اقتباس
المقدِّمةُ الجيدةُ لها أثرٌ فعَّالٌ في جذب الانتباهِ لما بعدَها، وفي إثبات براعةِ المتكلمِ، وكسبِه لثقةِ السامعينَ منذُ البدايةِ، وجعلِهم يتفاعلونَ معهُ بشكلٍ أفضلَ.. بل هي...
الحمدُ للهِ كثيراً كثيراً، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالحقِّ بشيراً ونذيراً..
أمَّا بعدُ: فطالما تأملتُ الفرقَ بين افتِتاحِيَّةِ الكلامِ عندَ خطباءِ المسلمينَ وعند غيرِهِم، فإذا هيَ عندَ المسلمينَ حمدٌ وشكرٌ وثناءٌ على الله بما هو أهلهُ، مع توشِيحِيها بشيءٍ من آيات الذِّكرِ الحكيمِ، وأقوالِ سيِّدِ المرسلينِ عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ؛ فهي إذن بدايةٌ ثابتةُ (الغرضِ)، متجددةٌ المعاني واللفظِ.. بينما هي عندَ غيرِ المسلمينَ بدايةٌ مُبهمةٌ وغيرُ محددةٍ، لا يدري المتكلمُ من أين يبدأُ, ولا بأيِّ شيءٍ يستفتِحُ؛ ولذا فبدايةُ الكلامِ عندهم هي أصعبُ مراحِلهِ، حتى قال أحدُ خُطبائِهم المشهورين: "قبل دقيقتينِ من بِدء خطابي أُفضلُ لو أنَّني أُجلدُ على أن أبدأ، وبعد دقيقتينِ من البدءِ أُفضلُ أن أُقتلَ على أن أتوقف".. يقولُ ذلك لأنهُ يحمِلُ همَّاً خاصاً لافتتاحيَّةِ الكلامِ.. بينما الخطيبُ المسلمُ قد كُفيَ هذا الهمَّ تماماً، بل وتحولت المقدِّمةُ عندهُ إلى نُقطةِ تميزٍ وقوةٍ، ومصدرِ اطمئنانٍ وثقةٍ، تجعلُهُ ينطلقُ بلا تردُدٍ ولا وجلٍ، خصوصاً إذا أَحسنَ إِعدادها، وبذلَ عنايةً خاصَّةً في تجهيزها..
يقول ديفيد بيبولز: "أنت مجهولٌ لمدة دقيقتين، ثمَّ سيُفَسرُ كلَّ ما ستقولهُ لاحقاً بناءً على الانطباع الذي تمَّ تكوينهُ عنك في هذه البداية"..
إذن فالمقدِّمةُ الجيدةُ لها أثرٌ فعَّالٌ في جذب الانتباهِ لما بعدَها، وفي إثبات براعةِ المتكلمِ، وكسبِه لثقةِ السامعينَ منذُ البدايةِ، وجعلِهم يتفاعلونَ معهُ بشكلٍ أفضلَ.. بل هي مناطُ الحُكمِ على المتكلمِ، حيثُ أنَّ السامعَ في أول الخطبةِ مُتهيئٌ للنقدِ، مُتحفزٌ للحُكم على ما يسمع، حتى إذا ما بهرهُ الخطيبُ ببراعةِ استهلالهِ، وقوةِ بيانهِ، وكانت مُقدمتهُ مُحكَمةَ مؤثرة؛ فإنَّ السامعَ حينها سيُرخِي لهُ عِنانهُ، وينجذبُ لسحرِ بيانه، ويتشوقُ لبقية الموضوع.. وبذلك يتمكَّنُ الخطيبُ من الاستمرارِ بكلِّ ثقةٍ وثباتٍ..
ولذلك فالخطيبُ اللبيبُ هو من يعرفُ للافتتاحيةِ أهميتَها الكبيرة، فيُعِدُّ لها إعدادً جيدَاً، ويبذلَ لها جُهداً مضاعفاً.. وهذا ما لا يفعلهُ الكثيرون، بل إن البعضَ -وفقهم الله- غالباً ما يَسْتفتحونِ خُطبَهُم بألفاظٍ مكْررَةً، يداومون عليها في كلِّ مرةٍ، حتى أصبحت مُقدِماتُهم عاديةً مألوفة، لا تُثِيرُ فُضُولاً، ولا تجذِبُ انتباهاً، بل رُبما سَببتِ مللَاً وسرحاناً..
والمقدمةُ المتكامِلةُ عادةً ما تبدأُ بالحمد والثناءِ على الله -تعالى-، ثمَّ شهادةُ التوحيدِ وشيءٌ من تعظيم الربِّ -جلَّ وعلا-، ثم الصلاةُ على رسولهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه، والترضي عن صحابتهِ الكرامِ، ثمَّ الوصيةُ بتقوى الله -جلَّ وعلا-، وشيءٌ من الحِكم والمواعظِ والتوجيهاتِ والرقائق، تُختتمُ بآيةٍ مُناسبةٍ..
ثم المدخلُ إلى الموضوع، وهو الجزءُ الأخيرُ من المقدمة، وغرضهُ الأساس التشويقُ وإثارةُ الفضولِ وجذبُ الانتباهِ للموضوع.. وله أساليبَ متنوعةٍ، من أشهرها ما يلي:
1- أسلوبُ اللغز:
وهو أن يبدأ الخطيب حديثهُ عن أمرٍ مُبهمٍ غامِضٍ كاللغزِ، يثيرُ الفضولَ وحبَّ الاستطلاع، ويجذبُ الانتباه..
مثاله: عن عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَالَ: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: هي النَّخْلَةُ.. الخ الحديث..
مثال آخر: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إن عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ.. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ..
2- أسلوبُ العنوانِ الغامِض:
وهو قريبٌ من الأسلوبِ الأولِ، وهو أن يقدمَ الخطيبُ لموضوعة بعنوانٍ غامضٍ مبهمٍ، يحارُ السامعُ في تفسيرهِ، ويتطلعُ لمعرفته، ثم يبدأُ هو في توضيح الحقيقةِ شيئاً فشيئاً..
مثالهُ: وبعد: فحديثنا اليوم عن القاتل رقم واحد.. إنه القاتلُ الأكثرُ ضحاياً على مستوى العالم ِكُلهِ، بل على مستوى التاريخِ أجمع.. لستُ أعني الحروبَ، فالحروبُ وإن فتكت بملايين البشرِ فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الأمراضَ؛ فالأمراضُ على كثرةِ ضحاياها, فليست هي القاتل رقم واحد.. ولست أعني الحوادثَ؛ فحوادثُ السياراتِ والطائراتِ وجميعِ وسائلِ المواصلاتِ, ليست هي القاتل رقم واحد.. ولستُ أعني الجوعَ والفقرَ، ولستُ أعني الحرائقَ وحوادثَ البيوتِ, ولستُ أعني الزلازلَ والبراكينَ، وجميعَ الكوارثِ الطبيعيةِ؛ فكلُ ذلك ليس هو القاتل رقم واحد..
أتدرونَ من هو القاتل رقم واحد على مستوى العالم كُلهِ: إنَّهُ التدخينُ -يا عباد الله-..
3- أسلوبُ الأوصافِ العامةِ:
وهو قريبٌ من الأسلوبين السابقينِ أيضاً، وهو أن يبدأَ الخطيبُ كلامهُ بتقديم أوصافٍ عامةً عما سيتحدثُ عنه، لدرجةٍ يحارُ معها السامِعُ في تحديدِ الموضوعِ بدقةٍ، حتى يكونَ الخطيبُ هو الذي يُفصِحُ عن ذلك، وفي هذا من جذبِ الانتباهِ, وشدّ المتابعينَ ما فيه..
مثالهُ: حديثنا اليوم عن خُلقٍ عظيمٍ من أخلاقِ الإسلامِ الراقيةِ؛ وصِفةٍ عظيمةٍ جامِعةٍ لمكارِم الأخلاقِ، ضابطةٍ لحسنِ السّلوكِ..
خلُقٌ جميلٌ، فيه سَلامةُ العِرضِ، وراحةُ الجسَدِ، واجتلابُ المحامدِ..
صفةٌ كريمةٌ، تدلُ على أصالةِ النفسِ، وطيبِ المعدنِ، وحُسنِ التربيةِ..
صِفةٌ طالما تحدَّثَ الناسُ عنها، ومدحوها واستحسنوها، ولكنّها السلوكُ الغائبُ، والخلُقُ المفقودُ لدى الكثيرين..
خُلقٌ يحبه الله ورسوله، ويقولُ عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه"..
أظنكم عرفتموه.. إنه الرّفقُ -يا عباد الله-..
4- أسلوبُ طرحِ الأسئلةِ:
من الافتتاحياتِ المميزةِ والجذابةِ، أن يبدأَ الخطيبُ حديثهُ بطرح سؤالٍ أو أكثر لاستدراجِ الجمهورِ إلى التفكيرِ في كنهِ موضوعهِ، وشدِّ انتباهِهم لمتابعتِه للإجابةِ على تلك الأسئلةِ، حتى وإن كانت إجاباتُ تلك الأسئلةِ معروفةً عند الكثيرين..
والسنةُ النبويةُ مليئةٌ بالأمثلةِ على هذه الافتتاحياتِ الجذابةِ..
"أتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.. قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"..
"أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ؟" قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: "فإنّ أكثرَ ما يُدخلُ النَّاسَ النارَ الأجوفانِ: الفرجُ والفمُ، أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخلُ الناسَ الجنّةَ؟" قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ، قال: "فإن أكثرَ ما يُدخلُ الناسَ الجنةَ تَقْوى اللهِ وحُسْنُ الخلقِ".
"أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟" قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: "إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ".
5- أسلوبً القصةِ المثيرةِ:
الكلُّ يُحبُ سماعَ القصصِ ويتابعُ أحداثها بتلهُفٍ وشغفٍ، ولذا فلو بدأ الخطيبُ حديثهُ بقصةٍ مُشوقةٍ، تكونُ كالمدخلِ لما يُريدُ الحديثَ عنهُ، فسيضمنُ انجذابَ المتابعينَ لهُ وتفاعُلِهم معهُ.. إليكم المثال التالي:
معاشر الإخوة الكرام: في غرفةٍ رثةٍ مُتهالِكة، ليس لها سقفٌ، وإن كان لها ما يشبهُ الباب، عاشت أرملةٌ فقيرةٌ مع طفلِها الصغير.. وفي ليلةٍ شتويةٍ مُلبدةٍ بالغيوم، هطلَت أمطارٌ غزيرةٌ, لا عهدَ لهم بمثلِها.. نظرَ الطفلُ إلى أُمهِ نظرةً حائِرةً، فقد تبللت ثيابُهُ وأخذَ ينتفِضُ كالعصفور العاجزِ.. أسرعت الأمُ إلى بابِ الغرفةِ فخلعتهُ، ثم وضعتهُ بشكلٍ مائلٍ على أحدِ الجدرانِ، واسرعت تختبئُ تحتهُ هي وطفلِها الصغيرِ.. وعندما ذهبت روعةُ الموقفِ، نظرَ الطفلُ إلى أمهُ وعلى محياهُ ضِحكةٌ صافيةٌ, وقال يا أمـاه: الحمدُ للهِ أنَّ عندنا باب.. تُرى ماذا سيفعلُ الفقراءُ الذين ليس عندهم باب, إذا نزل عليهم مثل هذا المطرِ الغزير..
أيها الأحبة الكرامُ: حديثنا اليومَ عن الرضا....
6) أسلوبُ ضربِ الأمثالِ:
ضربُ الأمثالِ أيضاً يثيرُ الأذهانَ، ويزيدُ من تفاعلِ المستمعين.. انظر إلى هذا المثالِ النبويِ الكريمِ: "إنَّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، والْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمَّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"..
وكذلك..
قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم، يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درَنهِ شيءٌ". قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيءٌ . قال: "فكذلك مثلُ الصلواتِ الخمسِ، يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا"..
7- أسلوبُ (الإجمالِ قبل التفصيل):
من المقدمات الناجحة أن يقدمَ المتحدثُ لمستمعيهِ عرضاً مُجملاً لعناصر الموضوع، فيه من الغموض ما فيه، ثم يشرعُ في التفاصيل، فتكون المقدمة تهيئةً وتحفيزاً لأذهان المستمعين، وإثارةً لفضولهم.. مثالهُ من القرآن الكريم: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)..
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم