عناصر الخطبة
1/ من فوائد الحسنات في الدنيا 2/ من فوائد الحسنات في الآخرةاقتباس
إن من توفيق الله -تعالى- للعبد المؤمن أن يوفقه للأعمال الصالحة، ويجعله من رواد الطاعات والقربات. ولكن، هنا سؤال قد يتبادر لأذهاننا: يا ترى، هل القائم بهذه الأعمال يستفيد منها في حياته الدنيا، أم أنها مجرد أقوال وأعمال جامدة لا روح فيها ولا نعيم من ورائها؟.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي شرع لنا أعمالاً وأقوالاً تقربنا منه جل في علاه، الحمد الذي جعل سعادة القلوب وانشراح الصدور في طاعته ومحبته.
والصلاة والسلام على سيد العابدين، وإمام المتقين، الذي كانت حياته في الطاعات والقربات؛ اللهم صل وسلم على نبينا محمد الذي وجد السعادة والسرور مع ربه جل في علاه.
أما بعد: معاشر المسلمين، إن من توفيق الله -تعالى- للعبد المؤمن أن يوفقه للأعمال الصالحة، ويجعله من رواد الطاعات والقربات. ولكن، هنا سؤال قد يتبادر لأذهاننا: يا ترى، هل القائم بهذه الأعمال يستفيد منها في حياته الدنيا، أم أنها مجرد أقوال وأعمال جامدة لا روح فيها ولا نعيم من ورائها؟.
يا ترى، هل سيجد ذلك الذي يقوم لصلاته لذةً وسروراً، أم أنه يجد تعباً وضيقاً في حياته؟ هل يستوي ذلك الذي يبر والديه كالذي يعق والديه في تيسير أمور حياته ومعيشته؟ ذلك الذي يتميز بحسن الخلق مع كل الناس، هل سيجد بركةً في ماله، مثل الذي يظلم الناس ويخدعهم ويؤذيهم؟.
يا ترى، هل ستكون خاتمة ذلك الرجل صاحب الإنفاق واليد البيضاء على الفقراء والمساكين مثل خاتمة ذلك البخيل الذي لا يعرف للصدقة طريقاً ولا سبيلاً؟.
عباد الله: إن المتأمل في نصوص الكتاب والسنة يجد عدة فوائد للحسنات يحصل عليها المرء عند قيامه بها.
ومن تلك الفوائد: مضاعفة الحسنات إلى أضعاف كثيرة, وهذا من فضل الله وكرمه أن جعل الحسنات تتضاعف، وأما السيئة فلا تتضاعف, قال -تبارك وتعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
بل بلغ من الكرم الرباني أنّ من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة, فإن عملها كتبها الله وضاعفها له، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري.
ومن ثمرات الحسنات: حصول طمأنينة القلب وانشراح الصدر، وهذا شيء يلاحظه الإنسان في نفسه, أنه كلما تقرب المرء إلى ربه كلما وجد الأنس والسرور, ومصداق ذلك في كتاب ربنا, قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
وعلى العكس من ذلك، فكلما زاد المرء في السيئات كلما زادت همومه وأحزانه، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه:124].
ومن قول ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
ومن فوائد الحسنات: البركة في الرزق، والسعة فيه، وقد جاء في الحديث الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه" رواه البخاري.
وتأمل هنا أن من جاء بصلة الرحم -الذي هو واحد من الأعمال الصالحة ومن الحسنات العظيمة- كان ثوابه أن يبارك الله له في رزقه وفي عمره، كما قال العلماء في بيان معنى الحديث، فكيف بمن جاء بأعمال أخرى وحسنات أكثر؟ لا شك أن الله سيبارك له ويزيده من فضله.
ومن ثمرات الحسنات: القوة في الجسد, وتأمل في نداء هود -عليه السلام- إلى قومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52]، فانظر، كيف ذكر هود عليه الصلاة والسلام أن الاستغفار والتوبة من فوائدها القوة في الجسد.
ومما يؤكد هذا المعنى القصة التي جاءت بين علي وفاطمة -رضي الله عنهما-، وملخص القصة أن فاطمة -رضي الله عنها- أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله خادماً، فلم تجده، ووجدت عائشة -رضي الله عنها- فأخبرتها. قال علي -رضي الله عنه-: فجاءنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذنا مضاجعنا فقال: "ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين؛ فإنه خير لكما من خادم". قال علي -رضي الله عنه-: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. رواه مسلم.
فانظر هنا: كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المداومة على الذكر عند النوم سبباً للاستغناء عن الخادم؛ وذلك لأن الذكر يقوي الجسد، ويمنحه القوة والنشاط.
ومن ثمرات الطاعات: حفظ الله لصاحب الحسنات، وهذا واضح في الحديث الصحيح: "احفظ الله يحفظك" رواه أحمد والترمذي.
والمقصود من الحديث: احفظ أوامر الله بالامتثال، واحفظ محارم الله بالانتهاء، والنتيجة: يحفظك الله، أي يحفظ لك دينك، ويحفظ لك دنياك، بل وصحتك، وما تملك، بل من معاني الحفظ الرباني أن يحفظ أسرتك من كل سوء.
ومن لطيف ما يُذكر هنا أن سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- كان يقول لابنه: إني لأزيد في صلاتي من أجلك.
ومما يؤكد هذا المعنى ما جاء في سورة الكهف في قصة الغلامين، قال -تعالى-: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الكهف:82]، فعندما تتأمل في هذه القصة تجد أن الله حفظ المال لهما بسبب صلاح والدهما.
ومن ثمرات الحسنات ونتائجها: الزيادة في الخير والهداية، قال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، وقال -تعالى-: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم:76]، وقال -جل اسمه-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13]، وهذا أمر نلاحظه أن الحسنات ينادي بعضها بعضاً, وعلى العكس نجد أن السيئات ينادي بعضها بعضاً.
ومن فوائد الطاعات: محبة الله -تعالى-، وقد جاءت النصوص بإثبات محبة الله -تعالى- لبعض الأعمال والأوصاف، ومنها: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146]، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة:222]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة:42]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4]. والآيات أكثر من أن تُذكر، وأشهر من أن تُحصر، فالعاقل يحرص على أن يبادر إلى هذه الأعمال والأوصاف لكي يفوز بحب الله -تعالى- له. نسأل الله الكريم أن يجعلنا ممن فاز بحب الرحمن.
معاشر المسلمين: اعلموا أن من نتائج الحسنات تفريج الكربات والأزمات، يا ترى، كم هي الكربات والأزمات التي تنزل بنا في هذه الحياة؟ ألسنا بحاجة إلى وسيلة تخفف عنا هذه المصائب؟.
إن الحسنات والصالحات التي حفظها الله لك ستنفعك عند ورود المصائب, قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا) [الطلاق:2] وقال -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4]، وفي الحديث الصحيح: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" رواه أحمد وهو في صحيح الجامع. ولهذا؛ كلما زادت التقوى في حياتنا كلما فُزنا بالدفاع الرباني والعون الإلهي في أزمات هذه الحياة.
ومن ثمرات الحسنات: توسيع أبواب الرزق، قال -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
وكم نحن نحتاج إلى مزيد من أبواب الرزق، وخاصة في زمننا هذا المليء بالمطالب المالية، وتأتي "التقوى" لتضيف علينا جانباً كبيراً من جوانب الرزق الكريم من الرزاق جل وعلا.
ومن ثمرات الطاعات وبركاتها: استجابة الدعاء, وهذه من الكرامات التي يمنحها الله -تعالى- لأصحاب الحسنات والقربات، وقد جاءت هذه الكرامة صريحة في الحديث القدسي المشهور: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" رواه البخاري.
وهذه الاستجابة الربانية لأولئك الصالحين والعابدين إنما كانت بسبب مداومتهم على الحسنات، وملازمتهم لها، كما في ظاهر الحديث: "وما يزال"، التي تفيد الاستمرار والمداومة.
ومن فوائد الحسنات: الثبات عند المصائب والنجاة منها، وفي قصة أصحاب الكهف نجد التثبيت الرباني، فتأمل قوله -تعالى-: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) .
وفي قصة أم موسى نجد تثبيت الله لها في المصيبة التي نزلت بها عندما أراد فرعون قتل الأطفال ثم رمت بابنها موسى -عليه السلام- في البحر والتقطه آل فرعون، قال -جل وعلا- مبيناً هذا التثبيت والتأييد الرباني: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص:10]، قال البغوي -رحمه الله تعالى-: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) بالعصمة والصبر والتثبيت. اهـ
فمن أراد المزيد من التثبيت والمزيد من التأييد والرعاية من الله -جل وعلا- فليحافظ على حسناته، وليداوم عليها، وليسر على المنهج المستقيم الذي يرضي الله -تبارك وتعالى-.
عباد الله: واعلموا أن من ثمرات الطاعات: تكفير السيئات، وقد جاءت النصوص ببيان تكفير الحسنات للسيئات ومحوها لها، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) [التغابن:9]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة:9]، وقال -سبحانه وبحمده-: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114]، وفي الحديث الصحيح: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" صحيح الجامع. فيا من أزعجته الذنوب، وآلمته السيئات: انطلق إلى أبواب الحسنات لكي تمحو سيئاتك.
ومن نتائج الطاعات وخيراتها: الفوز بولاية الله ونصرته وتأييده، قال -جل وعلا-: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68]، والمراد أن الله ينصرهم، قاله القرطبي رحمه الله -تعالى-. قال العلماء: على قدر إيمانك وحسناتك تكون ولاية الله لك، وعلى قدر ما ينقص من إيمانك تنقص ولاية الله لك.
اللهم وفقنا للحسنات والطاعات، وجنبنا الذنوب والسيئات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.
عباد الله: وإن من ثمرات الحسنات و بركات الطاعات أن يفوز المرء بحسن الخاتمة، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]. وهذه الثلاث تكون عند الموت كما قال العلماء.
وعندما نتأمل في أحوال بعض الصالحين عند موتهم نرى حقيقة الخاتمة الحسنة, فمنهم من يموت وهو ساجد, وآخر يموت وهو يطوف في الحرم, ومنهم من يموت وهو صائم, وكثيرون نرى الابتسامة عليهم عند موتهم, ولا شك أن هذه من نتائج الاستقامة، ودليل على صدق العبد ومحبته وملازمته للحسنات.
اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى. اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم