معركة العقاب

لم يكن أكثر المتشائمين يفكر في السيناريو المروع للتحول التراجيدي الذي وقع في بلاد الأندلس، بعد مرور سبعة عشرة سنة فقط على الانتصار العالمي للمسلمين على الإمارات الإسبانية في معركة الأرك سنة 591ه-1195 ميلادية، والتي أدت إلى خضوع ملوك إسبانيا لسلطان أمير دولة الموحدين، ومسارعتهم بعقد الهدنة معه، إذا بالمسلمين في الأندلس يتعرضون يوم العقاب لأسوأ هزيمة عسكرية لهم منذ أن فتحوا الأندلس؛ أي منذ أكثر من خمسة قرون، وعلى يد نفس القادة الصليبين الذين تلقوا صفعة موجعة قبل سبعة عشرة سنة في الأرك!!

فما هي الأسباب التي قادت إلى هذا التحول الكبير الذي كان فاتحة انهيار قواعد الأندلس الكبرى وحواضر الإسلام فيها الواحدة تلو الأخرى حتى انتهى بالمسلمين الانحصار في جنوب الأندلس بغرناطة على أقل من خمس مساحة دولتهم السابقة في الأندلس؟!

حروب الاسترداد الصليبية

كان لظهور شخصية ألفونسو السادس ملك قشتالة أكبر ممالك إسبانيا الصليبية الموجودة في شمال الأندلس سنة 472ه أثر كبير في تحول دفة الصراع بين المسلمين والصليبين على أرض الأندلس؛ فهو أول ملك إسباني يصبغ حروبه ضد مسلمي الأندلس بصبغة دينية صريحة وواضحة، وأول من لبس شارة الصليب، وذلك قبل ظهور هذه الشارة على مقاتلي الحملات الصليبية الشهيرة على بلاد الشام بسنوات، وهو أول من أطلق شرارة حرب الاسترداد الصليبية؛ لاستعادة الأندلس من يد المسلمين، وقد نجح بالفعل في احتلال طليطلة وطرد المسلمين منها سنة 476ه.

ولكن دخول المرابطين على خط الصراع في الأندلس وإنجادها لأهلها عطل طموحات ألفونسو وحربه المقدسة؛ إذ استطاع المرابطون الانتصار عليه في معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479ه، ولكن رغم هذا الانتصار الكبير إلا تخوف ملوك الطوائف بالأندلس من طموحات أمير المرابطين يوسف بن تاشفين منع من مواصلة الزحف وتحرير طليطلة، فبقيت تحت حكم ألفونسو وصارت بعد ذلك عاصمة الحروب الصليبية الإسبانية وقاعدة ملك نصارى إسبانيا.

ما يستفاد منه: " المسلمون بعضهم أولياء بعض، ينصرون الضعيف، ويحاربون الظلم، ويثأرون لمصابهم، مهما تبعدت أقطارهم، واختلفت ألوانهم، فمظلة الإسلام واحدة، وحماية الأمة ضد خطر الأعداء واجبة على الجميع، الأقرب فالأقرب".

الأوضاع في الأندلس من بعد الزلاقة حتى الأرك

كان انتصار الزلاقة إيذاناً بنهاية حكم ملوك الطوائف، وزوال حقبتهم المليئة بالخزي والعار والنكبات على دولة الإسلام بالأندلس بعد أن تمزقت وحدة الأندلس على أيديهم إلى اثني وعشرين دويلة صغيرة، تتصارع فيما بينها على الحدود المصطنعة وزخارف الدنيا، ولا تبالي بدين ولا أمة ولا وحدة ولا شعوب، فزالوا على يد المرابطين، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً لقوة فتية لم تتلوث بما تلوث بعد ملوك الطوائف من الخلاعة والانحلال والخيانة، فتنفس المسلمون الصعداء، وخبت نار الصليبين حيناً من الدهر.

لم يكن خلفاء يوسف بن تاشفين على نفس مستواه القيادي والعسكري، فأخذت الأمور تتفارط من قبضتهم، وأطلّ الصليبيون الإسبان برؤوسهم مرة أخرى، وفي نفس الوقت فقد المرابطون كثير من نقائهم وصفائهم الصحراوي، وتلطخوا بأوضار المدنية الأندلسية، فوهنت عزائمهم القوية، ولانت قبضتهم الحديدية، فكان من الطبيعي ظهور قوة فتية جديدة هي قوة الموحدين استطاعت الإطاحة بحكم المرابطين وحكم عدوتي المغرب والأندلس تحت راية واحدة.

نستفيد من هذا: أن سنة التدافع والاستبدال من أكثر السنن عملاً في الدول والجماعات والأفراد؛ فالله يدفع الناس بعضهم ببعض حتى تسقيم الحياة وتعتدل الموازين المختلة بسبب إفساد البشر، والله يستبدل كل من يتنكب عن طريق السلامة ويؤثر الأرض والخلود إليها على القيام بأعباء الدين وواجب الخلافة وحماية الدين؛ مصداقاً لقوله -تعالى-: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

الأندلس تحت حكم الدولة الموحدية

كان عبد المؤمن بن عليّ (487- 558هـ/ 1094 - 1163م) أول حاكم لدولة الموحدين، وحينما تولى حكم الموحدين أصلح البلاد وأعادها إلى ما كانت عليه أيام المرابطين الأولى، فلما تُوفِّي في عام 558 هـ/ 1163م، خلفه في الحكم ابنه محمد ولكنه خُلع لفسقه، ثم تولى أخوه يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ، فنظم الأمور في الأندلس والمغرب، وسار في الناس سيرة حسنة، وكان محباً للعلم والعلماء خاصة علماء الحديث، وقد استشهد في موقعة شَنْتَرِين سنة 580هـ/ 1184م، وقيل أنه لم يستشهد فيها، بل اعتزل الحكم، وساح في الأرض طلباً للعلم والزهد والتأمل، ولم يُعلم خبره.

تولي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن -المعروف بأبي يوسف يعقوب المنصور- الحكم بعد أبيه، وقد لُقب في التاريخ الأندلسي بالمنصور لتشبه بالحاجب المنصور في سياساته وغزواته، وقد استطاع أن يوحد المغرب والأندلس، بعد أن قضى على بعض البؤر المعارضة لحكم الموحدين من أنصار المرابطين، وحقق أقصى اتساع للدولة في عهده، ثم توج جهوده الحربية بالانتصار على نصارى إسبانيا في موقعة من أشهر مواقع التاريخ الإسلامي وهي موقعة "الأرك"، التي شبهها المؤرخون بموقعة الزَّلاَّقة.

 تُوُفِّي المنصور سنة 595 هـ/ 1199م، ومن بعده يتولى ابنه الناصر لدين الله، ولم يكن على نفس مستوى أبيه من القيادة والحزم والدهاء السياسي، فأسلم دفة أموره إلى وزيره وحاجبه أبي سعيد بن جامع، فكان أحد أهم أسباب فشله وبوار حكمه وهزيمته العالمية في معركة العقاب.

نصارى إسبانيا بعد هزيمة الأرك

نصارى إسبانيا كانوا منقسمين إلى ثلاث إمارات صليبية هي: قشتالة أو إسبانيا القديمة وهي أكبرها، ونافار، وأراجون، وكان بينهما صراعات تاريخية على الحدود ومناطق النفوذ، أحسن المسلمون استغلالها في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى كان الثلاثة يتحالفون ضد المسلمين.

أحسن المنصور الموحدي اللعب على أوتار الخلاف بين الممالك الإسبانية، فاستمال أمير نافار " سانشو السابع" إلى جانبه، على أن هذه الجهود التي بذلها المنصور لتمكين سلطانه، وإضعاف ملوك إسبانيا، لم تلبث أن تراخت عزائمها بموته سنة ١١٩٩م/٥٩٥ﻫ.

حاول الناصر الموحدي السير على نهج أبيه في شقّ الصف الإسباني وإرهاقه بالغزو المستمر، وتنظيم شئون الأندلس إلا إن انشغاله بالقضاء على دولة بني غانية الموالين للمرابطين في جزر البليار-وما كان عليه من ضرر لو أعرض عنهم-، أعطى نفساً ومساحة للصليبيين حتى يتحركوا من جديد وينظموا صفوفهم ويستعدوا لجولة جديدة، ولكن بنكهة عالمية وليست محلية.

ما يستفاد منه: الانشغال بالأمور الجانبية والأهداف الفرعية والخلافات الداخلية عن العدو الأصلي المتربص بالأمة دفعها لكثير من المشاهد المأساوية والمعارك الخطأ، حيث أعملت الأمة سيفها في نفسها، بدلاً من أن توجه سلاحها لعدوها، فخسرت كثيراً وتراجعت وانكسرت كثيراً.

البابا أنوسنت الثالث والحملة الصليبية على الأندلس

قبل وفاة المنصور الموحدي بشهور تولى كرسي البابوية في روما أحد أهم وأخطر الباباوات في تاريخ الكاثوليكية؛ وهو البابا بعد أنوسنت الثالث، والذي يعدّ واحدًا من أكثر الباباوات نفوذًا وتأثيرًا في تاريخ البابوية، وقد كان له تأثير كبير على أنظمة الحكم المسيحية في أوروبا، حيث كان يرى أنه أعلى سلطة من كل ملوك أوروبا، وقد توسع في استخدام عقوبة الحرمان الكنسي وغير ذلك من العقوبات لإجبار الأمراء على الإذعان لقراراته. أضف إلى ذلك أنه كان شاباً في السابعة والثلاثين من العمر يفور بحمية الشباب وعزيمتهم، وهو بذلك أحد أصغر من تولى كرسي البابوية في التاريخ.

كان البابا أنوسنت مثالاً متكاملاً ونموذجاً صارخاً لفكرة البابا المحارب، وفكرة تجسيداً لفكر الحملات الصليبية التاريخية؛ فقد قرر أنوسنت إعلان الحروب الصليبية على جميع مخالفي الكاثوليكية في الأرض!

فقد أطلق الحملة الصليبية الرابعة على الشام لاستعادة بيت المقدس، ثم قرر تحويل دفتها نحو القسطنطينية لاحتلالها وضم كنيستها الأرثوذكسية لسيطرته، وإنهاء ما أسماه بالشقاق الكبير في الكنيسة. ثم أعلن والحملة الصليبية الألبيجينية ضد الكاثاريين في جنوب فرنسا، وهي طائفة نصرانية صوفية اعتبرتها الكنيسة مارقة يجب قتالها، فقُتل في تلك الحملة وشُرد الملايين في فرنسا. ثم قرر إعلان الحرب الصليبية على مسلمي الأندلس؛ استجابة لنداءات ألفونسو التاسع ملك قشتالة الذي استغل فرصة الهدنة مع المسلمين في توطيد حكمه، وتصفية خلافاته مع جيرانه، وجلب ودّ منافسيه السياسيين، فأجبر أنوسنت الثالث ملوك نافار وأراجون على مصالحة ألفونسو التاسع، واتفقوا جميعاً على إعلان الحرب الصليبية على مسلمي الأندلس، ولبسوا شارة الصليب، وأعلن أنوسنت المغفرة والجنة لكل من يشارك في هذه الحملة، والنار والعذاب لكل من يتخلف عنها.

ما يستفاد منه: وحدة الكلمة، وتوحيد الصفوف، ونبذ الخلافات، وإقامة الراية، وتقديم الدين، كلها أمور لا غنى عنها لأي جيش يريد الانتصار، بغض النظر عن دينه ودعوته؛ فالنصر لا يتنّزل على المتفرقين المختلفين المتدابرين فيما بينهم.

معركة العقاب

بدأت المعركة بحملة استفزاز عسكرية قادها ألفونسو التاسع بالهجوم على بعض الحصون والمدن المسلمة عام 1209م؛ فاقتحم حصن رباح في وسط الأندلس، وأغار على جيان وبياسة وأجزاء من مرسية. وأخذت الإمدادات الصليبية الأوروبية تتقاطر على إسبانيا خاصة من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وجاءت بعض فيالق من فرسان المعبد الشهيرة بعد أن هُزمت وطُردت من بلاد الشام، كما جاء فرسان الهيكل وفرسان الداوية المشهورين، واجتمع عند ألفونسو التاسع ملك قشتالة قرابة المائتي ألف مقاتل صليبي من شتى أرجاء أوروبا.

إثر ذلك أعلن السلطان محمد الناصر الجهاد وأمر بتجهيز الجيوش الإسلامية لإيقاف المد الصليبي ويذكر بعض المؤرخين المسلمين أن تعداد الجيش الإسلامي وصل لثلاث مئة ألف مقاتل وآخرون يوصلون العدد لنصف مليون مقاتل لكثرة المتطوعين فيه.

أول الأخطاء:

انطلق الناصر الموحدي بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق، ثم توجّه إلى منطقة عُرفت باسم العِقَاب -وذلك لوجود قصر قديم كان يحمل هذا الاسم في تلك المنطقة- وقيل العُقاب بضم نسبة إلى الطائر المعروف؛ لأنه كان يسكن قمم هذه المنطقة، وهي تلك المنطقة التي دارت فيها الموقعة.

دخل الناصر الموحدي أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وفي أول عمل له حاصر قلعة سَالْبَطْرَة، وكانت قلعة كبيرة وحصينة جدا وبها عدد قليل من النصارى، وكانت تقع في الجبل جنوب طليطلة، لكن حصانة القلعة أعجز المسلمين عن فتحها، فأشار قادة الأندلسيين والموحدين على الناصر بأن يترك حامية عليها ثم يدعها ويتجه إلى جيش النصارى في الشمال؛ وذلك خوفا من إنهاك قوتهم فيما لا طائل من ورائه، ولمباغته الصليبيين قبل تكامل استعداداتهم وقدوم المساعدات البابوية لنجدتهم، ولكن الناصر الموحدي رفض هذا الأمر واستمع لرأي وزيره ابن جامع الذي رأى أنه لا يجب أن تُجوّز هذه القلعة، فظل يحاصرها طيلة ثمانية أشهر كاملة، كانت كافية جداً لقدوم أكثر من مائة ألف مقاتل من أوروبا لنجدة ألفونسو.

ما يستفاد منه: الاستبداد بالرأي، والإعراض عن الشورى، وسدّ الأذن عن سماع النصيحة من ذوي التجربة والخبرة، كلها أمور تورث الهزيمة وتسبب الخذلان، والله-تعالى-يقول: (وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ) ومهما كان الإنسان ذكياً وفطناً وذا خبرة وتجربة إلا إنه دائماً في حاجة لمن ينصحه ويرشده ويبصره؛ لذلك ما أفلح مستبد أبداً ولو بعد حين.

ثاني الأخطاء:

أثناء انشغال الناصر وجيوشه بمحاصرة حصن سالبطرة استطاع الصليبيون الهجوم على حصن رباح الاستراتيجي، وهي قلعة إسلامية حصينة كان قد تملكها المسلمون بعد موقعة الأرك، وكان على رأسها القائد البارع الأندلسي الشهير أبو الحجاج يوسف بن قادس وكان معروفاً بشجاعته وحنكته العسكرية. طال أمد الحصار حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يفلت منه بعد أن بدأت بعض أسوار القلعة تتهاوى أمام جيش الصليبيين.

أراد أبو الحجاج يوسف بن قادس أن يحقق الأمن والأمان لجيشه، وأراد أن يتحيز إلى فئة المؤمنين وينضم إلى جيش المسلمين، فعرض على النصارى معاهدة تقضي بأن يترك لهم القلعة بكامل المؤن وكامل السلاح على أن يخرج هو ومن معه من المسلمين سالمين؛ ليتجهوا جنوبا فيلتقوا بجيش الموحدين هناك ودون مؤن أو سلاح. فوافق ألفونسو التاسع على العرض، وسمح للمسلمين بالخروج، فاعترض جيش البابا أو الجيش الصليبي الأوروبي على الأمر؛ فقد كانوا يرون أنهم ما أتوا من أبعد بلاد أوروبا ومن إنجلترا وفرنسا والقسطنطينية إلا لقتل المسلمين؛ فلا يجب أبدا أن يتركوا ليخرجوا سالمين، وكان ألفونسو أكثر خبرة منهم بالمسلمين. فلقد علم أن الغدر بالحامية بعد استسلامها سوف يكون له عواقب وخيمة فيما بعد، حيث سيقاتل المسلمون حتى الموت ولن يستسلموا لهم مهما كانت العروض مغرية. وفي النهاية انسحب بعض الفيالق الصليبية الأوروبية من القتال وقفلوا عائدين إلى بلدانهم.

حين عاد القائد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر الموحدي، وعندما علم منه أنه قد ترك قلعة رباح وسلمها بالمؤن والسلاح إلى النصارى، أشار عليه الوزير السوء أبو سعيد بن جامع بقتله بتهمة التقاعس عن حماية القلعة، فلم يتردد الناصر وأمره بقتله فوراً، فأدى بذلك لوقوع تذمر وسخط كبير داخل الجيش الإسلامي خاصة بين القوات الأندلسية لما رأته من ظلم بيِّن في قتل ابن قادس، ووقعت النفرة بين مكوني الجيش الإسلامي؛ المغاربة والأندلسيين، وهو ما أثر فيما بعد على مجريات القتال.

ما يستفاد منه: لاشك أن قتل ابن قادس بهذه الصورة كان خطئاً فادحاً وغير مبرر من الناصر سببه وزيره المشئوم ابن جامع، فقتْل ابن قادس مرفوض شرعاً وعقلاً وعرفاً وسياسياً وعسكرياً؛ فابن قادس قد اجتهد في المسألة، وحقن دماء المسلمين، وانحاز إلى الفئة المؤمنة، فلعله يقتل ويتهم بالخيانة؟

وعلى فرض ارتكابه لجريمة ما؛ فإن الحدود والعقوبات لا تطبق في أرض المعركة وفي قبالة العدو المتربص، وذلك لدرء الفتن وسدّ الطريق على نخس الشيطان بين المسلمين والتحريش بينهم؛ فكيف غابت كل تلك الأمور عن عقل الناصر الموحدي وهو يقتل قائده أمام أعين الناس؟!

ثالث الأخطاء وأكبرها

لم يكتف الناصر الموحدي بما فعل من أخطاء استراتيجية فادحة حتى أكمل الطامة بتنظيم عسكري للقوات الإسلامية لم يراع توازن القوى وقيمة العدو المواجه؛ فقد غرته جموعه الكبيرة ودخله الكبر من ضخامتها، فلم يهتم بالتنظيم القتالي الملائم لأرض المعركة وطبيعة تشكيل العدو. فوضع قوات المتطوعين المغاربة في المقدمة وجعل الجيش النظامي في الخلف. ومعروف أن المتطوعين أصحاب شجاعة وحمية وصبر في القتال، ولكنهم في نفس الوقت يفتقرون إلى الخبرة القتالية ولا يعرفون شيئاً عن فنون القتال والخطط الحربية والتحركات الميدانية للقوات أثناء القتال. لذلك كان من الطبيعي أن تكون الصدمة الأولى في القتال لصالح الصليبيين الذين جعلوا في مقدمة جيوشهم قوات النخبة من فرسان قشتالة وفرسان الهيكل والداوية المعروفين بشراستهم القتالية، وخبرتهم الطويلة في المعارك.

الصدام المرعب

وفي صبيحة يوم 16 يوليو 1212م الموافق 15 صفر 609ه، كانت الأندلس على موعد مع معركة مصيرية فاصلة وحاسمة في حياة دولة الإسلام في الأندلس، حيث اصطدم الجيشان الإسلامي والصليبي على أرض سفح جبل الشارات، في واد يسميه الإسبان نافاس قرب بلدة تولوسا وهذا سبب تسميتها بمعركة لاس نافاس دي تولوسا، ووقعت كذلك قرب حصن أموي قديم يسمى حصن العقاب العُقاب (بضم العين) ولذلك تسمى في التاريخ العربي باسم معركة العقاب أو معركة حصن العقاب.

وعلى أرض المعركة دفع الناصر الموحدي ثمن كل أخطائه مجتمعة، ورغم التفاوت الكبير بين الجيشين في العدد والعتاد إلا إن الهزيمة كانت من نصيب المسلمين، وقُتل منهم عشرات الآلاف، ووقع الخذلان في صفوف المسلمين لسابق ما حدث بينهم من خلافات بين مغاربة وأندلسيين، وقُتل معظم المتطوعين وفيهم العلماء والزهاد والعباد والصالحين، وقُتل ابن الناصر الموحدي أمام عينيه، واستبسل حرس السلطان في الدفاع عن خيمته بعد أن انصدعت ميمنة وميسرة الجيش الإسلامي وانكشف قلبه أمام غارات الصليبيين، ووقعت الهزيمة بقدر الله على المسلمين. وفر الناصر الموحدي من أرض المعركة ولم يكتف بهذا الفرار، بل ارتكب بعدها خطأ استراتيجيا قاتلاً بأنه لم يتحصن بالمدن القريبة من أرض المعركة مثل بياسة وأوبدة، وكلتاهما من المدن الحصينة القوية، بل واصل انسحابه حتى إشبيلية وترك هاتين المدينتين الكبيرتين بلا حامية أو دفاع، فاحتلهما الصليبيون بسهولة وفتكوا بأهلها جميعاً.

عيد انتصار الصليب

غنم الصليبيون غنائم ضخمة من المعركة، وحققوا مكاسب سياسية وعسكرية أضخم وأخطر. فبعد انتهاء المعركة مباشرة تقدم الصليبيون تجاه حصن مدينة أوبدة واستردوا الحصن والمدينة وقتلوا 60 ألفا من أهلها، ثم توالت بعد ذلك كبرى قواعد الإسلام في الأندلس وانهارت معظم حواضرها؛ مثل إشبيلية وقرطبة وجيان وقادس وكان أهم ما غنمه الإسبان من أرض المعركة؛ راية دولة الموحدين الشهيرة وهي حمراء اللون مزركشة بصورة بديعة، وهي الراية التي يتم استعراضها حتى اليوم في الاحتلال الرسمي للإسبان بالانتصار فيما يطلقون عليه عيد انتصار الصليب، في إشارة لأهمية ظفر الصليبيين على المسلمين يوم العقاب. (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيْدِ).