عناصر الخطبة
1/ مكانة الصلاة في الإسلام 2/ أحوال الناس إزاء أداء الصلاة 3/ وسائل تعين على المحافظة على الصلاةاقتباس
إن المسألة -أيها الأحبة- مسألة مجاهدة ومصابرة، ولا تتحقق المحافظة على فرائض الله إلا بذلك، فمن جاهد نفسه في الله، وصدق مع الله، واستعان به؛ هداه الله سبل الخير والنجاة، وعصمه برحمته من وسوسة الشيطان، وقد وعد الله عباده بذلك، لا يخلف الله وعده، ولكنَّ أكثر الناس لا يعملون، فقال –جل جلاله-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ..
أيها الأحبة في الله: تتفاوت شعائر الإسلام منـزلةً وقدراً، فيتأكَّد الأمر بالشعيرة على قدر أهميتها ومنـزلتها من الشريعة، فكلما كانت الشعيرة أعظم، كلما كانت العناية بها أولى وألزم، وكان التفريطُ فيها أشدَّ وأخطر؛ ولذا، فإن أولى ما يتفقد المسلم من تديّنه، وما يستدرك من تقصيره وتفريطه، حالُه مع الصلاة.
فالصلاة هي الفريضة المقدَّمة والمفضلة على كل فريضة، وهي عمود الإسلام، وهي أول ما يحاسَب به العبد يوم القيامة من عمله، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب -تبارك وتعالى-: انظروا هل لعبدي من تَطَوُّع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك.
وليس كل انتقاص في فريضة الصلاة ينجبر، فبعضه لا يجبره شيء، لا تطوُّعٌ ولا غيرُه؛ كترك بعض الصلوات اكتفاءً ببعضها، وكتعمد تأخير الصلوات عن وقتها؛ حتى يكون عادةً غالبة.
وإنما النقص الذي يجبره التطوع ما كان من قبيل الإخلال بالخشوع أو السهو فيها، أو الإخلال بشيء من واجباتها على سبيل السهو.
ولا يغني عن الصلاة شيء من الفرائض والفضائل؛ لأنها آكد الفرائض كلها، فلا يغني عنها حُسنُ خلق، ولا كثرة صدَقة، أو صيام، أو حجٍ، أو كثرةُ ذكرٍ واستغفار؛ ولا يغني عنها بِرٌ للوالدين، ولا إحسانٌ للجار، ولا صلةٌ للأرحام، ولا كفالةٌ للأيتام؛ لذا قال الملهم المحدَّثُ عمرُ –رضي الله عنه- لعماله: إنَّ أهمَّ أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وذلك لأن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر، مع خفة مؤنتها عليه، وعظيم فضلها، فهو لما سواها أضيع, كما أنَّ مَن لم يبرّ والديه، مع عظيمِ حقهما عليه، كان لغيرِهما أقلَّ بِراً.
أيها الأحبة في الله: قد يدركُ الإنسانَ ضَعفٌ في أمر صلاته، كما يدركه الضعفُ في سائر واجباته وأعماله، فقد يسهو عنها مرة، وقد يسهو فيها مرات، وقد يخل ببعض واجباتها، فيكون ذلك من قبيل الضعف المجبور الذي قلّ أن يسلمَ منه أحد؛ لطبيعة في البشر أنفسهم؛ ولكن ثمة ضعفٌ في أمر الصلاةِ يؤاخذ عليه الإنسان ولا يغتفر فيجبر، وهو ما كان ضعفاً محسوباً من قبيل الكسل والتضييع، الذي لا تقتضيه طبيعة النفس، ولكنه مقتضى الإعراضِ والتفريط في جنب الله، والتساهلِ في فرائضه، فيؤاخَذُ عليه المرءُ ويلام؛ لأن بالإمكان تداركه ومجاهدته، وقد سلم منه كثيرون فكانوا بمنجاة من عاقبته.
فإن أحدٌ فرّط في صلاته، وتكاسل عنها، وأخّرها عن وقتها، وتحجَّج بأن ذلك ضعفٌ من طبيعة النفس، وبأن الله يغفرُ الضعف ويتجاوز، قيل له: ولماذا لم يُرَ هذا الضعفُ في غيرك؟ هل تراهم قد خُلِقوا من طبيعةٍ غير طبيعتك؟ هل تراهم بمنآى عن وسوسة الشياطين؟ هل تراهم في عصمة كعصمة الأنبياء المرسلين، أو الملائكةِ المقربين؟.
إن الإنسان قد تقع منه الزلة مرة فيقال إنه قد أدركه ضعفٌ فعسى الله أن يتجاوز عنه، وقد يضعف مرة أو مرات فيسهو عن صلاته لا على سبيل العادة، فيقال عنه إنه ضعف لوسوسة الشيطان، وفي نفسه بقية من إيمان وخوف من الله؛ ولكن، ماذا سنقول عن رجل لا يصلي إلا قليلاً؟ وعن رجل ربما لم يصل في الأسبوع إلا ركعتي الجمعة؟ ماذا عسانا أن نقول عن رجلٍ اعتاد جمع الصلوات الخمس في آخر وقت العشاء؟ ماذا عسانا أن نقول عن رجلٍ اعتاد أن ينقر الصلاة نقراً كنقر الديك، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً؟ ويستكثر في حق ربه أن يقيم في الصلاة قيامها وركوعها وسجودها؟ ماذا عسانا أن نقول عن رجل إذا صلى صلاةً في وقتها استكثر من نفسه ذلك فتساهل في بقية صلوات اليوم فجمعَها قبيل نومه؟ هل سيقول عاقل عمَّن هذه عادته إنه قد أدركته غفلة الصالحين؟ أو غلَبه ضعفٌ جُبلتْ عليه نفوس العالمين؟!.
أيها الأحبة: إن قليلاً من التفكر والمحاسبة يدفعان عن الإنسان هذه المعاذير الشيطانيةَ المتوهّمة، إن قليلاً من التفكر في مثل هذه المعاذير يكشف للمرء كيف يكون تلبيسُ الشياطين وتغريرُهم! ولذا فينبغي أن نعلم -دفعاً لهذه الوساوس والمعاذير الغرارة الخدَّاعة- أنَّ الضعف إذا كان من طبيعة البشر، فهو الضعفُ الذي يدفع المرءَ إلى الاجتهاد في جبرِه واستدراكه، وقصره وحصرِه في نطاقه المغتفر، لا على تطبيع نفسه على الاسترسال في التساهل والتمادي في التفريط، فما كل تقصير يُغتفر، وما كل ضعف يُعتبر.
ولو أن الإنسان كلما عرض له ضعف استجاب له، وتطبّع عليه، وصدّق في ذلك معاذير الشيطان التي تقول بأن هذا الذي بدر منه إنما هو من الضعف الجبلِّي الذي يغفره الله؛ إذن لسكن إلى كل معصية، ولتخدَّرت حواسُّه وأطرافه بالكسل والتهاون والتفريط، تسليماً واغتراراً لهذه الحيلة الخبيثةُ؛ ولَتَبَيّن له إذا بغَتَه أمرُ الله وحضره الموت كأبينِ ما تكون الشمسُ أنَّ هذا الذي ظنه ضعفاً إنما هو عينُ التفريط في جنب الله، وسيحرقه ساعتئذٍ ندمٌ، وَلَاتَ حين مندم! وسوف تتقطع نفسه حسرات، وسيقول ما قال غيرُه من المفرِّطين المغترِّين: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58].
إن المسألة -أيها الأحبة- مسألة مجاهدة ومصابرة، ولا تتحقق المحافظة على فرائض الله إلا بذلك، فمن جاهد نفسه في الله، وصدق مع الله، واستعان به؛ هداه الله سبل الخير والنجاة، وعصمه برحمته من وسوسة الشيطان، وقد وعد الله عباده بذلك، لا يخلف الله وعده، ولكنَّ أكثر الناس لا يعملون، فقال –جل جلاله-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
فالذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه، ويتصلوا به، واحتملوا في سبيل مرضاته ما احتملوا؛ والذين صبروا على فتنة النفس، وعلى فتنة الناس، وجاهدوا الشيطان وجنده؛ لن يتركهم الله وحدهم، ولن يضيع إيمانهم وجهادهم، ولن ينسى صبرهم ومصابرتهم، بل سيهديهم ويأخذُ بأيديهم إليه، وإلى جناته.
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة: ومما يعين على المحافظة على أداء الصلاة في وقتها، وأدائها على وجهها المفروض الاسترواحُ بروح الصلاة، والاعتناء بروحها كما يكون الاعتناء بأركانها وحركاتها. إن الاسترواح بروح الصلاة يعني تدبّرَ ما يُقرأ في جوفها، واستشعارَ هيبةِ الوقوفِ بين يدي الله –سبحانه- في كل قيام وقعود، أو ركوعٍ وسجود، ويعني كذلك التلبس بشعار العبادة ودثارها، وهو إظهار التذلل والتضرعِ إلى الله، والإقبال إليه، شكراً وذِكراً ودعاءً، وفي كل ذلك تحقيقٌ لمعنى العبودية لله.
إنه يعني كذلك التعلق بالله، وقطع التعلق بالخلائق، إنه يعني اشتغال القلب بذكر الله عن كل ذكر، ولذا يكرر المصلي في صلاته قولَه: الله أكبر!.
إن الذي يؤدي الصلاة مستروحا بروحها، مستشعراً بعظمتها وعظمة الوقوف بين يدي مشرِّعِها، حقيقٌ أن يأتي بها على وجهها، حقيق أن يحافظ عليها، وأن لا يضيع حق الله فيها، إنه لكذلك، وأكثر من ذلك!؛ لأنه كلما صلى لله على هذا الاستشعار كلما كان أكثر له تعظيماً ومهابة وطاعةً وتوقيراً؛ ولذا قال -سبحانه-: (وإنَّها لَكَبيرةٌ إلاَّ على الخاشِعين) [البقرة:45].
وأما الذي ينقر الصلاة نقراً، ويأتي بها طقوساً مجردةً من معناها، خواءً من روحها، يتململ فيها ويتثاقلُ قيامها وقعودها، فستكون المحافظةُ عليها في وقتها أثقلَ عليه من جبل أحد، ولن يجد لصلاته طعماً ولا لذة ولا راحة؛ لأنه لم يستروح بروحها، ولم يستشعر معناها، ولا هيبةَ موقفها. ستظل الصلاةُ ثقيلةً على من يراها حمْلاً ثقيلاً يستعجل اطّراحه ليستريح منه.
ما الفرق بين رجل ينشد الراحة بالصلاة ورجلٍ يستعجل الاستراحة منها إلا كالفرق بين رجل متشبع بروح الصلاة ويجدها صلةً واصلة بينه وبين ربه، ورجلٍ يؤدي طقوساً جوفاء ليس فيها روح ولا حياة، خواء من كل معنى إلا معنى التململ والتثاقل.
إن لنا في رسولنا أسوة حسنة إذ يقول: "أرحنا بالصلاة يا بلال"، وقال: "وجُعلَتْ قرة عيني في الصلاة"، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأن فيها الموضع الذي يكون العبد فيه أقرب ما يكون إلى ربه، وهو السجود.
ولذا جاء الأمر بالاستعانة بها مقروناً بالاستعانة بالصبر، فقال -سبحانه-: (واستعينوا بالصبر والصلاة) [البقرة:45]، فلا عجب أن تكون الصلاة عوناً للعبد على مجاهدة ما يلقاه متى ما حقق المصلي روحها ومعناها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم