اقتباس
عبر التاريخ ظلّ منهج الاستعباد والاستبداد واحدا، وظلّت وسائل الشر واحدة والاستصغار والإذلال واحدة، لم تتغير إلا في الحجم أو السرعة أو القوة والقدرة، وتوعية الناس أو وعيهم بمنهج الطغيان في حرب الأفكار الصالحة وأصحابها أول خطوة لهزيمة الشر والباطل، فالوعي أقوى سلاح يجابه به الطغاة، وإن تحقق الوعي وشاع، سقطت رايات الظلم، فالباطل ساعة، ما اسرع انقضاءها، ولكن الناس يستعجلون..
ظلّ القرآن الكريم عبر تاريخ المسلمين المصدر الذي يستمد منه المسلمون التصورات، وكان ذلك مصدر قوتهم وعزّتهم، وباعثهم من الكسل الحضاري، ودافعهم نحو المراقي، وأدرك الكفار خطورة القرآن الكريم على كفرهم وطغيانهم، فسعوا إلى محاربته، فتداعوا إلى لقاءات وندوات سجل التاريخ الكثير منها، كان هدفها الأول والأخير إيجاد حل لحرب القرآن الكريم، ولكن هيهات، هيهات للباطل أن يطفئ النور الذي يضيء حياة المسلمين، ففشلت كل خططهم وتلاشت جهودهم، وصارت حسرة عليهم ولقد علِم المسلمون، يقول صاحب المنار في تفسيره: "والكفار في هذا الزمان ينفقون القناطير المقنطرة من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العوام، بجهاد سلمي، أعم من الجهاد الحربي، وهو الدعوة إلى أديانهم، والتوسل إلى نشرها بتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم. والمسلمون مواتون، يرسلون أولادهم إليهم ولا يبالون ما يعملون ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.. فسينفقونها في سبيل الشيطان صدا وفتنة وقتالا ثم تكون عليهم حسرة وندما وأسفا، لذهابها سدى". وكان من أسباب ذهاب جهود الكفار سدى، وعدم تمكنهم من هزيمة المسلمين تمسك المسلمين بالقرآن الكريم وجعله مصدر إنتاج الوعي والمعارف، فقد تناول أصول كل شيء في هذه الحياة، وهذا من أبرز معالم القرآن العزيز.
ومع ذلك، ومع أهمية كتاب ربنا فإن تراجع المقروئية بين المسلمين وضعف اللغة العربية جعل الكثير من المسلمين يهجرون القرآن الكريم، قراءة وتدبرا واستمدادا، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [سورة الفرقان: 30]؛ ما مكّن الكفار منهم، وغزوهم ثقافيا، خاصة أن الكثير منهم صار يستمد تصوراته عن قضايا كثيرة من خلال ما يكتبه أعداؤنا المتربصين بنا أصلا ودوما.
معالم قرآنية في الحرب على الباطل:
من معالم القوة في الخطاب القرآني: إحاطته بخطط الباطل، وكشفها وفضحها، وتأكيده على ضرورة الوعي بها؛ وقد تناول القرآن الكريم الطغيان ووسائله ومناهجه، وحض المسلمين على استمداد تصوراتهم منه في تصديهم للباطل، فهو كتاب هداية: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) [سورة البقرة:120].
فكيف يحارب الطغيان الحق وأهله؟ وما هي أساليبه؟ وكيف السبيل إلى التصدي إلى مناهج الطغاة في تدمير الشعوب والأمم وقتل الضمائر والنفوس؟
لا يمكن الإجابة في هذه الورقات عن هذا السؤال الكبير الذي تناوله الخطاب القرآني بتفصيل بديع، إلا أننا نكتفي بكشف منهج من مناهج الطغيان التي تحدث عنها القرآن الكريم، وهي الحرب على الأفكار الصالحة وأصحابها؛ الذين يحرصون على تعبيد الناس لرب العالمين وتحريرهم من الاسترقاق البشري البشع.
هكذا يفكر الطغيان:
يعلم الطغاة أنّهم طغاة، ويعلمون حق اليقين أنّ الرعايا الذين ابتلوا بهم يكرهونهم أشد الكره، ويحقدون عليهم أيّما حقد؛ لذلك يلجؤون إلى الأسلوب الأمثل تاريخيا في صد طوفان الحقد المشروع، من أن يصل إليهم، من خلال قتله في مهده أو تحريفه عن مساره.
فتستمر حربهم على الأفكار وأصحاب الأفكار، وتستمر الأفكار في الاستمرار بعد أن يضفي موت أصحابها معاني جديدة تمدها قوة وتثبتها على الطريق حتى تنتصر على الباطل.
الحرب على الأفكار:
وحرب الجبابرة والفراعنة والأكاسرة والطغاة تتخذ منهجا واحدا عبر التاريخ كما يخبر بذلك كتاب ربنا، يتخذ وسائل متنوعة لتجسيده، وقد حكى القرآن الكريم عنه وعن وسائله في مواضع عديدة، ملخص هذا المنهج:
أن الطغاة يلجؤون إلى محاربة الفكرة وتشويهها، فإن لم ينجح مسعاهم مروا إلى محاربة صاحب الفكرة، ففي الأول يعملون على قتل كل فكرة تحاول أن تجعل الحقد والكراهية ضد طغيانهم أمرا مجسدا في الواقع، وأشهر وسائلهم في ذلك العمل الدؤوب على تشويه الفكرة وتوسيخها، وفي قصة الوليد المغيرة الذي حاول تشويه دعوة محمد –عليه الصلاة والسلام- بعدما تبين له الحق أفضل مثل، ويروي لنا القرآن تلك اللحظات التي اجتهد فيها الوليد لتشويه الحق: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)، لقد وصف القرآن بالسحر ليصد النّاس عن الاستماع له والتصديق به.
ومن وسائل الجبابرة في قمع الفكرة والحق التشويش على الناس حتى لا تصلهم الفكرة، وهذا ما كان يفعله كفار قريش، حين كانوا يصفرون ويصفقون عند تلاوة النبي -عليه الصلاة والسلام- للقرآن؛ لفض الناس عنه، صلاته قال تعالى: "وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ" [سورة الأنفال:35]، يقول بعض المفسرين: كان إذا صلى الرسول –عليه الصلاة والسلام- في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه والوقوف بين أسماع الناس وبين القرآن الكريم، حتى يحولوا بينهم وبين الهدى ويصدوه عن اختراق حجب الشر التي تغطي قلوبهم وأعينهم.
فإن لم ينفع ذلك، لجؤوا إلى الطريقة الأشهر، وهي إيذاء صاحب الفكرة وتشويهه أو قتله، فيلجؤون إلى قاموس التهم الجاهزة؛ لتشويه سمعة صاحب الفكرة، وهذا ما فعله فرعون مع بني اسرائيل حينما اتهم موسى -عليه السلام- بأنه يريد خراب مصر: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) [طه:63]، ونفس الأمر حدث مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، حينما حاولوا تشويه سمعته، يقول السّدي: "أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه، قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه، فقال قائلون: شاعر. وقال آخرون: ساحر. وقال آخرون: كاهن. وقال آخرون: مجنون. كما قال تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا)" [الإسراء:8].
فإن لم ينفع كل ذلك قرروا قتل صاحب الفكرة وكل من تسول له نفسه أن يبصر الناس وينشر الوعي بينهم ويعزف على أسماعهم لحن الحرية الراقي، ولذلك يتهم الجبابرة والطغاة المصلحين بتهم مثل: الإرهاب والتخريب وإثارة الفتنة وغيرها من التهم التي يعتقدون أنها فعالة في فض الناس عن دعوة المصلحين.
الحرب على القلم والكتاب:
ولا يهدأ للطغاة والمستبدين بالٌ حتى يصادروا الكتابات التي تفتح الأعين وتحيي القلوب، ويكسرون أقلام الحرية ويقطعون أنامل أصحابها، فهم يعلمون أنها عدوهم الأول، وأن تزاوج حبر القلم بدم الكاتب الحر، يعطي رسما واضحا لطريق الحرية والانعتاق من نيرهم، وبالمقابل يغرقون الحياة بكتابات أرباب الوهم وبائعي الزيف، ومدونات الإلهاء والإغراء؛ من أجل حماية القابلية للاستعمار وتحصينها.
أفسدوهم واجعلوهم سكارى:
حتى إذا ظنّ عتاة الظلم والإجرام أن السّاحة قد خلت أمامهم تنادوا في نواديهم أن أفسدوا الناشئة، وحطموا حصون العفة وخربوا الفطرة، ويخبرنا القرآن عن حقيقة هذا المنهج وينبه إلى أنه يصادم مقاصد الإسلام: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [سورة النّساء:27]، فينشؤون دواوين لإفساد العقول، ويعطونها أسماء براقة وصورا لامعة، تنخدع بها أنصاف العقول؛ ويكون دور هذه الدواوين الوصاية التامة على الفكر البشري، وخنق الأصوات الصحيحة، والتمكين لكل صوت سقيم، فتنتشر الكتابات الرخيصة، وتوضع آليات لترقية الأقلام الركيكة، الفارغة روحيا وفكريا، الخليعة في فكرها، والشاذة في حركتها، حتى يعلو شأن أراذل الناس، ويقدمون على أنهم نجوم المجتمع وقدواته، فيفسد الفكر، ويتعكر الذوق، وتهرب الفضيلة، وتظلم الحياة.
التلاعب بمشاعر الناس وحياتهم:
كان ما سبق في كيفية التعامل مع الأفكار وأصحابها، أما ما يتعلق بالشعوب فإن المنهج الذي يتبعه الطغاة في صد حقد وكراهية الشعوب ضد باطلهم، يتركز في العمل على انحراف طوفان الغضب عن اتجاهه الصحيح، نحو اتجاهات فرعية تضعفه، ثم ترميه في جداول صغيرة تنتهي إلى واد قذر يصب في الأخير ببحر بعيد، نفس الأمر يحدث مع الغضب الاجتماعي العارم، فبعد تلاعبهم بالوعي الجمعي، وهو منهج راسخ في فكر وسلوكات أهل الاستبداد والطغيان، وقد حكى القرآن عنه، وعن تنوع وسائله، يقول تعالى: ( يتحول ذلك الطوفان الشعبي الصافي إلى فقاعات صغيرة ملوثة، ينشغل الناس بتمزيقها؛ ظنا منهم أن فعلهم ذاك تحرر وترهيب للطاغية.
بمعنى آخر.. يعمل الطغاة على أن ينشغل الناس ببعضهم البعض، فيخلقون صغار الطغاة، ويرقون أصاغر المجرمين ليكونوا في مقام الحاكم الأصغر؛ حتى يصير كل حي وكل قرية مملكة مصغرة للطغيان، وينتهي كل حي بخيط رأسه الطاغية الصغير، وبدايته الطاغية الأكبر، الذي يلعب بتلك الخيوط كيفما يشاء، فإن غضب الناس من صغار طواغيته، أبدلهم بآخرين، حتى وإن كانوا أقل ضررا من سابقيهم، فإنهم مع الزمن يصبحون أشد قهرا وشرَّا. وقد حكى القرآن عن هذه الوسيلة فقال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [سورة الإسراء:16] فسيطرة المجرمين وصغار الطغاة، وعتاة التجار والاموال تسبق الخراب الكبير والدمار العظيم الذي يحل في المجتمعات التي لم تتمكن من تفكيك خيوط المشهد الاستبدادي، ولم تحم رجالاتها ومصلحيها.
سنن الصراع لا تتبدل فلنحذر:
عبر التاريخ ظلّ منهج الاستعباد والاستبداد واحدا، وظلّت وسائل الشر واحدة والاستصغار والإذلال واحدة، لم تتغير إلا في الحجم أو السرعة أو القوة والقدرة، وتوعية الناس أو وعيهم بمنهج الطغيان في حرب الأفكار الصالحة وأصحابها أول خطوة لهزيمة الشر والباطل، فالوعي أقوى سلاح يجابه به الطغاة، وإن تحقق الوعي وشاع، سقطت رايات الظلم، فالباطل ساعة، ما اسرع انقضاءها، ولكن الناس يستعجلون.
التصدي للطغيان بالقرآن:
يقول تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [سورة الأنبياء: 18]، ويقول أيضا: (وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [سورة النساء: 63]، ويقول سبحانه: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [سورة الفرقان: 52]، إن هذه الآيات تدل دلالة واضحة قاطعة على أن القرآن أفضل علاج للتصدي لمنهج الطغيان المعتمد على تزييف الوعي، وتحريف الأفكار، وتشويه أصحابها المصلحين، والتلاعب بمشاعر الناس المستعبدين.
ومادام الباطل يستعين بخبراء في الشرّ، ووسائل إعلامية شيطانية ساحرة ساخرة، ويكثر سواده، فإن المسؤولية تتعاظم وتزداد في حق الصالحين المصلحين، ولكنها مباركة الجهود إن جعلت القرآن الكريم محور جهودها في معركتها ضد الكفر والطغيان، وهي معركة لا تستثني أحدا؛ فهي تركز جهودها على ضرب جميع الضمائر، من أول فرد في الأمة إلى آخر فرد فيها أيضا، لا ينجو منها أحد، سواء كان ذكرا أو أنثى، وسواء كانوا آباءً أو أبناءً، أسرا أو مدارس أو مساجد أو معامل؛ لأجل هذا وغيره تتأكد أهميّة إشاعة الوعي بخطورة منهج الطغيان من خلال ما وضّحه ربنا سبحانه في كتابه الكريم، ونبه إليه نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "بلغوا عني ولو آية" (رواه البخاري)، وإنها بداية الخلاص، ومبتدأ النجاة، وطريق الفلاح في الدنيا والآخرة، وما هذه الحياة إلا دار ابتلاء جعل الصراع فيها وسيلة للتمييز بين الصالح والطالح، والخبيث والطيب، والعامل والقاعد.
أخيرا ومع الإقرار بأهمية الوعي في مجابهة الباطل، فإن الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها هي: إذا استمر الطغيان في منهجه الآثم الظالم وصمت المصلحون ولم يؤدوا أدوراهم التي حددها لهم الإسلام، جاء الغضب الرباني ليأخذ الجميع بعد أن يكون الخبث قد عمّ كل مفاصل الحياة، فتحل الحروب والأزمات والأوبئة، ويشيع الخوف والرعب مفاصل الحياة، وتخرب الديار، ويحل الظلام والسواد دنيا الناس.
إن حماية الحق وأهله، وصون الفكرة الهادية، وتوفير الضمانات للمصلحين سبيل لردع الطغيان، وطريق لإنقاذ السفينة من الغرق؛ ولذلك وجب على المجتمع المسلم الالتفاف حول ورثة الأنبياء من المصلحين الصادقين، واحتضان الدعوات الصالحة فإنها سبيل الخير والنجاة، والطريق الوحيد للخلاص من الطغيان الذي عم العالم وتحكم برقاب الشعوب، وسلط شره على المسلمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم