عناصر الخطبة
1/تعظيم العرب للأشهر الحرم 2/ما أحدثته العرب في الأشهر الحرم 3/الحكمة في وقوع الأشهر الحرم على هذا الترتيب 4/تغليظ الظلم في هذه الأشهر وحكمة ذلك 5/ما ينبغي فعله في هذه الأشهراقتباس
وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّمَ قبلَ شهر الحج شهرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّمَ شهرُ ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- حق التقوى, واعلموا أنكم تستقبلون أشهراً عظيمة قال الله -تعالى- عنها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36], وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"(رواه البخاري ومسلم).
أَيْ: دَارَ عَلَى التَّرْتِيب الَّذِي اِخْتَارَهُ الله -تعالى- وَوَضَعَهُ يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَتْ قَدْ بَدَّلَتْ أَشْهُر الْحَرَام، وَقَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أَوْقَاتهَا مِنْ أَجْل النَّسِيء الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَهْوَ تَأخِير رَجَب إِلَى شَعْبَان، وَالْمُحَرَّم إِلَى صَفَر، وَكَانَ مِنْ جُمْلَة مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الدِّين، تَعْظِيم هَذِهِ الْأَشْهُر الْحُرُم، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ فِيهَا عَنْ الْقِتَال وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيَأمَنُ بَعْضهمْ بَعْضًا، إِلَى أَنْ تَنْصَرِمَ هَذِهِ الْأَشْهُر، وَيَخْرُجُوا إِلَى أَشْهُرِ الْحِلِّ، فَكَانَ أَكْثَرُهمْ يَتَمَسَّكُونَ بِذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِلُّونَ الْقِتَال فِيهَا، وَكَانَ قَبَائِل مِنْهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا، فَإِذَا قَاتَلُوا فِي شَهْرٍ حَرَام، حَرَّمُوا مَكَانه شَهْرًا آخَر مِنْ أَشْهُر الْحِلّ، فَيَقُولُونَ: نَسَأنَا الشَّهْر، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ حَتَّى اِخْتَلَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ حِسَابُه مِنْ أَيْدِيهمْ، فَكَانُوا رُبَّمَا يَحُجُّونَ فِي بَعْض السِّنِينَ فِي شَهْر، وَيَحُجُّونَ مِنْ قَابِل فِي شَهْر غَيْره، إِلَى أَنْ كَانَ الْعَام الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَصَادَفَ حَجُّهمْ شَهْرَ الْحَجّ الْمَشْرُوع، وَهُوَ ذُو الْحِجَّة فَوَقَفَ بِعَرَفَة في الْيَوْم التَّاسِع مِنْهُ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَأَعْلَمهُمْ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجّ قَدْ تَنَاسَخَتْ بِاسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي وَضَعَ اللهُ حِسَابَ الْأَشْهُرِ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَتَبَدَّلَ أَوْ يَتَغَيَّر فِيمَا يُسْتَأنَفُ مِنْ الْأَيَّام.
قال الواحدي -رحمه الله- ومعنى الحُرم: أي "أنه يَعْظُمُ انتهاكُ المحارم فيها بأشد مما يَعْظُمُ في غيرها، وكانت العرب تعظمها، حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه... وقال أهل المعاني: "وفي جعل بعض المشهورِ أعظم حُرمة من بعض فوائد منها: المصلحة في الكف عن الظلم فيها؛ لعظم منزلتها في حكم خالقها، فربما أدى ذلك إلى ترك الظلم رأسًا؛ لِانْطِفَاءِ الثائرة في تلك المدة"(التفسير البسيط).
والحكمة -والله أعلم- من تمييز الأشهر الحرم عن غيرها, قال العلماء: "وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّمَ قبلَ شهر الحج شهرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّمَ شهرُ ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحُرَّمَ بعده شهرٌ آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين... وحُرِّم رجبٌ في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يَقْدُمُ إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنهِ فيه آمناً...", وقال ابن حجر في فتح الباري: "قَوْلِهِ فِي الْآيَة: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ أَنْ يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ بِشَهْرٍ حَرَامٍ وَيُخْتَمَ بِشَهْرٍ حَرَامٍ وَتُتَوَسَّطَ السَّنَةُ بِشَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ رَجَبٌ, وَإِنَّمَا تَوَالَى شَهْرَانِ فِي الْآخِرِ؛ لِإِرَادَةِ تَفْضِيلِ الْخِتَامِ وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ".
وقيل: لم يخبرنا الله عن الحكمة، وهو كغيره من الأمور التي أمرنا الله بها، فعلينا أن نأتي بها على الوجه الذي أمر الله به، وإن لم ندرك الحكمةَ.
أيها الإخوة: قال ابن كثير: "قَالَ اللهُ -تعالى-: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)؛ أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ؛ لِقَوْلِهِ -تعالى-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الْحَجِّ:25] وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ", وقال -رحمه الله-: "قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قوله: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) فِي كُلِّهن، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا، وعَظَّمَ حُرُماتهن، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ".
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ", وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا, وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَه، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشهور رمضان والأشهر الحرم".
كما يجب الحذر من الوقوع في الإثم أو الخطايا أو تعمد فعل السيئات, كما يكون ذنب الظلم فيها مضاعفا, وَقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "والصحيح أن القتال ما زال محرماً، -أي فيها- وأنه لم ينسخ إلى الآن، وأنه يحرم ابتداء القتال فيها، ولا يعتدي فيها أحدٌ على أحد".
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يوفقنا لفعل الخيرات وأن يجعلنا هداة مهتدين, أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها الإخوة: يقول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131]؛ فالأمر بالتقوى وصية الله -تعالى- للجميع.
واعلموا أن وَجْهُ تَخْصِيصِ الْمَعَاصِي فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالنَّهْيِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلْعِبَادَةِ، فَمَن ْلم يتلبسْ بالعبادَةِ فلا يتلبس بمعصية؛ لأن الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَعْظَمُ وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَكْثَرُ أَجْرًا.
والحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام قال عنه الرازي: "إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة؛ ألا ترى أنَّهُ -تعالى- مَيَّزَ البلدَ الحرام عن سائرِ البلاد بمزيد الحُرمة، وَمَيَّزَ يومَ الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وَمَيَّزَ يومَ عرفةَ عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وَمَيَّزَ شهرَ رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم، وَمَيَّزَ بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها، وَمَيَّزَ بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر، وَمَيَّزَ بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خِلْعَةِ الرسالة", وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة؛ فأيُّ استبعادٍ في تخصيصِ بعض الأشهر بمزيد الحرمة!.
ثم نقول: لا يبعد أن يعلم الله -تعالى- أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارةِ النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خُبثِ النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتُباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك.
وفيه فائدة أخرى: وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم، فالله -سبحانه وتعالى- خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى إن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة، من القبائح والمنكرات.
وذلك يوجب أنواعًا من الفضائل والفوائد:
أحدها: أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يُقِل القبائح.
وثانيها: أنه لما ترك القبائح في تلك الأوقات، فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا.
وثالثها: أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات، وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات، لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمَّله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات، والظاهر من حال العاقل ألا يرضى بذلك، فيصير ذلك سبباً لاجتنابه المعاصي بالكلية.
وبعد -أيها الأحبة- يقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)[آل عمران:135]؛ قِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ، فِي هذه الآية تَرْغِيبٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-، وَتَنْشِيطٌ لِلْمُذْنِبِينَ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوَاقِفِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ.
وقال الله عن الأشهر الحرم: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ), إذاً: لنُذكر أنفسنا دائماً أننا لن ننجو من الذنب، لكن علينا إتباع الذنب بالاستغفار، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
أسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لملازمة الاستغفار ويجعلنا هداة مهتدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم