عناصر الخطبة
1/المقصود بتلاوة القرآن 2/مكانة القرآن ومنزلته 3/إعجاز القرآن 4/تأثير القرآن على الكفار والمجرمين وبعض القصص في ذلك 5/القرآن منهج حياة 6/ثمرات تلاوة القرآن وتعليمه والعمل به 7/العواقب الوخيمة لهجر تلاوة القرآن وترك العمل به 8/حاجة المسلم إلى الوعظ وكيفية ذلك 9/حلاوة العيش مع القرآناقتباس
إنه العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحَكَم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، جميل في فواصله، وحسن ارتباط أواخره بأوائله، وبديعُ إشاراته، و...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: لا شك أن هذا القرآن هادي البشرية ومرشدها، ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله.
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتابعوهم تلاوة وحفظاً، وفهماً وتدبراً، وعملاً، وعلى ذلك سار سائر السلف الصالح.
ومع ضعف الأمة في عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن، وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط، بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته، وترتب على ذلك ترك العمل به، أو التقصير فيه.
وقد أنزل الله القرآن وأمرنا بتدبره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه، وتركنا تدبره.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده، ففي ذلك أجر كبير، لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة، وبين الفهم والتدبر، ومن ثم العمل به من جهة أخرى.
إن تلاوة كتاب الله -تعالى- تعني تلاوته بفهم وتدبّر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك.
إن تلاوة كتاب الله لا تعني الحرص على إقامة المدّ والغنّة، ومراعاة الترقيق والتفخيم فحسب، وإنما تعني ذلك مع ترقيق القلوب، وإقامة الحدود.
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية المبالغة والحرص في تحقيق ذلك، وسوسة حائلة للقلب عن فهم مراد الله -تعالى-، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)[البقرة: 121].
أيها المسلمون: إن للقرآن أعلى حظوة لدى المسلمين، وهو عندهم ليس مجرد كتاب صلوات أو أداة نبوية أو غذاء للروح أو تسابيح روحانية فحسب، بل إنه أيضاً القانون السياسي، وكنـز العلوم، ومرآة الأجيال، إنه سلوى الحاضر، وأمل المستقبل.
يشتكي الكثير من الناس قسوةً في قلوبهم، وهاجساً لا يكاد يفارقهم، وحديث نفس يأخذهم عن صلاتهم وعباداتهم.
تتعجب من أمة ينـزل عليها شفاء من مولاها، وخطاب إيمان من خالقها، ثم تشتكي مما سبق، فمهما اخترع الأطباء، وقال الحكماء فلن يجدوا شيئًا يشرح الصدور، ويُنور القلوب، ويذهب قسوتها ويلين يابسها، ويحيي ميتها، ويوقظ نائمها، مثل القرآن الكريم.
فما أشرفه من كتاب، قارع العرب بفصاحته فأفحمهم، ونازل البلغاء ببيانه فأعجزهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا لذلك سبيلا: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، فما وجدوا طريقا: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[هود: 13].
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فما وجدوا دليلا: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23].
إنه كتاب الله، آيات منـزلة، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، أُغلقت دونه القلوب، فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر، فابتز أنفالها، كم صد المشركون عن سبيله صدا؟ ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟ واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟ فما حالهم إلا ما كما قال الله -تعالى-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[الأنبياء: 18].
نعم، هو القرآن، ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة.
نعم، هو القرآن الكريم المعجزة الخالدة لهذا الدين.
وإذا كان الأنبياء السابقون -عليهم السلام- قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم، ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم، وفناء أقوامهم، فإن الذي أوتيه محمدٌ ظلّ وسيظل معجزةً يدركها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون.
وتلك -والله- معجزةٌ تتناسب مع طبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي أخرجه مسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
لقد استطاع هذا القرآن أن يخرق قلوب الكفار في صدر الإسلام، وهم بعدُ على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم -رضي الله عنه-: "قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وذلك في وفد أسارى بدر فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلمّا بلغ الآية: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور: 35-37].
قال جبير: "فكاد قلبي يطير"[أخرجه الشيخان].
وها هو عتبة بن ربيعة ترسله قريش ليكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن ما جاء به، فكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً، وهو منصت له، فلما فرغ، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "أنصت" فقرأ عليه مطلع سورة فصلت: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[فصلتَ: 1-4] حتى بلغ قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)[فصلت: 13].
فأمسك عتبة على فم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وناشده بالرحم ورجع إلى أهله فلم يخرج، واحتبس عن قريش فترة.
وفي بعض الروايات: أنه جاء إليهم، فقال بعضهم لبعض: نقسم لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب، فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة.
يا معشر قريش: أطيعوني، واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فو الله ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ، والله إن لقوله لحلاوة، وإن أعلاه لطلاوة، وإن أسفله لمورق، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.
قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: "هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم".
وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 83].
بل تأثر مردة الجنّ الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع، فقالوا: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الجن: 1-2].
وللملائكة شأن مع القرآن؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير -رضي الله عنه- قال: "بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت -أي اضطربت- الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه -يعني اجتر ولده حت لا يطأه الفرس- رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير" قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة -أي السحابة- فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: "وتدري ما ذاك؟" قال: لا، قال: "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم".
وكذلك لا يزال القرآن يهذب النفوس، ويؤثر فيها، ويغير مسارها وحياتها، فها هو يحيل قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء صالحين، فهذا الفضيل بن عياض العالم العابد -عليه رحمة الله- حُكي في قصة توبته، أنها كانت بسبب آية من كتاب الله، فقد كان الفضيل بن عياض يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدار إليها، إذ سمع رجلاً قائماً من الليل يتهجد، ويقرأ قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16].
فلما سمعها، قال: بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن، بلى يا رب قد آن، فرجع وهو يقول: "اللهم إني تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام".
وصدق الله إذ يقول: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر: 21].
إنه العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء لما في الصدور، والحَكَم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزْل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يُدرك غورُه، بهرت بلاغتُه العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، جميل في فواصله، وحسن ارتباط أواخره بأوائله، وبديعُ إشاراته، وعجيب انتقالاته، من قصص باهرة، إلى مواعظ زاجرة، وأمثال سائرة، وحكم زاهرة، وأدلة على التوحيد ظاهرة، ومواقع تعجّب واعتبار، ومواطن تنـزيه واستغفار.
إن كان الكلام ترجيةً بسط، وإن كان تخويفاً قبض، وإن كان وعداً أبهج، وإن كان وعيداً أزعج، وإن كان دعوةً جذب، وإن كان زجراً أرعب، وإن كان موعظةً أقلق، وإن كان ترغيباً شوّق.
فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بأبدع معنى، وأعذب أسلوب، لا يَستقصي معانيه فهمُ الخلق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق، فالسعيد من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكّره، يملأ القلوب بشراً، ويبعث القرائح عبيراً ونشراً، يحيي القلوب بأوراده، ولهذا سماه الله روحاً، فقال سبحانه: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ)[غافر: 15] فسمّاه روحاً؛ لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد.
أيها المسلمون: إن هذا القرآن أُنزل ليكون منهج حياة، هي خير حياة وأسعدُها، ومرشداً إلى سبيلٍ هو أقوم سبيل وأنجحُه، يهذبُ النفوس ويزكيها ويقوِّم الأخلاق ويعليها، يقودُ من اتبعه إلى سعادة الدارين، وينجيه من شقاوة الحياتين: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طـه: 123-124].
إن الله -جل وتعالى- أراد من العباد بإنزال كتابه أن يأتمروا بأمره، وينتهوا بنهيه، ويصدِّقوا أخباره، ويوقنوا بما أخبر به من أمور الغيب، ويتخذوا من قصص الأمم الماضية المواعظ والعبر، لا ليتخذوه ظهرياً، فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، بل المقصود العمل به وفهم مراميه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
فإذا قال الله -سبحانه- في النهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)[المائدة: 51] نقول: سمعنا وأطعنا.
وعلمنا أن ولاية غير الله مَثَله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 41].
وإذا قال سبحانه في الأمر: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة: 55]. نقول: سمعنا وأطعنا.
وإذا قال سبحانه في الإخبار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 7-8].
قلنا: اللهم آمنا وأيقنا وصدقنا، ولا مبدل لكلمات الله.
وإذا سمعنا قوله سبحانه في ذكر أفعاله بالأمم المكذبة السالفة: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].
قلنا: سبحانك اللهم يا عظيم، أجرنا من عذابك، وعلِمنا أن هذا هو عاقبة الأمم المكذبة إلى قيام الساعة: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)[محمد: 10].
وإذا سمعنا قوله سبحانه في إنجاء الله للمؤمنين المتبعين لرسلهم زادنا ذلك اعتزازاً بربنا وبديننا، وثباتاً على منهجنا، ولو تسلط المتسلطون، وتجبر الجبارون: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[الصافاتَ: 171-173].
من أراد الهدى فبالقرآن: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9].
ومن أراد الغنى فبالقرآن، قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهنّ من الإبل!".
ومن أراد مضاعفة الأجور فبالقرآن، قال: "من قرأ حرفاً من كتاب الله كان له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف، وميم حرف".
ومن أراد الشفاعة فبالقرآن، قال: "يأتي القرآن شفيعاً لأصحابه، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجّان عن صاحبهم".
ومن أراد الشفاء ففي القرآن، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)[فصلت: 44].
فيا من يشتكون من عدم استقرار البيوت عليكم بالقرآن، ويا من يشتكون من القلق والوساوس عليكم بالقرآن، ويا من يشتكون من ضعف الإيمان عليكم بالقرآن: كم يوقظ القرآن ضمائرنا ولا تستيقظ؟ وكم يحذرنا ونظل نلهو ونلعب؟ وكم يبشرنا وكأن المبشَر غيرنا؟ وكم تعيينا الأمراض والعلل، ولو استشفينا بالقرآن لشفانا الله به حساً ومعنى، وصدق الله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا)[الإسراء: 82]؟
ألفاظه كعقود الدر ساطعة *** وآية لظلام الجهل أقمارُ
رقت معانيه إذ دقت لطائفه *** فأمعنت فيه ألباب وأفكارُ
كفى به لأولي الألباب تبصرة *** أن أنصفوا وبحكم العقل ما جاروا
به هدى الله أقواماً وأيدهم *** فأصبحوا وعلى المنهاج قد ساروا
احذروا شكوى محمد -صلى الله عليه وسلم- لربه من هجر قومه وأمته للقرآن: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
وتأملوا في حكمة رد الله عليه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)[الفرقان: 31].
وهكذا تكشف الآية عن عظم هجر القرآن أفراداً أو جماعات، شعوباً أو حكومات.
وإذا رأيت في مجتمعات المسلمين عدداً من المخالفات لهدي القرآن ظاهراً، وعدداً من التجاوزات لتعاليم الإسلام واضحاً، وزهداً بسنة محمد -صلى الله عليه وسلم- صراحة أو خداعاً، واستيراداً للقوانين الوضيعة، ووضعها للناس حكماً، فاعلم أن ذلك من هجر القرآن، وتذكر حينها قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
نفعني الله وإياكم بهدي ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد انتكست الأمة الإسلامية في القرون الأخيرة، وتصدّعت أركانها، وتسلط عليها أعداؤها، واستبدل الله قوتها بضعف، وعزتها بذلة، واجتماعها بفرقة وشتات، أصبحت مستباحة الحمى، مهيضة الجناح، يعبث بها العابثون، ويفسد فيها المفسدون، تنتهك حرماتها، وتسرق مقدراتها، ويُسْتوْلَى على أرضها، وتُشَتت شعوبها، وهي لا تملك حولاً ولا طولاً، في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة، أبناؤها يشردون، ودعاتها يُقَتّلون، نساؤها ترمّل، وأطفالها تُيتم، فما الذي جرى لها حتى وهنت ووصلت إلى هذا المآل ما الذي جرى حتى تُغَيّب هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها، تدبر قول الله -تعالى- في محكم التنـزيل: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)[طـه: 123-127].
إذاً هذا هو السر، وهذا هو موضع الداء، أعرضت الأمة عن شرع الله -تعالى-، وهجرت كتاب الله -عز وجل- علماً وعملاً، وأدبرت عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واستبدلتها بقوانين وضعية، واجتهادات بشرية ملفقة من الشرق والغرب، فكانت النتيجة الملموسة التي تجنيها الأجيال: التخبط والشقاء الذي نرى آثاره تزداد يوماً بعد يوم، كم ذاقت الأمة من البلاء وأصابها من الشدة، بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع الله ووحيه المنـزل؟ وكم تقلبت في ألوان وألوان من الذل والهوان؟
تأمل حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وسوف تجد حالةً من القلق وعدم الاتزان تسيطر على كثير من أجزائها، وصدق المولى -جل وعلا- إذ يقول: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الملك: 22].
إن السعادة كل السعادة والطمأنينة كل الطمأنينة، إنما هي في تعظيم شرع الله -تعالى-، واتباعه والاهتداء بهديه.
والشقاوة والتخبط كل التخبط، إنما هو في الإعراض عن شرع الله والاستهانة به وهجره، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وإذا طغى الران على القلب، وانتكس الإنسان بعبثه ولهوه، حجبه الله -تعالى- عن نور القرآن، وحال بينه وبين الهدى والحق، قال الله -تعالى-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
وقال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)[الإسراء: 45-46].
وتوعد الله -تعالى- المعرضين عن كتابه العزيز بقوله عز وجل: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].
وأما أهل الإيمان فقد وصفهم الله بقوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا)[الإسراء: 105-107].
أيها المسلمون: يحتاج المسلم بين الحين والآخر إلى من يذكّره ويعظه في نفسه، ويرقق له قلبه، ويضعه دائماً على الطريق السوي بلا إفراط ولا تفريط.
وهذا التذكير إذا قابل نفساً معتدلة، فإنها تقبل وتتأدب، ولكن هناك صنفاً آخر من المسلمين قد ابتعد كثيراً عن آداب الإسلام وأخلاقه، بل عن كثير من توحيد العبادة وما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- من المحبة والتعظيم، والخضوع والتسليم، فمثل هؤلاء لا بد لهم من قوارع ومواعظ قوية تنبههم من غفلتهم، وتخرجهم عن غيّهم، وليس أقوى من قوارع القرآن، الذي أثّر في العرب تأثيراً بالغاً ليس بنظمه المعجز فقط، بل بزواجره ونواهيه وطريقة عرض قصصه في كل سورة، لماذا لا يُصارح هؤلاء الذين استعبدتهم التقاليد، والمظاهر التافهة، وأصبحت كلماتهم وأفعالهم أبعد ما تكون عن الإسلام؟ لماذا لا يصارحون بأن ما هم فيه إنما هو من رخاوة عَقْد الدين وضعف الإيمان؟!.
إن كثيراً من الخطباء والوعاظ لا يلمس الداء ولا يضع يده على الجرح، وإنما يتكلمون من بعيد، وقد لا يفهم المخاطَب أنه هو المعنيّ بهذا الكلام مع أن هناك فرقاً بين المصارحة وبين الشدة في القول التي تؤذي السامعين، أو تجعل عندهم ردة فعل.
ومثل هؤلاء يشدد عليهم لفترة معينة، حتى يعودوا إلى الله ويؤوبوا، وعندئذ يرجع الوعظ والكلام متنقلاً بين الخوف والرجاء.
إن النفس البشرية لا يكفيها مجرد تأليف الكتب، ووضع الأنظمة، التي تقول لهم: هذا حق، وهذا باطل، أو هذا حلال، وهذا حرام، بل لا بد أيضاً من الإذعان الوجداني، والقناعة الداخلية، والتأثير النفسي.
وإن قصص القرآن وأمثاله المضروبة، وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كافية في إصلاح النفس وردعها ووضعها على الصراط المستقيم.
إن القرآن لم يأت على نسق الكتب الموضوعة، إذ ليست فيه مباحث موضوعية مرتبة لها مقاصد وأغراض في فصول وأبواب، وإنما كان القرآن مشتملاً على عدة سور، وكل سورة منه احتوت على آيات متعددة، وكل آية أو آيات في غرض، فهذه في الوعظ، وتلك للزجر، وهذه قصة، وتلك للأمر وأخرى للنهي، وهذه في العقيدة، وأخرى في الأحكام، وتلك في التشريع، وهذه في الأخلاق، وهلم جرّاً.
الحياة مع القرآن لها طعم خاص، وإحساس خاص، لا يدرك حقيقة تلك الحياة القرآنية إلا من أنار الله بصيرته فوفّقه للتأمل في آياته، والتفكّر في كلامه المنـزّل على خير خلقه، وصفوة رسله -صلى الله عليه وسلم-.
فنسأل الله -جل وتعالى- أن يجعلنا من أهل القرآن، الذين يعظمونه حق التعظيم، فيؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويحكّمونه في جميع أمورهم ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم