عناصر الخطبة
1/ ضرورة تأمّل الأحداث التاريخية الكبرى والاعتبار بها 2/ الهجرة النبوية من أعظم أحداث التاريخ 3/ من فوائد الهجرة النبوية 4/ ضرورة أخذ الدروس والعبر من الهجرة النبوية المباركة 5/ استنكار ما وقع من الاستهزاء الغربي بالنبي -عليه السلام-اقتباس
وإنَّ هذه الأمةَ المسلِمة خليقةٌ بأَن تأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ المددَ الذي لا ينفَد، والمَعينَ الذي لا يَنضَب، والزَّادَ الذي لا يفنَى، فتختطَّ لنفسها خطّةَ رشدٍ ومناهج سير ومعالمَ هداية وسبيل سعادة؛ إذ هيَ جَديرة بأن تبعثَ في الأمة المسلِمة اليومَ ما قد بعثَته فيها بالأمسِ مِن روحِ العِزَّة وبواعثِ السموِّ وعواملِ النصر وأسبابِ التَّمكين ..
أمّا بعد:
فيَا عبادَ الله: اتّقوا الله، واذكُروا على الدّوامِ أنَّ تصرّمَ الأعوام مؤذِنٌ بانقضاءِ الآجالِ واقترابِ الرّحيل، فلَيكُن لكم في مرورِ الأيّام حسنُ الاعتبارِ، فإنّه الباعثُ على انتهاج نهج المراجعة والمحاسبة لإقامة العِوَج وتدارك الفارط وميول الغاية من رضوان الله.
أيّها المسلمون: إنَّ الحوادِثَ والوقائع الكبرى في حياةِ الأمَم مصدرٌ حافل بالعِبَر، زاخرٌ بالمعاني، غنيّ بالعظات؛ ولذا كان الوقوف عندَها وقفاتٍ متأمِّلة ديدنَ أولي الألباب، وسبيل الأيقاظ وطريقَ الصفوة من عباد الله، الذين يبتغون بذلك الوسيلةَ إلى استخلاصِ تلك العِبر والمعانِي والعِظات؛ أملاً في تبيُّن أوضحِ المسالك للوصول إلى الغاية، وبلوغ المنزل في مأمنٍ مِنَ الزَّلل ومَنجاةٍ من العِثار.
وإذا كانت هذه الوقائع تسمو بسموِّ موضوعها، وتشرُف بشرَف صانعيها، فإنَّ ممّا لا ريبَ فيه أنّ الهجرة النبوية المباركة هي في الطليعة من هذه الحوادث؛ لتعلُّقها بأسمى رسالة وأشرف رسول.
ولا غروَ أن كان في أخبار الهجرة وذكرياتها مِن الدّروس والعبَر ما لا يكاد يحِيط به الحصر أو يستوعِبه بَيان، ففي خروجِ هذا النّبيِّ الكريم -صلوات الله وسَلامه عَليه- ومعه صاحبُه الصِّدّيق أبو بكرٍ -رضي الله عنه- مهاجِرَيْن مِن هَذا الحِمَى المبارَك، والحَرمِ الآمِن، والبلدةِ الطيِّبة، التي قال عنها صاحبُ الهجرة –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والتّرمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عَديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- وَاقفًا على الحَزْوَرَة يقول: "وَالله، إنَّك لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ الله إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ مِنكِ ما خرجتُ"، وقال عنها أيضًا فيما أخرجَه التّرمذيّ في جامعه بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّه قال: قالَ رَسول الله –صلى الله عليه وسلم- لمكّةَ: "ما أطيَبَك مِن بلدٍ وأحبَّك إليَّ، ولولاَ أنَّ قومِي أخرجوني مِنكِ ما سَكنتُ غيركِ".
في خروجِه هذا مِن مَسقط رأسِه الشريف وفيه مراتِع الصِّبا ومرابِع الشباب، وفي مُفارقة الوطنِ التي هي مِن أشدِّ العُسر الذي يتكلّفه المَرء، في كلّ ذلكَ إيثارٌ منه لرِضَا ربِّه وطاعةِ خالقِه ومولاه، وفيه رعايةٌ لمصلحة دينِه، وفيه نشرٌ لعَقيدتِه بالعمل على اتِّساعِ دائرةِ الهِداية وإزالة العقبات مِن طريقِ الدَّعوةِ؛ ليكونَ للناسِ حقُّ الاختيَار وحريّةُ القرار، امتثالاً لقولِ الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...) الآية [الكهف:29]، وفي هذا رسالةٌ واضحة من صاحب الهجرة –صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافّةً أنَّ العقيدةَ أغلى منَ الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمَى من الدِّيار، وأنَّ الإيمانَ أثمنُ منَ الأوطان؛ لأنَّه قوام الحياة وعمادُها، به تطيبُ وتَزكو وتعلو وتسمو، وفي رحابه يعبد المرء ربّه تلك العبادةَ التي هي المقصود من خلق الثقلين كما قال -عز من قائل-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58].
وحينَ عظُم الخَطبُ وأَحدَق الخطرُ ببلوغِ المشركين بَابَ الغارِ الذِي كانَ فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه -رضي الله عنه- قال أبو بكر -رضي الله عنه-: والله -يا رَسولَ الله- لو أنَّ أحدَهم نظرَ إلى موضعِ نعلَيه لرآنا، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قَولتَه تلك التي تأخذُ بمجامعِ القلوبِ، وتصوِّر الإيمانَ في أَرفعِ مَقاماتِه وأسمَى دَرجَاتِه: "يَا أبَا بَكر: مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما؟!"، وأنزَلَ سبحانَه مصداقَ ذلك في مَعرضِ التَّذكيرِ بالآلاء: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].
وأيُّ معيّةٍ -أيها الإخوةُ- تَعدِل هذه المعيّةَ؟! وأيّ قوّةٍ تكافِئ أَو تماثِل هذهِ القوّة؟! إنّها الحِصن الحَصينُ مِن كلِّ الغوائِل، والعدّة في كلِّ شِدّةٍ، والدّرع الواقي من كلِّ الشّرور، إنّها المعيّةُ الخاصّة بِالتّأييد والتّوفيقِ والحِفظِ والنّصر؛ ولذا جعَلها الله للمتّقين المحسِنين من عباده كما قال عز اسمه: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128].
وبالجملةِ فإن الهجرة النبوية الشريفةَ كانَت بحقٍّ فَتحًا مبِينًا، ونَصرًا عَزيزًا، وتمكِينًا وظهورًا لهذَا الدّينِ، وهزيمةً وذُلاًّ وصَغارًا على الكافرين.
وإنَّ هذه الأمةَ المسلِمة خليقةٌ بأَن تأخذَ من ذكرياتِ الهجرةِ المددَ الذي لا ينفَد، والمَعينَ الذي لا يَنضَب، والزَّادَ الذي لا يفنَى، فتختطَّ لنفسها خطّةَ رشدٍ ومناهج سير ومعالمَ هداية وسبيل سعادة؛ إذ هيَ جَديرة بأن تبعثَ في الأمة المسلِمة اليومَ ما قد بعثَته فيها بالأمسِ مِن روحِ العِزَّة وبواعثِ السموِّ وعواملِ النصر وأسبابِ التَّمكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين) [الأنفال:30]، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين)، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين).
نفعنِي الله وإيَّاكم بهَديِ كتابِه وبِسنَّة نبيِّه –صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هَذا، وأَستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
إنّ الحمدَ لله، نحمَده ونَستَعينُه ونَستغفِرُه، ونَعوذ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلاَ مضِلَّ له، ومَن يضلِل فلا هَاديَ له، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لاَ شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسولُه، اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
أمّا بعد:
فيَا عبادَ الله: إنّ في العناية بالهجرة وذكرياتها خاصّة وبالسنة والسيرة الشريفة عامةً، بدوام بيان، وتَكرار مدارسةٍ، وتوجيه الأنظار إلى ما تضمّنته من شريف المعاني، وعظيم المواقف، وبديع الحِكَم، وما حفلت به من أكمل هدي، وأنفع علم، وأوضح طريق، يستبين به سموُّ هذه الرسالة، وشرفُ هذا الرسول، وجميلُ مناقبه، وجليل شمائله، وعظيمُ فضائله، وعموم المنّة على الناس كّافة ببعثته، إنّ في العناية بكلّ ذلك قيامًا ببعض حقوق هذا النبي الكريم على أمّته التي استنقذها الله به من الضلالة، وأخرجها به من الظلمات إلى النور، وهداها به سبُلَ السلام.
وفي العناية بذلك أيضًا بيانٌ مخرجٌ عن إثم الكتمان، وتبليغٌ لرسالة الله، وذودٌ عن حياض دينه، وذبٌّ عن حوزته، ومنافحةٌ عن شريعته، ودفعٌ لشُبَه المغرضين، ودحضٌ لدعاوى الحاقدين، وقذفٌ بالحقّ على باطل الشانئين المكذّبين المستهزئين، وإسفار عن وجه جمال هذا الدين وكماله، ومعالم الرحمة الشاملة التي أرسِل بها هذا النبيُّ الأكرَم –صلى الله عليه وسلم-، كما قال -عزّ من قائل-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] أي: للناس كافّةً، لكن عميَ عن هذا أولئك الذين يسعون اليوم في النّيل من شخصه الشريف، والقدح في دينه، والمسبّة لشريعته، والعيب لكتابه الذي نتلو فيه قولَ أصدق القائلين في مقام الوعيد لمن آذى رسوله وصفوتَه من خَلقه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب:57]، وقال –عز اسمه-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61].
وإنّ مما يشرح الصدورَ، ويبعث على السرور، ما وفَّق الله إليه حكومةَ هذه البلاد المباركة الطيّبة من الوقوف هذا الموقف الإسلاميّ الحازم القويّ، إظهارًا لشدّة الاستياء، وانتصارًا لنبيِّ الله –صلى الله عليه وسلم-، وتحذيرًا من مغبّةِ التمادي في هذا النهج العدائيِّ الخطير، فجزاها الله أفضلَ الجزاء، وزادها توفيقًا وبصيرة، وأعانها على كلّ عمل يرضي الله ورسولَه، ويفرح به المؤمنون، ويكون فيه الأسوةُ لأهل الإسلام قاطبةً في كلّ الديار وفي جميع الأمصار.
ألا فاتَّقوا الله -عِبادَ الله-، واعملوا على كلّ ما تكون به العناية بحقوق نبيّكم عليكم، وفي الطليعة من ذلك الاستمساكُ بسنته، والاهتداءُ بهديه، والتخلُّق بأخلاقه، والتحلِّي بشمائله، والذود عن كلِّ ذلك بحكمةٍ وعلم ورويّة وإخلاص.
واذكروا جميعًا على الدوام أنّ الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المتّقين، ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم