اقتباس
تعاقب وبمقتل الكاهنة، انفتحت الطريق وصولاً إلى المحيط الأطلسي والأندلس أمام المسلمين، ودخل البربر في دين الله أفواجاً، وشاركوا في فتح باقي الشمال الأفريقي، وشاركوا في فتح الأندلس، والعجيب أن الأمير حسان سيشكل فرقة عسكرية من البربر الأشداء بعد أن خبرهم في القتال وعرف كفاءتهم، فرقة قوامها اثني عشر ألف فارس، تحت قيادة ابني الكاهنة المحاربة أنفسهما، إفران ويزديكان الذين صارا فيما بعد من قادة الفتح الإسلامي.
على قيادة حركة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي أبطالٌ على أعلى مستوى من الإيمان والورع وحسن القيادة، والفكر الاستراتيجي الفذ، بدءاً من الصَّحابي الجليل عمرو بن العاص-رضي الله عنه-مروراً بعبدالله بن أبي السرح، فمعاوية بن حديج، فعقبة بن نافع، فأبي المهاجر بن دينار، فزهير بن قيس البلوي، كلُّ هؤلاء الأبطال كان لهم أيادٍ ناصعةٍ في نشر الإسلام بالشمال الإفريقي؛ لذلك فلا عجب أن اسْتُشهِد معظمهم في ساحات الجهاد المقدَّس، وأخرجتْ لنا أمة الإسلام ثمَة أبطالٍ يتعاقبون، وكلَّما مضى بطل قام بطل آخر، وهذا ما حدث بالفعل على الجبهة المغربية.
وكان البطل عقبة بن نافع -رضي الله عنه- قد قتل على يد الخائن المرتد " أكسيل بن ملزم ". وكان كسيلة -كما تسميه المراجع العربية- قد أسلم ضمن عدد كبير ممن دخلوا الإسلام من البربر في أوائل عهد الفتوحات الإسلامية حين وصلت طلائع الجيش العربي على يد عمرو بن العاص ومَن ولي الأمر بعده. في ذلك الوقت كان كسيلة زعيمًا على قبيلته أوربة البرانسية الحضرية التي تسيطر على المغرب الأوسط كله (الجزائر حالياً). ولكنه دخل الإسلام طمعاً في الدنيا والرئاسة على عموم قبائل البربر. وكان زعماء قبائل البرانس يجتمعون حتى يستشعروا أي خطر يتهدد أمنهم، حيث التقى الزعيم كسيلة القائد الأمازيغي بامرأة كاهنة خلبت لبه، وأسرت عقله، ودفعته للارتداد عن الإسلام، وقادته بعد ذلك لحتفه، ولعبت أخطر الأدوار في حياة الشمال الأفريقي لسنوات طويلة.
من هي كاهنة جبال الأوراس؟
تعرف الكاهنة في المصادر التاريخية الأجنبية والعربية والبربرية القديمة والحديثة بأنها امرأة أمازيغية -بربرية-شجاعة وقوية البنية، من بني جروة من القبائل البربرية البترية الكبيرة التي ستنتقل من الحياة الوبرية الرعوية إلى الحياة المدرية القائمة على الاستقرار والتمدين وبناء الممالك.
-اسمها " ديهيا تابنة نيفان" ولدت سنة 585 م -أي انها أصغر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بثماني عشرة سنة فقط- وكانت تقطن جبال باغية قرب مسكيانة بسفوح جبال الأوراس بالجزائر، وتعرف باسم دميا أو دهيا، والصواب دهي بمعنى المرأة الجميلة في القاموس اللغوي الأمازيغي، ولقبت بالكاهنة لكونها سيطرت على رؤساء قومها بالكهانة والسحر والشعوذة التي تعلمتها من أبيها زعيم قبيلة الجراوة أكبر قبائل الزناتة البربرية.
بعد مقتل الخائن كسيلة أصبحت الكاهنة الملكة المقدمة على جميع قبائل البربر بشقيها البرانس -بربر الحضر-والبتر ـ بربر البدو، وحكمت معظم شمال أفريقيا مدة 35 سنة تشكل مملكتها اليوم جزء من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وعاصمة مملكتها هي مدينة ماسكولا (خنشلة حاليا) في الأوراس. بعد تعيين الكاهنة زعيمة للقبائل البربرية وخليفة للقائد كسيلة، بدأت خوض معركتها انطلاقا من إنشاء حلف بين القبائل البربرية لمناهضة الفتح الإسلامي؛ فقبل إشهار السيف، كان عليها أن تقنع الناس وتضمن وحدتهم والتحاقهم بالمعركة. وببلاغة وحزم، أنشأت تجمعا للقبائل بالاعتماد على دعم قبائل جراوة وبني يفرن. وبعد جمع القوات والفيالق، أعدتها وهيأتها للمعركة والقتال.
-أجمع المؤرخون المسلمون الذين أرّخوا لها بمن فيهم العلامة ابن خلدون، على أنها كانت وثنية تعبد صنما من خشب، وتنقله على جمل، وقبل كل معركة تبخّره وترقص حوله فسماها العرب الكاهنة أي التفازة أو الفزّانة، وقيل: إن لها أصول يهودية ولكن لا يثبت ذلك إلا في المصادر اليهودية فقط.
البطل الجديد:
استشهد زهير البلوي وأصحابه في معركة مع البيزنطيين في مدينة درنة بشرق ليبيا ودفن مع أصحابه، وقبورهم هناك معروفة إلى اليوم تسمى مقبرة الشهداء وكان ذلك 71هـ، وكان وقع استشهاد زهير بن قيس البلوي ورفاقه عظيماً على الخليفة عبد الملك بن مروان لذلك ما إن انتهى من حربه مع ابن الزبير -رضي الله عنهما- حتى أولى اهتماماً خاصاً إلى الوضع في شمال إفريقيا، لذلك نراه يجهز جيشاً كبيراً قوامه نحو أربعين ألف مقاتل غالبيتهم من أهل الشام، وعهد بقيادته إلى حسان بن النعمان الغساني الذي كان رجلاً ورعاً تقياً يدل على ذلك تسميته (الشيخ الأمين)، وقد أقر الخليفة حسان بن النعمان أن يقيم بمصر استعداداً لإنجاز مهمته وكتب إليه: "إني قد أطلقت يدك في أموال مصر، فأعط من معك ومن ورد عليك من الناس، وأخرج إلى جهاد إفريقيا على بركة الله". وقد وصف ابن الأثير عظمة هذا الجيش من حيث تعداده وعدته بقوله: "لم يدخل إفريقيا جيش مثله"، وكان بداية الغزو في عام 74هـ، وقد تمكن هذا الجيش من فتح المناطق التي مر بها وكان على مقدمته كل من محمد بن أبي بكير وهلال بن ثروان اللواتي، ووجود هذا الأخير كقائد على مقدمة الجيش حسان يشير إلى مشاركة البربر بشكل كبير في هذه الحملة.
انشغل القائد حسان بقتال الروم فترة من الوقت، مما سمح لملكة البربر الجديدة "كاهنة جبال الأوراس" أن تنظم صفوفها وتستعد للقاء المسلمين، فهي كانت من دواهي الزمان شجاعةً وعزماً ودهاءً، فقد علمت أن حسان سوف يتفرغ لها ويشتد في طلبها بعد الانتهاء من الروم، فاستعدت لذلك جيداً.
الهزيمة الطارئة:
استعد القائد حسان لمحاربة الكاهنة، وحشد قوات كبيرة، ولكنه لم يكن قد خبر قتال تلك المرأة الماكرة من قبل، واستهان بها قليلاً، وقد تمثلت مهمته في: كسر شوكة المتمردين ومقاومتهم. ولأنه كان واثقا من قوته، فقد انطلق ليهاجم ويواجه الكاهنة في مدينة قسنطينة أي في عقر دارها، بالقرب من نهر ميسكيانا (بين تيبيسة وعين البيضا على الحدود بين الجزائر وتونس). ولكنه فوجئ بأعداد ضخمة وخطة قتالية محكمة أدى لهزيمة ثقيلة لم يذقها هذا البطل الكبير من قبل. فقد انتصرت عليه الكاهنة من خلال استراتيجية محكمة، قامت بإخفاء جزء من قواتها خلال الليل، وذلك لنصب كمين للقوات المسلمة. وعند الغسق، أمكن لتلك القوات أمن تطويق الجيش المسلم من كل اتجاه، واضطر الأمير حسان للانسحاب إلى طرابلس (المنطقة الغربية من ليبيا في الوقت الحاضر). لقد استطاعت ملكة الأوراس بفضل فكرها الاستراتيجي، وبدعم من قوة الفرسان خيالة بني يفرن، أن تحقق النصر، وقد تعرفت بعد المعركة، من خلال استعراض الأسرى، على خالد بن يزيد العبسي، فأعجبها وسامة الشاب السجين وحسن طلعته، فقد قررت الكاهنة ليس فقط الإبقاء على حياته، وإنما، وتبعاً لعادة بربرية قديمة، تبنيه واتخاذه ابناً لها رغم أنها كانت فعلياً أما لولدين هما: إفران ويزديكان.
الاستعداد للثأر:
بعد انسحاب الأمير حسان ومن معه إلى طرابلس مكث أكثر من خمس سنوات يحاول إصلاح الوضع الداخلي والسيطرة على الوجود الإسلامي في الشمال الأفريقي بسبب سيطرة الكاهنة على أجزاء واسعة من المغرب الأوسط –الجزائر- وأيضاً بسبب انشغال الخليفة عبد الملك بن مروان بفتن داخلية كثيرة وثورات متتابعة في العراق والشام، وفي المقابل عملت الكاهنة كسب محبة سائر قبائل البربر، كما قامت بالإفراج عن ثمانين أسير مسلم عندها، كبادرة حسن نية للأمير حسان التي كانت تعرف قدره جيداً وأنه سيعاود الكرة مرة أخرى، وربما بصورة أشد انتقاماً لهزيمته السابقة.
بعد خمس سنوات من انهزام حسان أمام ديهيا، كتب إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بالواقعة يشرح من خلالها عن أسباب انكساره الفعلية أمام أهل الأوراس وقد قال: "إن أمم بلاد المغرب ليس لها غاية، ولا يقف أحد منها على نهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم" أي أن الرجل قد عزا الهزيمة للتفاوت العددي الكبير.
وفي سنة 79 هـ أرسل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان إمدادات قوية إلى الأمير حسان بن النعمان، وأمره بمواصلة قتال الكاهنة حتى يقضي عليها قضاء مبرماً، وينهي أسطورتها بين قبائل البربر، فدون ذلك لن يستقيم أمر الشمال الأفريقي كله. وبالفعل انطلق حسان بقواته تلهف على الثأر؛ لشرفه العسكري من هذه الداهية.
دور خالد بن يزيد:
كان إبقاء الأسير المسلم خالد بن يزيد في مملكة الكاهنة، واتخاذها له ولداً بالتبني فاتحة خير كبير على قبائل البربر، وذلك أن هذا الأسير المسلم استطاع خلال الخمس سنوات التي قضاها بين البربر أن ينشر الإسلام بينهم، ويحببهم فيه بسبب دماثة أخلاقه، وجميل خصاله، وبساطة فطرته التي تتوافق مع فطرة البربر، حتى إن أبناء الكاهنة أنفسهم "إفران، ويزديكان" دخلا الإسلام عن اقتناع وحب. ومن ناحية أخرى كان خالد بن يزيد عيناً للمسلمين على الكاهنة، ينقل أخبارها بانتظام إلى الأمير حسان بن النعمان، وكانت معلوماته في غاية الأهمية بحيث كان لها كلمة الفصل في هزيمة الكاهنة. فلم يكن خالد يكتف بالمعلومات العسكرية فحسب، بل نقل صورة مملكة جبال الأوراس التي تحكمها الكاهنة كاملة، اجتماعياً وسياسياً ودينياً وعسكرياً.
معركة بئر الكاهنة:
كان لحركة البطل حسان بقواته الجديدة ضجةً في بلاد المغرب العربي، وشعرت الكاهنة بأن النزال هذه المرة سيكون مختلفاً، فأقدمت على خطوة في غاية الحمق، ولا تتناسب مطلقاً مع دهائها وحكمتها التي مكنتها من حكم قبائل البربر لخمس وثلاثين سنة! حيث جمعت قادة القبائل وقالت لهم: "إن العرب لا يريدون من بلادنا إلا الذهب والفضة والمعدن، ونحن تكفينا منها المزارع والمراعي، فلا نرى لكم إلا خراب بلاد أفريقية كلها حتى ييأس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر الدهر".
أطلقت الكاهنة يد رجالها وعسكرها يدمرون الحقول والمزارع والمدن العامرة، فيما يشبه سياسة الأرض المحروقة التي تتبع في تكتيكات الحروب المعاصرة، وقد أصدرت الكاهنة الأوامر بإحراق الأرض، وألا تترك وراءها إلا أطلالاً يتصاعد منها الدخان، وذلك بينما تحارب وهي تتراجع نحو طبرقة (مدينة ساحلية على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الجزائرية التونسية وعلى بعد 150 كلم من تونس العاصمة).
أدت هذه الخطوة الغبية -والغباء جند من جنود الله-لانفضاض قبائل البربر البرانس -بربر الحضر-عن تأييد الكاهنة، وكانوا أكثر من تأثر بهذه الاجراءات التعسفية، وأعطوا بيعتهم للأمير حسان ودخلوا في طاعته، وصاروا معه يداً واحدةً على الكاهنة.
لم تكن تدور بخلد حسان بن نعمان، وهو الذي عقد العزم على الانتقام من الكاهنة إلا فكرة واحدة ووحيدة: وهي تدمير الكاهنة ومعها المتمردين البرابرة وإنهاء تمردهم وغدرهم. وكان خالد بن يزيد قد أبلغه، بأنه لم تعد لديها إلا حامية عسكرية صغيرة فقط، فقد أعطى أوامره لقيادة الجيش بإرسال تحذيرات ودعوات للمحاصرين بالاستسلام قبل الاقتحام وشن الهجوم.
ستدور أحداث المعركة النهائية سنة 82 هـ، في مدينة طبرقة (المدينة الساحلية في شمال غرب تونس، على بعد بضعة كيلومترات من الحدود التونسية الجزائرية). الكاهنة من جهتها، وهي المصممة بدورها على البقاء كملكة للبربر حتى النهاية، خرجت من مخبئها، وهي تمتطي صهوة جوادها، وهي تلوح بسيفها، وكان عمرها في هذا الوقت قد تجاوز المائة والعشرين سنة !! لقد كانت معركة حامية الوطيس لكنها غير متوازنة. وعندما أخذ منها التعب والإجهاد مأخذه، واستنفدت كامل قواها، سقطت ملكة الأوراس، وتولى الأمير حسان بنفسه قتلها، ثم أمر بإلقائها في بئر غائر قريب من مكان المعركة، أطلق عليه فيما بعد اسم "بئر الكاهنة" في جنوب تيبيسة (بلدة جزائرية على الحدود مع تونس).
وبمقتل الكاهنة، انفتحت الطريق وصولاً إلى المحيط الأطلسي والأندلس أمام المسلمين، ودخل البربر في دين الله أفواجاً، وشاركوا في فتح باقي الشمال الأفريقي، وشاركوا في فتح الأندلس، والعجيب أن الأمير حسان سيشكل فرقة عسكرية من البربر الأشداء بعد أن خبرهم في القتال وعرف كفاءتهم، فرقة قوامها اثني عشر ألف فارس، تحت قيادة ابني الكاهنة المحاربة أنفسهما، إفران ويزديكان الذين صارا فيما بعد من قادة الفتح الإسلامي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم