عناصر الخطبة
1/تأديب النفس وتهذيبها 2/نصيحة شافية في الورع 3/ترك الانشغال بما لا يعني 4/إقحام النفس في شؤون الآخرين مذموم 5/الفرق بين النَّصيحة وبين التَّدخُّل فيما لا يعني.اقتباس
إنَّ كثيراً من الناس اليوم يَشْتَغِل بما لا يَعنيه, ويُقْحِمُ نفسَه في شؤون الآخرِين؛ من باب حُبِّ الاستطلاع؛ كسؤال فلانٍ: من أين جئتَ؟ وأين كُنت؟ وكم راتبك؟ ولماذا اشتريتَ هذه السلعة؟ ومتى تُسافر؟ ومتى تتزوَّج؟ ولماذا لَبِست هذا اللباس؟...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام الأتمَّان على خاتم الأنبياء والمرسلين, نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن رسولنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- آتاه اللهُ -تعالى- جوامِعَ الكَلِم, واختصر له الكلام اختصاراً, فكلامُه جَمَعَ المعاني الكثيرة الجليلة؛ مع أنَّ الألفاظ قليلة, ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ؛ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ"(رواه الترمذي). فهذا الحديث أصلٌ عظيم في تأديبِ النفس وتهذيبِها، وبلوغِها الكمال الخُلُقي, وصيانَتِها عن الرَّذائل والنَّقائص، وتَرْكِ ما لا جدوى فيه ولا نَفْع من الأقوال والأفعال.
والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الوَرَعَ كلَّه في هذا الحديث؛ لأنه يَعُمُّ التَّرْكَ فيما لا يعني؛ من الكلام، والنَّظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفِكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه نصيحةٌ شافِيةٌ في الوَرَع؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله-.
وهَدْي السَّلَف في الكَفِّ عمَّا لا يعنيهم, ومُحاسبةِ أنفسِهم في ذلك معروفٌ مَحْفوظ, وقد دخلوا على بعضِ الصحابة في مَرَضِه, ووجْهُه يتهَلَّل, فسألوه عن سبب تَهَلُّلِ وجهه؛ فقال: "ما من عملٍ أوثقُ عندي من خَصْلَتين: كنتُ لا أتكلَّم فيما لا يعنيني, وكان قلبي سليماً للمسلمين".
وقال مورِّق العجلي -رحمه الله-: "أمُرٌ أنا في طلبِه منذُ كذا, وكذا سنةٍ, لم أقدرْ عليه, ولستُ بتاركٍ طلبه أبداً. قالوا: وما هو؟ قال: الكفُّ عمَّا لا يعنيني".
وقال الحسنُ البصري -رحمه الله-: "علامةُ إعراضِ الله -تعالى- عن العبد؛ أنْ يجعلَ شُغْلَه فيما لا يَعْنيه". وقال الشافعي -رحمه الله-: "ثلاثةٌ تَزِيد في العقل؛ مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وتركُ الكلامِ فيما لا يعني". وقيل: "مَنْ سأل عَمَّا لا يعنيه، سمع ما لا يُرضِيه".
ودلَّ الحديث: على أنَّ الناس مُتفاوِتون في الإسلام والإيمان؛ وذلك بحسب ما يأتونه من الطاعات, وما يتركونه من المُحرَّمات, والمكروهات, وأنَّ مَنْ لم يترك ما لا يعنيه؛ فإنه مُِسيءٌ في إسلامه. والذي يُحدِّد مَجالَ العناية من عدمه: هو الشرع, وليس مطلق الهوى.
والإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه تركُ المُحَرَّمات؛ كما جاء عن أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(متفق عليه). وقال أيضاً: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(متفق عليه).
فإذا حَسُنَ الإسلامُ؛ اقتضى تَرْكَ ما لا يعني؛ مِنَ المُحرَّمات, والمُشْتبِهات, والمكروهات, وفُضولِ المُباحات, التي لا يحتاج إليها؛ فإنَّ هذا كلَّه لا يعني المُسلمَ إذا كَمُلَ إسلامُه, وبلغ درجةَ الإحسان.
وأكثر ما ينشغل به الناسُ من الأمور التي لا تعنيهم, هو في لغو الكلام. ومَنْ تأمَّل مجالسَ الناسِ ومحادثاتهم عَرَفَ ذلك جيداً, واللهُ -تعالى- نفى الخيرَ عن كثيرٍ مِمَّا يتناجى به الناس بينهم, فقال: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[النساء: 114]؛ وقال -سبحانه-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].
ولَمَّا سأل معاذٌ -رضي الله عنه- فقال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"(رواه الترمذي).
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "مَنْ عَدَّ كلامَه مِن عَمَلِه؛ قَلَّ كلامُه فيما لا ينفعه". وكثير من الناس لا يَعُدّ كلامَه من عمله, فيجازِفُ فيه. فتَرْكُ اللَّغوِ والفُضول دليلٌ على كمال إسلام المرء.
ومن فوائد الحديث: ينبغي للإنسان أنْ يُقبِلَ على الأمور التي تعنيه في دِينه ودُنياه, ويشتغل بها, ويدع ما لا يعنيه, لا في أمور دينه, ولا دنياه؛ لأنَّ ذلك أحفَظُ لوقته, وأسلَمُ لدِينه, ولو تدخَّل في أمور الناس التي لا تعنيه لَتَعِبَ, وضَيَّعَ ما يعنيه, وهذا هو غاية الخُسران والخُذلان.
فمِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ؛ تركُه ما لا يَعنيه, وفِعْلُ ما يَعنيه كلَّه, وفي ذلك فضٌل عظيم؛ حيث تُضاعَفُ له الحسنات, وتُكَفَّر عنه السيئات؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا"(متفق عليه).
فظاهِرُ الحديثِ يدل: على أنَّ المضاعفة للحسنة بِعَشْرِ أمثالِها لا بد منه, والزيادة تكون بحسب إحسانِ الإسلام, وإخلاصِ النية, والحاجةِ إلى العمل وفضلِه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: إنَّ كثيراً من الناس اليوم يَشْتَغِل بما لا يَعنيه, ويُقْحِمُ نفسَه في شؤون الآخرِين؛ من باب حُبِّ الاستطلاع؛ كسؤال فلانٍ: من أين جئتَ؟ وأين كُنت؟ وكم راتبك؟ ولماذا اشتريتَ هذه السلعة؟ ومتى تُسافر؟ ومتى تتزوَّج؟ ولماذا لَبِست هذا اللباس؟ ولا بد أنْ تشتري كذا, واختَرْ هذا اللون, واترك هذا اللون, ونحو ذلك من الفُضول المَمْقوت.
ومما لا يعني المرء؛ بل يَضُرُّه أعظَم الضَّرر: الخوض في الأغلوطات, والمسائلِ التي عابها السَّلف الصالح, وكَرِهوا الخوضَ فيها؛ كالانشغال بعلم الكلام, والفلسفة, والمَنْطِق, ونحو ذلك من العلوم الفاسدة التي حَرَفَت الناسَ عن العقيدة الصحيحة, والعلمِ الصحيح.
ولمَّا سألوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن الرُّوح؛ أنزل الله -تعالى- قولَه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء: 85], ومع ذلك؛ فقد بلغت الأقوالُ التي قِيلت في "الروح" ألفاً وثمانمائة قول.
قال الشوكاني -رحمه الله-: "حكى بعضُ المُحقِّقِين أنَّ أقوال المُخْتَلِفين في "الرُّوح" بَلَغَ إلى ثمانيةَ عشرَ مائةِ قولٍ. فانظر إلى هذا الفُضولِ الفارِغ, والتَّعَبِ العاطِل عن النفع, بَعدَ أنْ عَلِمُوا أنَّ اللهَ -سبحانه- قد استأثَرَ بِعِلْمِه, ولم يُطْلِعْ عليه أنبياءَه, ولا أَذِنَ لهم بالسُّؤال عنه, ولا البَحثِ عن حقيقته؛ فضلاً عن أُمَمِهِم المُقْتَدِين بهم. فياللهِ العَجَب! حيثُ تَبلُغُ أقوالُ أهلِ الفُضول إلى هذا الحدِّ الذي لم تَبلُغْه - ولا بَعضَه - في غيرِ هذه المسألة, مِمَّا أَذِنَ اللهُ بالكلام فيه, ولم يَسْتأثِرْ بِعِلمه".
أيها المسلمون: هناك فرقٌ بين النَّصيحة الواجبة, وبين التَّدخُّل فيما لا يعني؛ فإنَّ بعض الناس يمنعون التَّدخُّل مُطلقاً, ويقولون: "مَنْ تدخَّلَ فيما لا يعنيه؛ نال ما لا يُرضِيه"، وهذا على إطلاقه خطأ؛ فإنَّ بعض التدخلات إيجابية, وهي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومن باب النصيحةِ للأقرباء والأصحابِ وعمومِ المسلمين, فلا بأسَ من تقديم النَّصيحة المُهذَّبة بطريقةٍ حَسَنة, لا توبيخَ فيها, ولا تقريعَ, ولا اسْتِهجان, فمِثْلُ ذلك مِنْ مَحاسِن الأخلاق, وعلى المرء أنْ يُحِبَّ لأخيه المُسلم ما يُحِبُّ لنفسه, ولا يبخل عليه بالنُّصح والإرشاد, والتَّوجيه الحَسَن.
وأمَّا فَرْضُ أشياء, وإقحامُ مُقترحات, قد لا تُناسِب وأذواقَ الآخرين؛ فلا شكَّ أنه أمر مذموم, ومِنَ التَّدخُّل فيما لا يعني. فالتدخل في شؤون الناس يختلف باختلاف الأحوال, واختلاف الأشخاص, فمنه المحمود ومنه المذموم.
واللهُ -تعالى- يهدي مَنْ يشاء إلى سواءِ السَّبيل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم