اقتباس
إن النداء بوصف الإيمان يعني إثبات عقد التزام بين المخاطِب وبين المخاطَب؛ بمعنى أن الموصوف بالإيمان قد دخل مع معبوده في عقد إيماني وعهد تكليفي؛ فكأن المعنى ما دمت -أيها المؤمن- آمنت بإلهك فعليك...
الحمدلله أنزل كتابه القرآن في شهره رمضان، وأشكره سبحانه على ما حوته آياته من الهدى والفرقان، ثم الصلاة والسلام على المبعوث في الأميين بأعظم بيان وأفصح لسان، وعلى آله الأطهار وصحابته أهل التقى والرضوان ومن تبعهم بإحسان إلى منازل الجنان.
أيها الأفاضل: أنزل الله التشريعات الإسلامية والأحكام الفقهية وبينها في كتابه وسنة نبيه أحسن بيان، ومن ذلك تشريعات الصيام وأحكامه؛ وفيه وردت آيات من سورة البقرة؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]، وهذه الآية الكريمة وآيات تلتها رغم قلتها وتعداد كلماتها إلا أنها حوت أحكاما كثيرة وفوائد عديدة. وفي هذه الأسطر سنقف وإياكم متأملين بعضا منها؛ راجين الله سداد القول وسلامة القصد وحسن العمل.
الوقفة الأولى: التكليف بعد أسلوب النداء
إنه نداء الحبيب لأحبابه وشهادة من الذات العلية بالإيمان لأوليائه؛ نداء مراده -أيها الأفاضل- التنبيه والاهتمام بمضمون الخطاب ومحتواه؛ قال ابن مسعود -رضى الله عنه- "إذا سمعتم يا أيها الذين ءامنوا فارعوها أسماعكم فإنما هو أمر تأتمرون به أو نهى تنتهون عنه".
واستعمال النداء قبل التكليف أسمع للمخاطب وأجذب للمنادى وأدعى للاستجابة وأقرب للقبول؛ خصوص إذا اشتمل النداء على اسم المنادى أو وصفه؛ فذلك مما يستميل قلبه ويجذب رضاه ويحرك همته للقيام بما أمر به وزجر عنه.
الوقفة الثانية: خصوصية خطاب التكليف للمؤمنين دون غيرهم
من الخطاب يعرف مقام المخاطب، والخطاب هنا خطاب مدح؛ لأن النداء هنا ليس لكل البشر ولا حتى للمسلمين بل لصنف خاص وهم المؤمنون من آمنوا بالله ربا وإلها، من وقر إيمانهم واستعدت للعمل بمقتضاه جوارحهم.
إن النداء بوصف الإيمان يعني إثبات عقد التزام بين المخاطِب وبين المخاطَب؛ بمعنى أن الموصوف بالإيمان قد دخل مع معبوده في عقد إيماني وعهد تكليفي؛ فكأن المعنى ما دمت -أيها المؤمن- آمنت بإلهك فعليك الاستجابة إذن لما أمرك واجتناب ما نهاك.
ومادام العبد قد آمن بالله فقد أصبحت مسئولية حركته وجميع قراراته في عالم الدين والدينا عنده، وما عليه حينها سوى التسليم والانقياد له؛ قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال: 24].
وتخصيص التشريع للمؤمنين ومنه الصوم ذلك لأن الصوم تكليف، ومن لم يستوطن الإيمان قلبه فلن يتمكن من القيام بأوامر الله، ومن هنا كانت الحكمة ظاهرة في تأخر فرضية الصيام إلى ما بعد الهجرة رغم أن الصيام من أركان الإسلام الخمسة؛ وذلك حتى قوي إيمان الناس ودخل قلوبهم فصار عندهم الاستعداد للأوامر وتقبل النواهي؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيها ذِكْرُ الجَنَّةِ والنّارِ، حتّى إذا ثابَ النّاسُ إلى الإسْلامِ نَزَلَ الحَلالُ والحَرامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنا أبَدًا.."(البخاري ٤٩٩٣).
وفي تخصيص المؤمنين بالنداء حكم كثيرة منها:
# فهم من يلبي مضمون هذا النداء وهم من ينتفع به دون غيرهم، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في القرآن فأصغِ لها سمعك، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه".
# كونهم أسرع الناس استجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأكملهم انقيادًا لتشريعات الإسلام وما جاء به وأرشد إليه، فقلوبهم مؤمنة مسلمة، وصدورهم منشرحة وجوارهم مستعدة لتطبيق ما شرع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لعلمهم أن الهدى والنور في خطاب الوحي لا في غيره مما تناقله البشر من أقوالهم وتوارثوه من فعالهم.
# لأن المؤمنين أحرص الناس على سلامة إيمانهم مما يخدشه أو يذهب كماله؛ فضلا عما يذهبه بالكلية.
الوقفة الثالثة: التكليف بضمير الجمع
فقد ورد الخطاب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بصيغة الجميع وهو الغالب في نصوص الوحيين، وفي ذلك إشارة إلى وحدة التشريع كما فيه دلالة إلى وحدة الأمة على منهجية واحدة، وأن تفرقها هو خلاف للمقاصد الشرعية مع ما فيه من بعد عن منهج الله -تعالى-، وأدلة ذلك مستفيضة في الوحيين وأقوال سلف هذه الأمة وأئمتها؛ فمن الآيات الموجبة للزوم الجماعة قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى: 13].
وقد روى الذهبي في سيره: قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أَنِ اكتُب إلَيَّ بالعلم كله، فكتب إليه: "إنَّ العلمَ كثير، ولكن إنِ استطعتَ أنْ تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضِهم، لازمًا لأمر جماعتهم - فافعل".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، ونعتصمَ بحبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أنْ نكونَ كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهذا نظير قوله للرسل: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
فهذه النصوص وما في معناها تُوجِب علينا الاجتماع في الدين، كما قد أمر الأنبياء قبلنا به كذلك؛ قال الله: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى: 13].
الوقفة الرابعة: حقيقة الصيام تشريف لا تكليف
من تبحَّر في حكم التشريع وغاص في أسراره وقلب النظر في حِكمِه لا يجد في أوامره سبحانه ونواهيه ما يصفها بالتكليف؛ ولفظ التكليف الذي ورد في التشريع إنما ورد على سبيل النفي؛ وبالتالي فأعظم مقصد وأجل حكمة من التشريع هو ارتباط المخلوق بخالقه والعباد بربهم وإلههم، ومنتهى هذا التشريع تشريف العبد في عبادته من يستحق العبادة وهو الله، ناهيك عن منافع وحكم كثيرة في الدنيا والآخرة وراء ذلك التعبد.
قال الشوكاني نقلاً عن بعض أهل العلم: "إنَّ المسلمين والمؤمنين خُصِّصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص".
الوقفة الخامسة: مشروعية الصيام ليست حصرية بهذه الأمة
مشروعية الصيام ليست خاصة بهذه الأمة بل حتى من سبق من الأمم كتب عليها، وهذا ظاهرُ صريحِ الآية الكريمة؛ (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؛ إلا إنه وإن كان الصيام على من كان قبلنا مفروضا فلا يلزم بالضرورة أن يتفق مع صيامنا عددا وزمنا ووصفا وثوابا وعقابا، ومرد ذلك ما ذكره الله في القرآن الكريم؛ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المائدة: 48]، مع اتفاقنا من حيث الجملة على فرضية الصيام على من قبلنا.
وفرضية الصيام على هذه الأمة ومن قبلها دليل على منزلته ومكانته وشاهد على فضله وثمرته. وفي شريعتنا منه الواجب ومنه المستحب.
الوقف السادسة: تحقيق التقوى الغاية الكبرى من الصيام
أن المشرع -سبحانه- لم يُرِد من فرضية الصيام على عباده إجهادهم أو تحريم ما أحل لهم أو إيقاع الأغلال والآصار عليهم أو تعذيبهم وإهلاكهم، بل أراد لهم بهذه المناسبة الشريفة بلوغ أعلى المنازل وإدراك أسمى المراتب، لقد أراد ترويض نفوسهم على الصبر والتحمل في سبيل الطاعة والقربة، وقصد أن تكون زمام نفوسهم تقودها قلوبهم وعقولهم لتتحكم فيها فيعطونها متى شاءوا ويمنعوها متى أرادوا؛ لا أن تستحوذ عليها شياطينهم وتعتقلها أهواؤهم.
الوقفة السابعة: العلاقة بين القرآن والصيام
فقبل حديثه عز وجل عن القرآن ووقت نزوله مهَّد لذلك بالصيام ومشروعيته وبعض أحكامه، ثم عرج في الحديث عن القرآن العظيم وأنه نزل في شهر رمضان المبارك وتحديدا في الليلة المبارك ليلة القدر.
وفي نزول القرآن في رمضان عظيم مزية ومزيد تشريف؛ كون الله اختاره ليكون ظرف الزمان الذي نزل فيه أفضل كتاب على خير رسول لخير أمة.
ونزول القرآن في شهر رمضان فيه -أيضا- دعوة واضحة وإشارة جلية إلى الاهتمام به فيه، والحرص على تلاوته وتدبره ففيه بينات من الهدى والفرقان.
الوقفة الثامنة: سماحة الشريعة ويسر أحكامها
كل التشريعات جاءت بالرفق وجميع أحكامها قامت على التيسير؛ حيث راع المشرع الحكيم أحوال عباده وقدر ظروفهم فرفع عنهم المشقة والعسر وأزاح عنهم الضرر والحرج؛ فأسقط عنهم الواجبات حال عجزهم ورخص لهم في المحرمات عند اضطرارهم؛ قال الله -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)[الحج: 78]، وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185]، وفي القاعدة الفقهية:
لا واجب بلا اقتدار *** ولا محرم مع اضطرار
وفي شهر الصوم من مظاهر ذلكم الترخيص ومن دلائل ذلك التيسير؛ فقد أوردت آيات الصيام جملة من الأحكام الشرعية رخص الشرع فيها لحالات معينة؛ كجواز الفطر للمسافر والمريض وقضاء ما أفطرا في أيام أخر، وكذا الإطعام لمن عجز مع سلامة عقله عن الصيام.
الوقفة التاسعة: التوفيق نعمة تستحق التعظيم والشكر
فبعد أن ساقت الآيات موضوع الصيام وذكرت بعض أحكامه ومرت في حديثها عن القرآن ونزوله ثم تطرقت للتيسير التي قامت عليه الأحكام، ختمت ذلك بالتذكير بأمر جليل وأشارت إلى موضوع عظيم ألا وهو تعظيم الله وتكبيره وشكره وحمده والثناء عليه جزاء تيسيره في تشريعاته ورفقه بعباده في أحكامه.
الوقفة العاشرة: الصوم والقرآن والشكر مؤهلات لاستجابة الدعاء
حيث هدتِ الآيات إلى مقام عظيم وختمت بعبادة كبيرة أوصلت رسالة مفادها؛ أن من صام وقام رمضان ورتل آيات القرآن وكبر الله وعظمه وشكره وأثنى عليه باللسان والجوارح والجنان فذلك حري أن يستجيب الله له دعاءه ويعطيه سؤله؛ قال الله : (إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
أيها الفضلاء: هذا ما تمكن إعداده وتيسر إيراده في إشارات سريعة وومضات عاجلة؛ وفي الآيات الكريمات مخزون إيماني وتربوي كبير ومستودع فقهي وتشريعي عظيم، لا يروي ظمأك منه -أيها القارئ- غير الرجوع إلى كتب التفسير بمختلف تصانيفها، وإنما أحببت بهذه الوقفات أن استنهض شوقك إليها وأجذبك للبحث عنها.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وسلام على المرسلين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم