اقتباس
الروس في الأصل مجموعة من القبائل الوثنية التي كانت تقطن في أحواض المجاري العليا لأنهار الفولجا وإلى أحواض المجاري العليا لأنهار الفولجا والدون والدونيا والدينيبر، وتبلغ مساحة أراضيها قرابة المليون كيلو متر مربع، وقد وصفهم الرحالة المسلم (ابن فضلان) في رسالة شهيرة وتكلم عن طباعهم وسلوكهم وعاداتهم، ولقد عرف الروس في التاريخ الإسلامي القديم بالصقالبة، وهو الاسم الذي أطلقه المسلمون على الأرقاء من ذوي البشرة البيضاء المائلة للحمرة، وكانت بلادهم فقيرة جرداء لا زرع فيها ولا ثروات من أي نوع، لذلك اعتمدوا على السلب والنهب والإغارة على الجيران لتأمين معيشتهم.
كان الروس على الوثنية لفترة طويلة على الرغم من انتشار الديانات السماوية في المناطق المحيطة بهم، فلقد كان الروم في جنوبهم الغربي على النصرانية، وقبائل الخرز في ناحية الشرق على اليهودية والإسلام، والبلغار في الشمال الشرقي على الإسلام، وحصل نوع من المنافسة بين المسلمين والنصارى واليهود لكسب القبائل الروسية الوثنية إلى دين كل طائفة، وذلك في أواسط القرن الرابع الهجري، ونظرًا لحالة الضعف الشديدة التي كانت عليها دولة الخلافة العباسية، وبسبب منافسة الدولة الفاطمية الخبيثة في مصر والمغرب، فإن النصارى قد حسموا المنافسة لصالحهم ودخل الروس النصرانية سنة 378هـ - 988م أيام ملكهم فلاديمير، وأصبحت الأرثوذكسية مذهبهم الرسمي، وكان للقسطنطينية دور كبير في تحول الروس من الوثنية إلى النصرانية.
انضم الروس للقتال بجانب الدولة البيزنطية ضد أعدائها وفي مقدمتهم -بالطبع- المسلمين، واعتمد البيزنطيون على الروس في العديد من المعارك بسبب شدتهم وبأسهم في القتال، بل إن مقدمة الجيوش البيزنطية عادة ما تكون من القبائل الروسية، وظل وضع الروس على ذلك الحال، تابعين للدولة البيزنطية حتى ظهر المغول واكتسحوا المشرق كله وقامت لهم عدة دول كبيرة بعد رحيل مؤسسهم الكبير جنكيز خان، وكانت بلاد الروس ضمن أملاك دولة مغول الشمال المعروفين بالقبيلة الذهبية، وكانت دول مغول الشمال واسعة تمتد من أواسط بولندا في الغرب حتى وسط سيبيريا في الشرق، ومن القطب الشمالي المتجمد في الشمال حتى أذربيجان في الجنوب، وكانت عاصمتها مدينة (سراي)، وتقوم مكانها حاليًا مدينة (ساراتوف) في شرق روسيا، وظلت تلك الدولة المسلمة قوية وظاهرة لأكثر من مائة وعشرين عامًا، كان الروس خلالها خاضعين لها وأحد رعاياها، حتى بدأ الضعف يدب في أوصالها الكبيرة، وابتداءً من سنة 762هـ أخذ أمراء وحكام الأقاليم البعيدة بالانفصال عن جسد الدولة، فاستقل الحاج محمد خان بإقليم سيبيريا الغربية وأسس ما عرف تاريخيًا باسم خانية سيبرينا، واستقل الحاج شركس باستراخان، واستقل ماماي بالقرم، ومما زاد الطين بلة قيام الطاغية تيمورلنك باكتساح المنطقة واحتل مدينة سراي سنة 802هـ، ودمرها تدميرًا مهولاً فزاد من فرقة المسلمين، واستقلت قازان عن الدولة، ولم يستطع سلاطين دولة مغول الشمال من وقف مسلسل الانفصال لجسد الدولة، وكان ذلك من حسن طالع الروس وبداية ظهورهم.
كان الروس يكرهون المسلمين بشدة منذ أيام الحروب الإسلامية البيزنطية في القرن الخامس والسادس الهجري، ثم زاد حقدهم وبغضهم للمسلمين بعدما وجدوا أنفسهم تحت حكم دولة مغول الشمال المسلمة، ولم يستطيعوا أن يرفعوا رأسًا لأكثر من قرن من الزمان بسبب قوة الدولة وقتها، فلما أحسوا ببداية ضعف الدولة أخذ أمراء موسكو في التحضير للانفصال عن الدولة، وخلعوا الطاعة فعلاً سنة 783هـ ولكن السلطان (توقتاميش) سلطان دولة مغول الشمال تمكن من إعادتهم للطاعة وأن يدخل موسكو ويؤدب أهلها في نفس السنة 783هـ، ثم حاول الروس مرة أخرى سنة 811هـ ولكنهم فشلوا فقرروا الركون إلى الطاعة والانتظار لفترة حتى تحين اللحظة المناسبة.
في تلك الفترة بدأ نجم الدولة العثمانية يسطع في الجنوب وأخذت في الجهاد على الجبهة الأوروبية وحققت الدولة نجاحات كبيرة في البلقان وشرق أوروبا، ولكن قمة نجاحاتها تمثل في فتح مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ومركز الأرثوذكسية العالمية، وذلك سنة 857هـ، ومن يومها انتقلت قيادة الأرثوذكسية العالمية إلى موسكو، وأصبح الروس هم حماة النصرانية الشرقية، واعتبر الروس أنفسهم الورثة الشرعيين للدولة البيزنطية، وعلى عاتقهم يقع عبء مهمة استعادة المجد المسلوب، وذلك الإرث الديني أدى لإثارة الحمية الدينية عند المواطنين الروس، وبتلك النفسية الدينية المضطرمة التف الروس حول أمير موسكو إيفان الثالث سنة 886هـ وأعلنوا استقلالهم عن دولة مغول الشمال، ومن هذا التاريخ بدأت عهد روسيا القيصرية .
وضع الروس أمام أعينهم في سجل طموحاتهم هدفًا استراتيجيًا بعيدًا وهو استعادة القسطنطينية، ومجد الدولة البيزنطية، وجعلوه أهم أهدافهم، واتبعوا من أجل ذلك سياسة ذكية وكانوا أكثر وعيًا وإدراكًا لأهدافهم من الدول الإسلامية القائمة وقتها الدولة العثمانية، والدولة المغولية، فعملوا على توحيد صفوفهم وقواتهم وكونوا مملكة كبيرة في عهد إيفان الرابع الملقب بالرهيب، لكثرة المجازر التي قام بها بحق مسلمي التتار، وفي نفس الوقت تفتت دولة مغول الشمال لعدة إمارات أو خانات لم تقو واحدة منها منفردة على مواجهة قوة روسيا القيصرية، كما أن العثمانيين -وقتها- كانوا منشغلين بقتال الإسبان والبرتغاليين، ولم يعيروا للقوة الناشئة اهتمامًا لحداثتها، وكان ذلك من أشد أخطاء السياسة العثمانية، إذ إن تلك القوة الناشئة أخذت في التهام أطراف العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا حتى صارت أشد قوة وأكثر بطشًا من العثمانيين أنفسهم بل ومن أي دولة على وجه الأرض وقتها.
اعتبر الروس المسلمين عدوهم الرئيس والوحيد، وكان أمامهم عدة قوى إسلامية في المنطقة، الدولة العثمانية والدولة المغولية، وكلاهما أهل السنة، والدولة الصفوية الرافضية، فتحالف الروس مع الصفويين ضد العالم الإسلامي، وذلك ليتفرغ الروس لمنازلة مغول الشمال، في حين يتفرغ الصفويون الروافض لقتال العثمانيين. استطاع الروس أن يستولوا على دولة مغول الشمال كلها باستثناء بلاد القرم التي كانت وقتها قد دخلت في حوزة العثمانيين، فاحتل الروس إمارات قازان 959هـ، والباشغرد 959هـ، استارخان 961هـ، وأجّل الروس مسألة احتلالها ريثما يشتد ساعدهم لمنازلة العثمانيين ومسلمي القرم.
استغل الروس فرصة وفاة السلطان العظيم "سليمان القانوني" سنة 974ه، والخلافات التي حدثت قبيل رحيله بين أبنائه على ولاية العهد والتي انتهت باختيار "سليم الثاني" الذي كان يعتبر أقل إخوته كفاءة وقدرة على قيادة الدولة العثمانية الكبيرة، وأخذ الروس في التحرش بمسلمي شبه جزيرة القرم، وكان قيصر الروس وقتها هو " إيفان الرابع " الملقب بالرهيب لكثرة من قتل من أعدائه، خاصة من مسلمي القرم، وكان يجمع بين الطموح والهوس الديني، وقد زادت مضايقات الروس للحجاج والتجار المسلمين بعد استيلائهم على "استراخان "، أرسل مسلمو خوارزم والقرم بصورة التحرش الروسي بالمسلمين في القرم إلى السلطان سليم الثاني، باعتبار القرم إحدى الولايات العثمانية. وهنا أرسل السلطان "سليم الثاني" لحاكم منطقة القرم الإسلاميَّة التي كانت تعدُّ من أملاك الخلافة العثمانيَّة يطلب منه سرعة تأديبِ الروس واحتلال عاصمتهم موسكو، وكان حكام الدولة العثمانية يعتبرون روسيا دولة من الدرجة الثانية، لا يُؤبَه لها ولا لخطرها، وكانوا يوالونها بحملات التأديب والإغارة على حدودها دون أيِّ مقاومةٍ تُذكر من جانب الجيش الروسي، ويعهدون بقيادة تلك الحملات الجهادية لمسلمي القرم لخبرتهم بقتال الروس، والعداء المستحكم بينهما.
حاكم القرم في هذه الفترة كان " دولت كيراي " أو " خيري " وكان أجداده وآباؤه من أكثر الناس خبرة بقتال الروس، وكثيرا ما أذلوهم وأجبروهم على دفع الجزية. فلما جاءته الأوامر من الباب العالي بضرورة تأديب الروس وتلقينهم درسا لن ينسوه، صدع على الفور بالأمر، واستنفر القرميين للجهاد ضد الروس، فانتظم له أكثر من مائة ألف مقاتل، وكان سليم الثاني قد أرسل تعزيزات عثمانية مكونة من سرية مدفعية عثمانية، والمدافع العثمانية في هذه الفترة كانت الأقوى والأكبر في العالم، ومعهم فرقة عسكرية من مشاة وفرسان من الجيش العثماني النظامي.
انطلق خان دولة القرم "دولت كيراي" في ربيع عام 1571م بجيش مكون من مائة وعشرين ألف فارس أكثرهم من القرم، واتَّجه مباشرة إلى موسكو، حيث قام بالالتفاف حول التحصينات الدفاعيَّة في "سريوخوف" ومباغتة قوات خفر الحدود الروسية الذين أبيدوا بالكامل، وسرعان ما تشتت شمل الجيش الروسي إلى داخل المدينة الذين بوغتوا بالهجوم، ولم يستطيعوا الصمود أمام نيران المدفعية العثمانية حيث خسر في محاولة صدِّ الهجوم العثماني القوي أكثر من 8000 جندي روسي، والذي لم يتمكن بقيته من الدفاع عن موسكو؛ حيث قاموا بالفرار في مشهد مزر، وطاردهم الجيش الإسلامي الذي قام بحرق حاميات الجند الروس ومعسكراتهم.
كان من حسن طالع الجيش الاسلامي، ومن حظ الروس العَثر، أن هبت ريح قوية نشرت النيران في معظم أنحاء موسكو، وكانت بيوت الروس في هذه الفترة معظمها من الخشب، فسرت النيران فيها بمنتهى القوة، ممَّا دفع سكان المدينة للهرب إلى البوابة الشمالية للعاصمة، وعند البوابة وفي الشوارع الضيقة حدث حَشر كبير من جانب الروس وتدافع وقتال، حتى إن الناس تدافعوا في ثلاث طبقات فوق رؤوس بعضهم البعض، الأعلى يدوس على مَن هم تحته، كما لجأ بعض الروس إلى الكنائس المبنية بالحجر لينجوا من النيران، إلا أن الكنائس الحجرية انهارت إما من شدة النيران أو من تزاحم الناس فيها، في حين حاول بعض الروس الفرار بالقفز إلى نهر موسكو ولكن أغلبهم غرق، كما انفجر مستودَع الذخيرة في "سراي الكرملين" كما كان يطلق عليه وقتذاك، مما أدى إلى اختناق المختبئين في قبوه، واحتراقه بالكامل في مشهد مفزع .
أما إيفان الرهيب المشهور بغروره وتكبره لم يجد ما يفعله سوى الفرار بأقصى سرعة من عاصمة بلاده تاركا إياها وشعبه يواجهون المصير المحتوم، حتى إنه قد ترك بعض أفراد أسرته نفسها للأسر أو القتل، وقد أبيد من جيشه قرابة الأربعين ألفا . ويصف "هاينريش فون شتادين" - وهو ألماني كان في خدمة البوليس السرِّي لإيفان الرهيب - حريقَ موسكو في ذلك الوقت مع هجوم الجيش العثماني بقوله: "المدينة، القصر، قصر أوبريشنينا، والضواحي احترقَت بالكامل في ست ساعات، كانت الطامَّة الكبرى أن لا أحد يستطيع الهرب، فر الناس إلى الكنائس الحجرية هربا من النيران، ولكن انهارت الكنائس الحجرية عليهم ، الناس أيضًا قفزوا في نهر موسكو؛ حيث غرق الكثيرون، انفجرت ذخيرة المدافع في الكرملين وأولئك الذين اختبؤوا في القبو ماتوا اختناقا، وبعد انتهاء الحريق وخروج القوات الغازية أمر القيصر بالجثث في الشوارع أن تلقى في النهر، الذي فاض على ضفَّتيه وأغرق أجزاء من المدينة" .
ويقدِّر المؤرخون عدد ضحايا الحريق من عشرة آلاف إلى ثمانين ألف نسمة، ووصف الأجانب الذين كانوا يزورون المدينة قبل وبعد الحريق انخفاضًا ملحوظًا في عدد سكان المدينة، والقيصر "إيفان الرهيب" تجنَّب المدينة لعدَّة سنوات بعد الحريق؛ نظرًا لعدم وجود سكن مناسب له ولحاشيته. وجاء في كتاب "تاريخ الدولة العثمانية"؛ لمؤلفه "يلماز أوزتونا" يصف نتائج هذه المعركة: "دخل الأتراك موسكو وأحرقوا المدينة، عاد الخان إلى قرم مع 150 ألف أسير، وعلى إثر انتصاره حصل على لقب "تخت - آلان" (كاسب العرش)، وأحرق الأتراك الذين دخلوا منتصرين موسكو حتى سراي الكرملين، وفر معظم الأهالي وأسروا البقية ". وقد استولى الجيش الإسلامي على خزانة القيصر الهارب وقتذاك ضمن ما استولى عليه من غنائم المدينة، وقد بارك السلطان سليم الثاني وقتها حاكمَ القرم "دولت كيراي" على هذه الانتصارات الباهرة؛ بإرساله سيفا مرصعا وخلعة وكتابا سلطانيا، فضلا عن طرد الديوان العثماني للسفراء الروس الذين جاؤوا لإيقاف الغزوات القرمية الإسلاميَّة.
---
1 – التاريخ الاسلامي لمحمود شاكر
2- تاريخ الحروب الدينية المعاصرة
3- تاريخ الدولة العثمانية ليلماز أوزتونا – ترجمة محمود غريب
4- موقع الألوكة
5- موسوعة التاريخ الاسلامي
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم