عناصر الخطبة
1/ موقف القرآن من اختلاط الرجال بالنساء 2/ الاختلاط قضية قديمة تتجدَّد في هذا العصر 3/ بعض مفاسد الاختلاط وآثاره السيئة 4/ بعض صور الاختلاط 5/ تحريم الشريعة للأسباب المفضية إلى الاختلاطاقتباس
إن عقلاءَ البلاد الإباحية التي جربت الاختلاطَ وذاقت ويلاتِه، وقاست مساوئه ينادون بقوة إلى منع اختلاط الرجال بالنساء في بلادهم، بعد أن أحسُّوا بالخطر الداهم، وأعلنوها صريحةً مدوِّية بعد طول عناء: أن التعليم غير المختلط أفضل بكثير من التعليم المختلط، لم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59] هذه الآية تبين موقف القرآن الكريم من اختلاط الرجال بالنساء، منهجٌ قرآني يبيّن ضوابطَ أمنية، ويحدّد أسباب السلامة، حفظاً لكيان الأسرة المسلمة، وسلامة أنسابها، وطهارة قلوب الرجال والنساء من الفتنة والانحراف.
أمر الله -سبحانه وتعالى- النساءَ بإدناء الجلابيب وغض البصر، وحرّم الاختلاط بين الرجال والنساء، كلُّ ذلك سداً للذريعة وحسماً للوسائل المؤدية إلى الفساد.
الاختلاط قضيةٌ قديمة تتجدَّد في هذا العصر، حيث يقف المروّجون له بالمرصاد لخيرية أمة الإسلام، ويحسدونها على ما كرّمها الله وفضّلها به على سائر الأمم.
إن دعاة الاختلاط لا يهمّهم صيانة الأعراض، ولا يفهمون معنًى للشَّرف والعرض، إنما هي في نظرهم كلماتٌ فقدت معانيَها القديمة، ووأدتها الحضارةُ والانطلاق من القيود المتحجِّرة زعموا.
أصواتٌ شاذة تدَّعي أن الاختلاط يساعد على إقامة علاقة نظيفة، وأنه ضرورةٌ نفسية واجتماعية واقتصادية، وبه يرشَّد الإنفاق، ونقول لهؤلاء جميعاً: اسألوا الحضارة الغربية المتهالكة: ماذا جنته من الاختلاط؟
ستجيبكم الإحصاءات المذهلة والأرقام المفجعة عن نسبة الحوامل من الزنا، وألوف الأطفال الذين وُلدوا بطرق غير شرعية، ناهيك عن حالات الإجهاض، ونسبة جرائم الخطف والاغتصاب، مع انحطاطٍ خلقي، وآثار مدمرة في الاقتصاد والاجتماع، تُنذر بانهيار المجتمعات، مع كثرة العوانس، ذلك أن وجود السبل الميسرة لقضاء الوطر صرفتهم عن تبعات الزواج وتكاليفه زعموا.
يدَّعي بعضُهم: أن الاختلاط يكسر الشهوة، ويهذب الغريزة، ويقي من الكبت والعقد النفسية، وواقع الحال في البلاد الإباحية يكذّب ذلك وينقضه، فلم يزد الناس إلا سعاراً بهيمياً، وهتكاً للأعراض، وتوقّداً للشهوة، لا يرتوي ولا يهدأ، وينتهي إلى شذوذ لا يقيّدهُ قيدٌ ولا يقف عند حدّ.
ها هي الغرائز قد أُطلقت، فلم تزد النفوس إلا تعقيداً، ولم تزد الأعصاب إلا توتراً، مع انتشار الأمراض الفتاكة، وأصبح القلق النفسي هو مرض العصر هناك.
كيف نُلقِي إنساناً وسطَ أمواج متلاطمة، ثم نطلب منه أن يحافظ على ثوبه من البلل؟! كيف نلقي إنساناً وسطَ نيران متوقدة، ثم نطلب منه أن يحافظ على جسمه من الاحتراق؟!
إن عقلاءَ البلاد الإباحية التي جربت الاختلاطَ وذاقت ويلاتِه، وقاست مساوئه ينادون بقوة إلى منع اختلاط الرجال بالنساء في بلادهم، بعد أن أحسُّوا بالخطر الداهم، وأعلنوها صريحةً مدوِّية بعد طول عناء أن التعليم غير المختلط أفضل بكثير من التعليم المختلط، لم يؤدِّ الاختلاط إلاّ إلى بهيمية كاملة، لم تؤدِّ التجربة إلى تماسك البيوت ولا استقرار ولا ثبات، وإنما أدَّى إلى تفكك دائم وطلاق متزايد وجوع مستمر.
الاختلاط -عباد الله- متعةٌ مُغرية، تجعل الشباب لا يفكر في الزواج، وتُفقِد المتزوج رابطَ الزوجية، وقد يتفارقان إلى أخدان وخليلات.
إنه عاملٌ هدّام فعَّال لحياة الأسرة، ومنغّص لاستقرارها؛ لأنه في المجتمع المختلط لن يقنع أحدٌ بما رزقه الله، وتكثر الشكوك والغيرة بين الأزواج، كما تكثر الخيانات الزوجية.
من الأسباب البيّنة التي أدَّت إلى فتنة امرأة العزيز بيوسف -عليه السلام- الاختلاط الذي أضرم كوامن الغريزة، فيأبى يوسف -عليه السلام- خوفاً من الله العليم القدير.
الاختلاط من أكبر الأسباب الميسِّرة للفاحشة وارتكاب جريمة الزنا، فهو يحرّك في النفس نوازع الشر، ويُشعل نارَ الشهوات الجامحة، ويولد الإغراء والإغواء.
الاختلاطُ يصرف شبابَ الأمة عن المعالي، ويؤدِّي إلى اضمحلال قواهم، ويوقعهم فريسة الشهوات البهيمية، ويحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا يولج المجتمع موالجَ الهلاك.
للاختلاط المحرّم في المجتمعات صورٌ؛ منها:
- اختلاط البنات مع ابن العم أو ابن العمة، وابن الخال مع ابن الخالة.
- خلوّ خطيب الفتاة بها وخروجه معها وحديثه، وذلك قبل العقد بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضاً.
- اختلاط النساء بالرجال الأجانب عموماً بحجة أن القلوب بيضاء.
- اختلاط الطالبات بالطلاب في صفوف الدراسة بالجامعات والمعاهد والمدارس.
- استقبال المرأة أقاربَ زوجها الأجانب أو أصدقائه في حالة غيابه ومجالستهم والكلام معهم.
- خلوة المدرسين الخصوصيين بالطالبات بحجة التدريس.
- اختلاط النساء بالرجال في المعامل والصيدليات والمستشفيات والمكاتب بدعوى ضرورة ذلك في العمل.
- خلو الطبيب بالمريضة من غير محرم لها، وما يسمَّى بالجلسات العائلية والتي يختلط فيها الرجال بالنساء وما يحدث فيها من تبادل الحديث.
ومن صور الاختلاط: ما انتشر في الآونة الأخيرة من جعل أيام للعوائل، سواء كان في معارض الكتاب أو غيرها من المعارض، وفي إقامة المهرجانات والأسواق المفتوحة، ويحصل فيها من الاختلاط واحتكاك الأجساد بسبب الزحام وضيق الممرات، الأمر الذي يندى له جبين الرجل الغيور على محارمه.
أيها المسلمون: جاءت أحاديث صحيحة صريحة في تحريم الأسباب المفضية إلى الاختلاط وهتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء، ومنها تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، تحريم سفر المرأة بلا محرم، تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، تحريم دخول الرجال على النساء، تحريم مسّ الرجل بدن الأجنبية حتى المصافحة للسلام، تحريم تشبّه أحدهما بالآخر.
ومن قواعد الشرع المطهر: أن الله إذا حرّم شيئاً حرم الأسباب والطرقَ والوسائل المفضية إليه تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من القرب من حماه، قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32]، والنهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرّد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا".
عباد الله: إن من حرص الشارع عن التباعد بين الرجال والنساء وعدم الاختلاط بينهم: أن رغّب في ذلك حتى في أماكن العبادة، كالصلاة التي يشعر المصلي فيها بأنه بين يدي ربه بعيداً عما يتعلق بالدنيا؛ فعن أبي هريرة -رضي َالله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (رواه مسلم).
وما ذاك إلا لقرب أول صفوف النساء من الرجال فكان شرَّ الصفوف، ولبعد آخر صفوف النساء من الرجال فكان خيرَ الصفوف، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وإنما فُضِّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهنّ عن مخالطة الرجال، وذُمّ أولُ صفوفهنّ لعكس ذلك".
وعندما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من المسجد فرأى اختلاطَ الرجال بالنساء في الطريق قال للنساء: "استأخرن، فإنه ليس لكنّ أن تحْققن الطريق، عليكنّ بحافَّات الطريق"، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبَها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (رواه أبو داود).
وعلى هذا صارت نساء المسلمين لا عهد لهنّ بالاختلاط بالرجال، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في مسجدها، فقال رسول -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ" (أخرجه أحمد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن حِرص الشارع على عدم الاختلاط منعُ المرأة إذا خرجت للمسجد أن تتطيَّب له؛ فعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (رواه مسلم).
ولما رأت عائشة -رَضي الله عنها- التغيّر الذي حدث في أحوال النساء بعد عصر النبوة، قالت: "لو أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- رأى ما أحدث النساءُ لمنعهنَّ المسجدَ كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل" (أخرجه مسلم)، وهذا في زمن عائشة -رَضي الله عنها- وعهدُ النبوة قريب، فكيف بهذا الزمن الذي كثر فيه الفساد، وظهر فيه التبرج، وشاع فيه السفور، وقلّ فيه الورع؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ولا ريبَ أن تمكينَ النساء من اختلاطهنّ بالرجال أصلُ كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتَّصلة، ولما اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم في يوم واحدٍ سبعون ألفاً" انتهى كلامه -رحمه الله-.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم