عناصر الخطبة
1/ مصطلح الحرية بين المشروع والممنوع 2/ قاعدة في التعامل مع بعض المصطلحات 3/ العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني 4/ مفهوم الحرية عند فلاسفة الغرب 5/ الطغيان الغربي على حريات وحقوق المسلمين 6/ أوجه الحرية المباحة في الإسلام 7/ كفل الإسلام الحرية للبشر كلهم 8/ سلطة الخالق أحكم وأرحم من سلطة الدولة 9/ ما سمات الحرية الحقَّة؟ 10/ شروط الحرية في الإسلاماقتباس
مما شاع وكثر تداوله هذه الأيام كلمة الحرية، واشتهر مصطلح الحرية في الإسلام مقابل العبودية، فالناس حر ورقيق مملوك هذا هو المعنى المتبادر إلى الذهن حينما ترد كلمة الحرية في النصوص الشرعية أو في كلام أهل العلم. لكن من يتكلم عن الحرية ويطالب بها لا يقصد المعنى السابق ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
مما شاع وكثر تداوله هذه الأيام كلمة الحرية، واشتهر مصطلح الحرية في الإسلام مقابل العبودية، فالناس حر ورقيق مملوك هذا هو المعنى المتبادر إلى الذهن حينما ترد كلمة الحرية في النصوص الشرعية أو في كلام أهل العلم.
لكن من يتكلم عن الحرية ويطالب بها لا يقصد المعنى السابق؛ إذ هذا مصطلح جديد فلا يُرَدّ ولا يُقبَل قبل معرفة المراد بهذا المصطلح، وقد قعد أهل العلم قاعدة في التعامل مع بعض المصطلحات التي لم تكن معهودة من قبل منهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في العقيدة التدمرية (ص: 65): "ما تنازع فيه المتأخرون نفيًا وإثباتًا فليس على أحد بل ولا له: أن يوافق أحدًا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قُبل وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يُقبل مطلقًا ولم يُرَد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ".
فمصطلح الحرية هو من المصطلحات الغربية ومفهوم الحرية عند فلاسفة الغرب ومنظري الحرية عندهم هي الحرية المطلقة يعرف بعضهم الحرية بقوله: اتخاذ القرار دون قيود. ويعرفها بعضهم: فعل إنساني محرر من جميع العلل. إذًا الحرية بمفهومها الغربي تعني أنه لا قيد على أحد في قول ما شاء واعتقاد ما شاء وفعل ما شاء، وعلى سبيل المثال: الحرية المالية عند الغرب حرية مطلقة لا قيود إلا ضرائب يتحايل عليها البعض، فأصبح المال بيد قلة، والبقية طبقة معدمة، ومقابل الغلو في حرية الفرد يقابله غلو آخر، فالفلسفة الماركسية قائمة على تغليب المجتمع على الفرد حتى أصبح الفرد مسحوقًا صُودرت حريته وحقوقه بحجة حماية المجتمع من أنانية الفرد.
حين التأمل نجد أن الحرية الغربية اهتمت بتلبية غرائز الفرد حتى وصل البعض إلى مستوى بهيمي، وفي الواقع العملي في الغرب حرية الفرد مقيدة فمثلاً حرية الموظف مقيدة فلا يستطيع أن يقول كل شيء يتعلق بوظيفته والمعلومات التي عنده، سواء كانت عامة أو خاصة بالأفراد. وحينما تتسبب ممارسة الحرية بمشاكل داخلية تقيد هذه الحرية ببعض القوانين كالكراهية وغيرها.
حينما تتعارض حرية الآخرين مع قيم الغرب ومعتقداته نجد أن الغرب ينتهك حرية الآخرين فمثلاً نجدهم يسفهون المسلمين ويسخرون من دينهم ومن معتقداتهم ويدنسون مقدساتهم، فأين الحرية المزعومة ضاق الغرب ذرعًا بالمسلمين وبمساجدهم فسنوا الأنظمة التي تحد من زيادة المساجد ومن صلاة المسلمين في الأماكن العامة التي هي في رأي المسلمين على أقل الأحوال جائزة لماذا لم يتسامحوا معهم باسم الحرية، فقد تداعى الغرب بدوله على ظاهرة تنقب بعض المسلمات وسنّوا الأنظمة التي تجرّم لبس النقاب، وتفرض غرامات مالية على المتنقبات.
مصطلح الحرية بمفهومها الغربي بالجملة باطل؛ لأنه لا أمر ولا نهي ولا تكاليف شرعية فليس في قاموسها الحلال والحرام والواجبات الشرعية، لكن الحرية الغربية ليست شرًّا محضًا ففيها حق وباطل فيؤخذ الحق ويترك الباطل.
أثبت الإسلام أن حرية الشخص حر في تحديد مواقفه فليس الإنسان كالريشة في مهب الريح لذا فهو محاسب على أعماله (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 3]، فله الاختيار وليس مجبرًا.
كفل الإسلام الحرية في التصرفات المالية، فلا حجر على أحد في ماله، ومنع المعاملات المالية التي تضر بالآخرين.
كفل الإسلام حرية العقود، فالأصل في العقود الإباحة، ويجب الوفاء بها.
كفل الإسلام حرية النكاح، فالأصل أنه لا أحد يجبر على النكاح، لا يجبر الرجل على الزواج من امرأة لا يريدها، ولا تجبر المرأة على زوج لا تريده.
كفل الإسلام حرية المأكل والمشرب، فالأصل في الأطعمة الحل إلا التي تضر بالبدن ضررًا حسيًّا أو معنويًّا.
كفل الإسلام حرية الملبس الذي لا يترتب عليه مفسدة.
كفل الإسلام حرية التعبير وجعل الصدع بالحق أمام الظلمة من أعظم مراتب الجهاد.
كفل الإسلام حرية الأمة في اختيار من يحكمها، فمن شروط انعقاد البيعة: رضا الأمة واختيارها.
كفل الإسلام حرية الدين، فلا يلزم أحد بدين الإسلام فيترك لغير المسلمين الخيار في الدخول في الإسلام من عدمه يقول ربنا تبارك وتعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]، وهو الذي استقر عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث بريدة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ... فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ» رواه مسلم (1731).
لكن من دخل في الإسلام فقد التزم أحكامه فتجري عليه أحكام الإسلام، فكما أنها تجري عليه أحكام الإسلام في العقود والجنايات والحدود كحد الزنا والسرقة، فكذلك يجري عليه حد الردة، فمن كفر بعد إسلامه يُقام عليه حد الردة، فعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري (3017)، ففي البداية غير المسلم له الخيار لكن بعد الدخول في الإسلام، فليس له الخيار في تركه. واتفق البشر على اختلاف مللهم ونحلهم أن من عقد عقدًا يلتزم بما يترتب عليه ومن دخل بلدًا من البلدان تجري عليه أنظمة هذا البلد فكذلك من دخل في الإسلام تجري عليه أحكامه.
ومدّعو حرية الاعتقاد لم يلتزموا بدعواهم فالبعثات التنصيرية تستغل الفقر فتنشط في البلاد الفقيرة تقدم لهم الغذاء والدواء مقابل تنصيرهم.
الخطبة الثانية:
بعض دعاة الحرية قصروا الحرية على التطاول على معتقدات المسلمين وثوابتهم وعاداتهم الحسنة، فالحرية عندهم مجرد شعار لتحقيق مآرب لا يستطيعون الإفصاح عنها، فمواقفهم مع مخالفيهم تبين حقيقة حريتهم المزعومة.
بعض دعاة الحرية تحرروا من دينهم تحرروا من عبودية الله ودخلوا في عبودية الغرب، فأصبحت الثقافة الغربية قبلتهم فيرددون ما يقوله فلاسفة الغرب عن مفهوم الحرية فيصدق عليهم قوله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 61].
فالإنسان لا ينفك عن عبودية لغيره يعظّم هذا الغير، ويتقرب له ويبذل وسعه في إرضائه والتقرب إليه فإن فرَّ من عبودية الخالق وقع في عبودية غيره من آدميين أو غيرهم.
هربوا من الرق الذي خُلقوا له *** وبلوا برق النفس والشيطان
الإسلام كفل الحرية للبشر كلهم كفل حرية الآدمي، فليس لآدمي على آخر أمر مطلق، وليس له أن يفرض عليه أمره الخاص أو يلزمه بما يعتقده، فالآدميون بعضهم من بعض أحرار لا سلطة لأحد على أحد إلا إذا كانت هذه السلطة تبعًا لسلطة الخالق لأمره ونهيه، واستعاضت الفلسفة الغربية بسلطة الدولة عن سلطة الخالق فإن كان ولا بد من سلطة على الآدمي تأمر وتنهى وتلزم وتعاقب، فسلطة الخالق أحكم وأرحم من سلطة الدولة التي تغلب مصالحها على مصالح الناس.
الآدميون فُطروا على الحرية فتجد الصغير قبل الكبير يحاول أن يخرج عن توجيهات غيره ولا يلتزم برأي الآخرين إذا خالف رأيه، فهو يريد أن يتحرر من سيطرة المخلوق عليه، وهذا الحرية كفلها ربنا لنا فنحن أحرار عن البشر، لكننا عبيد لله، فأفضل الخلق الرسل والملائكة يصفهم ربنا بالعباد فأمر الآدميين ونهيهم إذا كان بأمر الخالق ليس لهم علينا سلطان في الواقع إنما الأمر والنهي في الحقيقة هو للخالق تبارك وتعالى.
الحرية الحقَّة هي التحرر من عبودية غير الله فمن امتثل أمر الله ونهيه فهو الحر حقًّا، ومن خالف ذلك فهو أسير عبودية غير الله ونصيبه من عبودية غير الله على قدر مخالفته لأمر سيده.
الحرية في الإسلام مشروطة بعدم الإضرار بالآخرين سواء كان الضرر حسيًّا أو معنويًّا، فلذا حرم الله الغيبة.
الحرية في الإسلام مشروطة بعدم الإضرار بالنفس، فحرم الله كل ما يضر بالنفس والعقل.
الحرية مشروطة بمراعاة المجتمع، وعدم الخروج عليه فتجد المجتمعات التي لا تدين بدين تحارب مفهوم الحرية الغربية؛ لأنها تصادم عاداتهم الحسنة وتقاليدهم.
من الحرية إنكار المنكر وتوجيه المخالف؛ ليتحرر من عبودية غير الله ففيه يبدي المنكر رأيه مصطلح الحرية إذا كان المراد منه تحرير الإنسان بالإسلام فهو حق، أما إذا جعلت الحرية وسيلة للتحرر من الإسلام فهو مصطلح باطل.
الحرية المضبوطة بضوابط الشرع يُرجع فيها لأهل الاختصاص من أهل العلم الذين جمعوا بين العلم والعمل لا إلى غيرهم.
في الختام: الحرية في الإسلام جاءت لتحرير الفرد من عبودية غير الله، ولتجعل الفرد عبدًا لله، فالحرية في الإسلام وازنت بين حوائج الفرد وغرائزه، ولم تُغفل حقوق بقية المجتمع وحقوق الخالق فلم تغلّب جانبًا على حساب غيره.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم