
(17) رواه ابن سعد 7/144، وأبو نعيم 2/210.
(18) إغاثة اللهفان:1/85.
(19) رواه البيهقي في الشعب (8252).
(20) سير أعلام النبلاء: 4 /534.
(21) رواه أبو نعيم: 3/18، والمزي في تهذيب الكمال: 32/524
(22) رواه أبو نعيم: 2/349.
(23) الآداب الشرعية: 3/446.
(24) أدب الدنيا والدين: 297.
(25) رواه ابن عساكر: 30/332.
(26) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 3/438.
(27) ترتيب المدارك، للقاضي عياض:1/507.
(28) إغاثة اللهفان:1/87- 88.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم