عناصر الخطبة
1/ فوائد دراسة سير العظماء القدوات 2/ الأعمال الصالحة تزيد المؤمن تذللا وخشوعا 3/ نماذج من سِيَر الخَاشِعيناقتباس
فالمؤمن لا يُدِلُّ بأعماله، ولا يباهي بأفعاله، بل يخشى ويخاف، ويخشع ويتذلَّل، يجتهد وهو على وجل، ويعمل وهو في حذر، وذلك هو ديدن السلف، وهو الذي افتقده الخلف؛ فقد كانوا فرسانا بالنهار، رهبانا بالليل، قدموا لله أرواحهم، وبذلوا في سبيله أنفسهم، وصفَتْ له سرائرُهم، وأشرقت بحبه قلوبهم، ودمعت من خشيته أعينُهم؛ عملوا بالكتاب، واتبعوا الرسول، واجتهدوا في الطاعة، ومع ذلك أطار الخوفُ قلوبَهم، وأسهر الإشفاقُ أعينَهم، وأقضَّت النار مضاجعهم ..
سير العظماء تبعث الهمم، وأخبار النبلاء توقظ العزائم، وأحوال السباقين توقظ الغافلين، هنالك نماذج رفيعة، وقدوات شامخة، أخبارهم عطرة، وسيرهم مبهجة، وحياتهم مذهلة، أخمصوا البطون عن مطاعم الحرام، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام، وحفظوا الألسنة عن فضول الكلام، وصلوا بالليل والناس نيام، وصاموا فأحسنوا الصيام، فعلنا نبهج القلوب بشيء من أخبارهم، ونوقظ العزائم بتأمل لأحوالهم، ونبث في الأرجاء عبقا من عطر آثارهم.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:60-61]؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله! (والَّذين يُؤتونَ مَا آتَوْا وقُلوبُهم وجِلةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا يا بنت الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون" أخرجه الترمذي.
فانظر إلى هذا الوصف الذي وصف به المولى هؤلاء الناس، فهو وصف يثير العجب، ويبعث الاستغراب، ويدعو إلى التساؤل؛ فهم يبذلون، ويعملون، ويؤتون، ويجتهدون، ومع ذلك قلوبهم وجلة، وأفئدتهم خائفة، وكان المتوقع أنهم يعيشون بنفوس مطمئنة، وأفئدة سالية؛ فرحا بما قدموا، واتكالا على ما بذلوا، وسرورا بما عملوا.
لماذا وجلت قلوبهم، وارتعدت فرائصهم؟ لأنهم أيقنوا أنهم إلى ربهم راجعون، فهم يتذكرون هول المطلع عليه، وعظمة الموقف بين يديه، آمنوا بعظمته، وأيقنوا بجلاله، ونظروا إلى نعمه، ثم نظروا إلى أعمالهم وضآلتها، وجهودهم وقلتها، ثم هي قد لا تسلم من خلل، ولا تنجو من زلل، ولا تصفو من رياء، فكان الوجل طريقهم إلى الاطمئنان، والخوف موصلهم للأمان، والإشفاق قائدهم لرضا الخلاق، فسماهم المسارعين، ووصفهم بالسابقين.
وإن الخوف سمة المؤمنين، وعنوان المتقين، الذين وصفهم الله بقوله: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:49]، وقال تعالى عن المؤمنين في الجنة: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور:26-27]، وبيَّن أن من صفات المؤمنين أنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]، فهذا هو حال المؤمنين، وديدن المتقين، وطريق المجتهدين، وأسلوب الطائعين.
إِذَا مَا الَّليْلُ أظْلَمَ كَابَدوهُ *** فَيُسْفِرُ عنهمُ وهُمُ رُكُوعُ
أطارَ الخَوفُ نومَهُمُ فقامُوا *** وأهْلُ الأَمْنِ في الدُّنيا هُجُوعُ
فالمؤمن لا يُدِلُّ بأعماله، ولا يباهي بأفعاله، بل يخشى ويخاف، ويخشع ويتذلل، يجتهد وهو على وجل، ويعمل وهو في حذر، وذلك هو ديدن السلف، وهو الذي افتقده الخلف؛ فقد كانوا فرسانا بالنهار، رهبانا بالليل، قدموا لله أرواحهم، وبذلوا في سبيله أنفسهم، وصفَتْ له سرائرُهم، وأشرقت بحبه قلوبهم، ودمعت من خشيته أعينهم؛ عملوا بالكتاب، واتبعوا الرسول، واجتهدوا في الطاعة، ومع ذلك أطار الخوف قلوبهم، وأسهر الإشفاق أعينهم، وأقضَّت النار مضاجعهم.
ثم انظر في أحوال كثير من الناس اليوم، قلة في الطاعة، وتقصير في العبادة، ومخالفة للسنة، ومقارفة للمعاصي، ومنادمة للخطايا، ثم لا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا خوف يردع، ولا تذكر لهول المطلع!.
فإليك الآن نماذج من أحوال الخاشعين، ومقاطع من أخبار الخائفين، وروائع من سير السابقين :
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مثلَهُم *** إنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلَاحُ
كان -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلث الليل قام، فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه" رواه الترمذي وأحمد.
وكان -صلى الله عليه وسلم- كثير الصيام، وقد كان يظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائما، وكان -أحيانا- يواصل صيامه، وذلك خاصٌّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه.
وتقول عائشة -رضي الله عنها-، قام -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الليالي، فقال: "يا عائشة، ذريني أتعبد لربي"، قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها! (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191]" السلسلة الصحيحة.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- رجلا أسيفا، إذا صلى بالناس لا تكاد تسمع قراءته من كثرة بكائه، وخوفه من ربه جل وعلا.
وكان في وجه عمر خطان أسودان من كثرة البكاء، وكان يُسمع بكاؤه من آخر الصفوف؛ وسمِع قارئا يقرأ قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) [الطور:7]، فسقط مغشيا عليه، وبقي أياما مريضا يزوره الناس.
وكان إذا أظلم عليه الليل يضرب قدميه بالدرة، ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم يا عمر؟ وكان ينعس وهو قاعد، فقيل له: ألا تنام يا أمير المؤمنين؟ قال: "إذا نمت الليل ضيَّعتُ حظي مع الله، وإذا نمت النهار ضيعت رعيتي"، وحين حضرته الوفاة يقول لابنه: "ضع خدي على التراب، علَّ اللهَ أن يرى حالي فيرحمني".
بَكَى عُمَرُ الفارُوقُ خوفاً وخَشْيَةً *** وقَدْ كانَ في الأَرْضِ الإِمامَ المِثَالِيا
وَقَالَ بِصَوتِ الحُزْنِ يَا لَيْتَ أَنَّنِي *** نجَوْتُ كَفَافاً لا علَيَّ ولا لِيا
وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يصوم النهار، ويقوم الليل، وكان إذا وقف على قبر يبكي حتى تخضل لحيته من البكاء، وكان يذكر عنده الموت والجنة والنار أحيانا فلا يبكي، فسئل عن ذلك فقال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرا قط إلا القبر أفظع منه" رواه الترمذي. وقد روي عنه -رضي الله عنه- أنه ما اغتسل مرة واحدة واقفا، بل كان يغتسل جالسا، حياء من الله جل وعلا.
أما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد كان صَوَّاما قوَّاما، فارسا بالنهار، راهبا بالليل؛ صلى صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزينا مطرقا، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته، وبدأ يبكي ويبكي، ثم قال: لقد رأيت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت شيئا يشبههم، كانوا يصبحون شُعْثاً غُبْراً صُفْرَاً، بين أعينهم كأمثال ركَب المعزى من كثرة السجود، قد باتوا لله سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين.
وكان -رضي الله عنه- يستأنس بالليل وظلمته، فإذا أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضا على لحيته، ويتململ تململ الملدوغ، ويبكي بكاء الحزين، وينادي : يا ربنا! يا ربنا! يا ربنا!.
وقد وصف المتقين بقوله :ألا إنَّ عِبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة، لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافُّون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم؛ وأما النهار فظِماء حلماء، برَرَة أتقياء.
أما عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- فقد كان صائما ثم أتي بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط. قد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلَتْ لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وأتي له بعشائه -رضي الله عنه- في يوم من الأيام، وكان صائما، فقرأ قول الله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) [المزمل:12-13]، فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى.
ولما حضرت أبا هريرة -رضي الله عنه- الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال : والله ما أبكي على دنياكم، ولكن أبكي لبعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كؤود، وأنني أصبحت في صعود المهبط منه، إما إلى جنة وإما إلى نار.
أما تميم الداري -رضي الله عنه- فكان من العُبَّادِ الصُّوَّام القُوَّام، وقد قام الليلَ كُلَّه بآيةٍ واحدةٍ حتى أصبح، وهي قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21]، وقد سأله رجل عن قيامه بالليل، فغضب غضبا شديدا، ثم قال: "والله! لَركعةٌ أصليها في جوف الليل في السِّرِّ أحبُّ إليَّ مِن أن أصلِّيَ الليلَ كله ثم أقصه على الناس.
وتقول امرأة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- قد يكون في الرعية من هو أكثر صلاة وصياما من عمر، ولكن ليس فيهم من هو أشد خوفا وبكاء من عمر، كان إذا صلى العشاء الآخرة جاء إلى بيته فألقى بنفسه في محرابه فلا يزال يبكي حتى يطلع الفجر.
بكى ليلة من الليالي بكاء شديدا، فبكت زوجه لبكائه، ثم سمع أهله البكاء فبكوا كلهم لبكاء عمر، فسمع الجيران البكاء فبكوا، وهم لا يدرون ما الذي يبكي عمر ذلك البكاء، والذي كاد يودي بحياته، فلما سكن وهدأ قيل له: يا أمير المؤمنين! ما الذي أبكاك؟ فوالله لقد أشفقنا عليك! قال: تذكرت يوم القدوم على الله، ومُنْصَرَفَ الناس بين يديه، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا أدري أين يذهب بي، حتى كأن النار ما خلقت إلا له! وقيل عنه: لم يُرَ مثلُ خوفه.
وكان الحسن البصري -رحمه الله ورضي عنه- صائما، فجيء له بكوز من الماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال : ذكرت أمنية أهل النار وقولهم: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) [الأعراف:50]، وكان يقول: إن المؤمنين قوم ذلت -والله- منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم -والله- أصحاب القلوب، ألا تراه يقول: (وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ) [فاطر : 34]، ولقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا أبكاهم وأحزنهم، وهو الخوف من النار.
ويقول: والله ما صدَّق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها.
وذلك الفضيل بن عياض - رحمه الله -، يقول إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان خوف الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده، أو سمع القرآن، ظهر به خوف، وحزن شديد، وفاضت عيناه، وبكى، حتى يرحمه من يحضره ويشفق عليه؛ وكنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي بكاء شديدا، وكأنه ذاهب إلى الآخره. وكان يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة.
روي أنه رؤي يوم عرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، حتى إذا كادت الشمس أن تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: واسوأتاه منك! وإن غفرتَ!.
وكان منصور بن المعتمد -رحمه الله -محبا للصيام والقيام حتى عاتبته أمه، وقالت له: يا بني، إن لعينيك عليك حقا، فلماذا لا تنام؟ فقال لها: اتركيني، فإن بين النفختين نوما طويلا. ولقد صام ستين سنة يقوم ليلها، ويصوم نهارها.
وكان أبو عثمان النهدي -رحمه الله- صواما قواما، يسرد الصوم، ويقوم الليل ولا يتركه؛ وكان يصلي حتى يغشى عليه، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة، وكانوا يتنافسون في أعمال البر حذرا من لوم النفس عند انقطاع العمل على التقصير، قيل لمسروق -رحمه الله-: لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد. فقال: والله! لو أتاني آت فأخبرني أنه لا يعذبني لاجتهدت في العبادة، حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها، أما بلغك قول الله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2]؟ إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم فاعتنقتهم الزبانية، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورفعت عنهم الرحمة، وأقبل كل امرئ يلوم نفسه.
وكان عامر بن عبد قيس يقول : والله لأجتهدن! ثم والله لأجتهدن! فإن نجوت فبرحمة الله، وإلا لم ألم نفسي.
فهذا حال السلف الصالح، وذلك هو الطريق الرابح، أعمال جليلة، وعبادة عظيمة، وخشوع وخضوع، مع خوف ووجل وإشفاق وخشية، ولكن: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [الرعد:19-21].
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ *** عَنْ وطيءِ المَضَاجِعِ
كُلُّهُمْ بينَ خائفٍ *** مُسْتَجِيرٍ وطامِعِ
تركُوا لَذَّةَ الكَرَى *** للعُيُونِ الهَواجِعِ
ورَعَوْا أنْجُمَ الدُّجَى *** طَالِعاً بَعْدَ طَالِعِ
واسْتَهَلَّتْ عُيُونُهُم *** فَائضَاتِ المَدَامِع
وَدَعَوْا يا مَلِيكَنَا *** يَا جَمِيلَ الصَّنَائِعِ
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا *** لِلْعُيُونِ الدَّوامِعِ
اُعْفُ عَنَّا ذُنُوبَنَا *** لِلْوُجُوهِ الخواشِعِ
فلْنُشَمِّرْ ولْنجتهد، ولنعمل ولنبذل، ولنستمر على الطاعة، ولنداوم على العبادة، ولنواصل في الخير، ولنحفظ صيامنا، ولنحسن قيامنا، ولنخرج زكاتنا، ولنكثر صدقاتنا. نسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته، وأن يعمر قلوبنا بخوفه، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يؤمِّن خوفنا يوم لقياه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم