اقتباس
لم يكن إبراهيم باشا جباناً أو عسكرياً غير قدير، فحياته العسكرية الطويلة مليئة بالشرف ولكنه ارتكب هذه الخيانة التي لا يصدقها العقل؛ لإسقاط مصطفى باشا لا غير، وقبل قطع رأسه، قال للشاويش باشي (رئيس مرافقي السلطان): "قل للسلطان لا يستطيع أحد أن يتفادى ما فات غير مصطفى باشا". يقصد بذلك ألا يعزل السلطان، مصطفى باشا بسبب الهزيمة وأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يزيل آثار الهزيمة هو مصطفى باشا" في إشارة لندمه على خيانته ورغبته في إصلاح بعض ما تسبب فيه بخيانته..
من المشاهد التاريخية التي تكاد تتكرر في كل الهزائم الكبرى التي تعرضت لها الأمة الإسلامية؛ مشهد الخيانة، فكم من دول سقطت، وجيوش هزمت، وانتصارات تحولت إلى انكسارات، وإنجازات أصبحت نكبات، بسبب الخيانة. فالخيانة هي أكبر فواعل الهزيمة في الأمة وأكبر مسببات تراجعها الحضاري والسياسي. والعجيب أن معظم أسباب الخيانة يرجع إلى أهواء شخصية وأغراض دنيوية ورغبات دنية. وهو ما سيتضح جلياً في معركتنا تلك.
الدولة العثمانية والإمبراطورية الرومانية المقدسة:
الدولة العثمانية من أطول الدول الإسلامية العالمية في التاريخ؛ إذ استطاع العثمانيون الحفاظ على وجودهم على مسرح الأحداث العالمية طيلة ستة قرون وربع قرن، خاضوا خلالها مئات الحروب والمعارك، حققوا خلالها أعظم الانتصارات، ولم تخلُ هذه الحروب من هزائم وانكسارات كان لها انعكاساتها على مسار التاريخ لهذه الدولة العريقة.
كان للدولة العثمانية الكثير من الخصوم الإقليميين والدوليين بسبب سياستها التوسعية القائمة على إستراتجية مواصلة الجهاد ضد أعداء الإسلام مما جعلها تصطدم بالقوى العالمية القائمة وقت نهوض الدولة العثمانية، ومن أبرز خصوم الدولة العثمانية المسلمة المجاهدة؛ الإمبراطورية الرومانية المقدسة وكانت في الأساس تكتلا للأراضي الجرمانية في وسط أوروبا في فترة القرون الوسطى، وكانت تعرف أيضاً بالإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية وذلك من أواخر القرن الخامس عشر فصاعداً. سميت بالإمبراطورية الرومية نسبة للإمبراطور الرومي ـ الألماني الذي يحكمها ويُلقب بهذا اللقب. بدأت هذه الإمبراطورية من عهد شارلمان الذي توجه البابا ليو الثالث شارلمان بوصفه إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة في 25 ديسمبر 800 م.
كان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابويه والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 م لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على الأمراء الإقطاعيين وغيرهم؛ لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية؛ لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن بألمانيا، لا روما، عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوروبا الشمالية.
بلغت الإمبراطورية الرومانية المقدسة أوج قوتها وأقصى اتساعها تحت حكم (أوتو الكبير) سنة 962 م وشملت ألمانيا والنمسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا وبولندا وفرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا وكل الإمارات الصغيرة في أوروبا الغربية. وقد اشتركت هذه الإمبراطورية في الحملات الصليبية الشهيرة على بلاد الشام في ظل آل هوهنشتاوفن، بداية من الإمبراطور كونراد الثالث العرش سنة 1138 م، كان فريدريك الأول بربروسا ثاني سلالة هوهنشتاوفن (ملكاً في سنة 1152 وإمبراطوراً من عام 1155 حتى 1190) أول من دعا الإمبراطورية ب (المقدسة) وكان أحد أبرز قادة الحملة الصليبية الثالثة على بلاد الشام.
العثمانيون وفيينا عاصمة الإمبراطورية الرومانية:
احتلال فيينا عاصمة الإمبراطورية الرومانية كان حلمًا طالما راود السلاطين العثمانيين؛ لما تمثِّله من أهمية استراتيجية للسيطرة على خطوط التجارة والمواصلات في القلب الأوربي؛ وأهمية رمزية بغلبة الدولة الإسلامية على الدولة النصرانية ، لذلك حاول العثمانيون عدة مرات فتح فيينا، ولكن كان عليهم قبول الوصول إلى أسوارها أن يسيطروا على أوروبا الشرقية والوسطى بأكملها، وهي المهمة التي استغرقت العهد العثماني بأكمله حتى تم لهم المراد من السيطرة على قلب أوروبا بعد الانتصار العالمي في معركة (موهاكس) أو (موهاكج) في عهد السلطان العثماني الأشهر (سليمان القانوني)، والتي انتصر فيها على ملك المجر الغادر (لايوش)، والذي كان يمثل رأس حربة العالم النصراني في مطلع القرن الهجري. دخلت جيوش القانوني عاصمة المجر بودابست في (3 ذي الحجة 932هـ/10 سبتمبر 1526م)؛ لتجعل من المجر ولاية عثمانية أخرى وتكرس السيطرة المطلقة للعثمانيين في وسط وشرق أوربا، وقد استطاع العثمانيون احتلال بودابست بجزأيها الشرقي والغربي عام 1541م. الانتصار العالمي في موهاكس دفع السلطان سليمان لتحقيق حلم العثمانيين القديم بفتح فيينا بعد أن تم لهم الحلم الأول بفتح القسطنطينية أيام محمد الفاتح.
أعد الخليفة سليمان القانوني جيشاً إسلامياً بلغ زهاء 120 ألف مقاتل مدعمين بثلاثمائة مدفع؛ لغزو النمسا وفتحها وجعلها ولاية عثمانية. وكان فتح فيينا أعظم دليل على قوة الدولة العثمانية وأقصى توسع لها في وسط أوروبا في أوج مجد العثمانيين تحت حكم السلطان سليمان القانوني. أيضاً مثل هذا الحصار بداية مرحلة استمرت لمائة وخمسين عامًا من الصراع بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الرومانية المقدسة تخللتها العديد من الهجمات والمعارك والتي بلغت ذروتها في معركة فيينا سنة 1683 والتي بدأت الحرب التركية العظمى التي استمرت لخمسة عشر عاما.
حاصر العثمانيون فيينا قرابة الشهر ولكنهم في النهاية اضطروا لرفع الحصار عنها بعد أن استغل الصفويون الروافض غيبة الجيوش العثمانية وقاموا باحتلال بغداد وقتل الآلاف من أهلها السنّة وهدموا المساجد والمدارس السنية، فكر العثمانيون لنجدتها، ناهيك عن عد فيينا عن حاضرة الخلافة في اسطنبول وامتداد خطوط النقل وراء الجيش لمسافة طويلة، وانتشار الأمراض في صفوف الجند. وكانت تلك هي المرة الأولى التي لم يفز فيها السلطان سليمان بالنصر، وكانت خسائر العثمانيين 14 ألف شهيد وجريح.
بسبب فشل هذا الحصار قام أهل فيينا بخبز عجينة على شكل هلال الذي كان رمزاً للجيش العثماني، وكانوا يلتهمونها انتقاما لمدينتهم التي تعرضت لأذى العثمانيين، أصبح اسم هذه العجينة الشهيرة حالياً والتي تسمى (كروسان).
وفي (19 رمضان 938هـ - 25 من إبريل 1532م) سار السلطان سليمان القانوني بقواته قاصداً فيينا لفتحها، ومحو ما لحقه من الفشل أمام أسوارها، فلما وصل إلى مدينة (نيش) ببلاد الصرب وجد في انتظاره سفراء من قبل (فرديناد) أرشيدق النمسا والذي كان أحد أهم أسباب حصار فيينا الأول، فقابلهم مقابلة باهتة على عكس مقابلته للسفير الفرنسي الجديد، ثم تحرك بقواته البالغة 200 ألف مقاتل وفتح في طريقه إلى فيينا عددًا من الحصون والقلاع، ولما اقترب منها مال إلى جهة اليسار قاصداً إقليم (إستيريا)، ومنها عاد إلى بلجراد مرة أخرى بدون أن يحاصر فيينا بعدما علم باستعدادات ملكها للدفاع عنها وجمعه لقوات كبيرة للتصدي للعثمانيين، بالإضافة إلى اقتراب فصل الشتاء الذي لا يمكن معه استمرار الحصار بكيفية تضمن فتح المدينة.
الدولة العثمانية وأزمة القيادة الصالحة:
بعد وفاة سليمان القانوني دخلت الدولة العثمانية في مرحلة جديدة اتسمت ببداية التراجع عن القيادة والتصدر العالمي، فلم يكن خلفاء القانوني على نفس مستواه السياسي والعسكري، وبدأت الدسائس والمؤامرات تؤثر على مكانة الدولة، وزاد الطين بلة تدخل نساء القصر وحاشية السلطان في القرارات الهامة، وحصل صراع على الحكم بين أبناء السلطان أحمد الأول، وبعد شد وجذب بين أمهات الأمراء وتدخلات قيادات الإنكشارية، أصبح الطفل محمد الرابع ابن السبع سنين سلطاناً للدولة العثمانية العظيمة.
كان من الطبيعي أن يكون وصول مثل هذا الصبي الصغير لمثل هذا المنصب محفزاً قوياً لأن تمتلئ الدولة بالفوضى والاضطرابات، ولكن قدّر الله -عز وجل- وجود صدراً أعظم في هذه المرحلة كان له دور كبير في الحفاظ على هيبة الدولة وتماسكها هو الصدر (محمد كوبريلي) باشا وكان قائداً قديراً وسياسياً محنكاً، عاصر أمجاد العثمانيين في شبابه، ثم رأي تراجع منحنى القوة والنفوذ العالمي للدولة العثمانية، فاكتسب خبرات مكنته من وقف تدهور الدولة العثمانية وتأجيل سقوطها المدوي لقرنين من الزمان، ومع ذلك لم يسلم محمد باشا من المؤامرات فقتل على يد أنصار (كوزم خاتون) أم السلطان إبراهيم الأول وأقوي شخصية نسائية في تاريخ الدولة العثمانية.
تولى أحمد فاضل باشا كوبريلي الصدارة بعد مقتل أبيه، فكان صنو أبيه في حسن القيادة والسياسة والسير بمركب الدولة في أمان وسلام حتى توفي سنة 1087هـ، فخلفه صهره زوج أخته قرة مصطفى باشا ولم يكن كأسلافه صاحب إمكانات، وكان مشهورًا بالتهور والعصبية والسرعة في اتخاذ القرارات لذلك دخل في صدامات كثيرة مع قادة الدولة وولاتها ورجالها، سيدفع والدولة كلها ثمناً غالياً لها.
الدولة العثمانية والاستفزازات الألمانية:
الدولة العثمانية كانت تسيطر فعلياً على أوروبا الشرقية ومعظم أوروبا الوسطى، فالمجر ورومانيا والبلقان الكبير والتشيك وسلوفاكيا بالكامل، بالإضافة إلى 28 قلعة بالمنطقة كل ذلك تحت سيطرة العثمانيين.
كما قلنا كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة تحت حكم أسرة الهابسبورج، وقد عانت هذه الإمبراطورية بدورها من الضعف والتراجع كما حدث للعثمانيين، فقد اندلعت الثورة البوهيمية ضد إمبراطورية الهابسبورج والتي عرفت بحرب الثلاثين عاماً؛ لأنها دامت إلى عام 1648 وانتهت بمعاهدة فيستفال في عهد فرديناند الثالث، والتي أفرزت وضعاً سياسياً جديداً أصبحت فيه السيطرة الفعلية للألمان.
بدأت ألمانيا في تبني سياسة طويلة الأجل من أجل استعادة السيطرة على أوروبا الوسطى من العثمانيين على أن تكون البداية في استعادة سلوفاكيا، وبسط سيطرتها على منطقة ترانسلفانيا (غرب رومانيا)، وذلك دون أن تدخل مع الدولة العثمانية في حرب شاملة، وكانت هذه السياسة تغضب الصدر الأعظم "قرة مصطفى باشا"، وأخذت تسيطر عليه فكرة توجيه ضربة قوية لألمانيا؛ لكف يدها عن التدخل في شئون المجر.
استطاع الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا إقناع السلطان العثماني محمد الرابع والديوان الهمايوني (مجلس الوزراء) بإعلان الحرب على ألمانيا، واتُّخذ هذا القرار في شعبان (1093هـ - 1682م) وتحرك الجيش العثماني وعلى رأسه السلطان من أدرنة حتى بلجراد، التي بقي فيها السلطان، أما الجيش فتحرك تحت قيادة الصدر الأعظم من بلجراد في جمادى الأولى (1094هـ - 1683م) للاستيلاء على النمسا، وقد وُصف هذا الجيش بأنه لم تتمكن أية دولة حتى ذلك التاريخ من أن تجمع جيشاً مثله، وتسبب ذلك في قلق العالم المسيحي في أوروبا وعلى رأسه ألمانيا ، وأكل القلق قلوب الأوروبيين إلى أين يتجه هذا الجيش العرمرم ؟!.
الحرب العالمية بين الهلال والصليب:
أخذت الحرب بين العثمانيين والألمان طابع الحرب بين الإسلام والمسيحية، فوعد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بتقديم قوات فرنسية للألمان للقتال إلى جانبهم، وساندت إنجلترا ألمانيا ضد العثمانيين وكذلك هولندا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، ووجه بابا روما دعوة إلى كافة المسيحيين للجهاد المقدس ضد العثمانيين، فانضمت بولونيا والبندقية والدانمارك إلى هذا التحالف المقدس.
بدأ قرة مصطفى باشا المعركة بداية العمالقة، إذ اكتسح سلوفاكيا ضاربًا كل الاستحكامات العسكرية التي كانت في طريقه، متجهًا إلى قلعة نوهزل، وهي تقع شمال غرب بودابست، على الشرق من فيينا بنحو 110 كم، ومن براتسلافيا بنحو 80 كم، وقد حصَّنها الألمان، وجعلوها فائقة الاستحكام؛ لكي تُصبح أقوى قلاع أوربا، ورمز الإمبراطورية الرومانية في قلب أوروبا، وبدأ الجيش العثماني في حصارها في (13 محرم 1074هـ/ 17 أغسطس 1663م).
استمرَّ حصار العثمانيين للقلعة 37 يومًا؛ مما اضطر قائد حامية القلعة إلى طلب الاستسلام، ووافق الصدر الأعظم على ذلك؛ بشرط جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخائر، وقد أحدثت هذه الحملة دويًّا هائلاً في أوربا، وأدخلت الرعب والهلع في قلوب ملوكها عامة. وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة، استسلمت حوالي 30 قلعة نمساوية للجيش العثماني. وترتب على هذا الفتح العظيم أن تَقَدَّم قرة مصطفى بجيوشه فاتحًا إقليمي مورافيا (في تشيكوسلوفاكيا)، وسيليزيا في وسط أوروبا.
كان فتح قلعة (نوهزل) التي استعصت على السلطان سليمان القانوني مغرياً للصدر الأعظم وقائد الجيوش العثمانية (قرة مصطفى) لئن يفكر في اقتحام أسوار فيينا وتحقيق إنجاز تاريخي لا يقل روعة عن إنجاز فتح القسطنيطينية، فعقد مجلس حرب دعا له كل القادة وأعلن أنه سيستولي على فيينا، وأنه سيملي شروطه على ألمانيا في هذه المدينة العنيدة (فيينا)؛ لأن الاستيلاء على (يانق قلعة) المدينة التي تعتبر مفتاح فيينا وتقع على بعد 80 كم شرقي فيينا على الضفة الغربية لنهر راب، لا يمكن أن يخضع ألمانيا ويجعلها تكف يدها عن شئون المجر.
أثار قرار قرة مصطفى باشا حيرة الوزراء وجدلهم، واعترض عليه الوزير إبراهيم باشا الذي أكد أن رغبة السلطان هي الاستيلاء على (يانق قلعة) ومناوشة أوروبا الوسطى بواسطة كتائب الصاعقة العثمانية، وأن الحملة على فيينا يحتمل أن تكون في العام المقبل، فأجابه قرة مصطفى باشا بأنه من الصعب أن يتجمع جيش مرة ثانية بمثل هذه الكثافة والقوة، وهذا الأمر يقتضي إنزال ضربة قوية قاضية بالألمان، وإلا فإن الحرب ستطول معهم، خاصة أن ألمانيا عقدت صلحا مع فرنسا، وأصبحت آمنة من الجانب الغربي، وأن الإمبراطور (ليوبولد) اتفق مع الملك البولندي (سوبياسكي) على استعادة منطقة بادوليا، وأن البندقية لا بد أن تكون ضمن هذا الاتفاق، وبالتالي ستنضم روسيا وبقية الدول الأوروبية لهذا التحالف المسيحي إلى جانب ألمانيا، وهذا يقتضي كسره وتحطيم هذا التحالف الوليد في ذلك العام وإلا فإن الحرب ستطول إلى أجل غير معلوم. فوافق المجلس الحربي على خطة قرة مصطفى وكان بداية الوهن أن السلطان العثماني نفسه محمد الرابع لم يعلم بالحصار إلا بعد بدايته، وقال لمساعديه: لو كنت أعلم ذلك مقدماً ما أذنت.
وصل الجيش العثماني أسوار فيينا بعد 3 أشهر و13 يوماً من خروجه، هُزم دوق لورين الكونت (كارل) الذي عين قائداً عاماً لجيوش الإمبراطورية أمام الجيش العثماني، فبدأ في جمع جيوشه في شمال غربي فيينا وأخذ ينتظر الجيوش التي ستأتي من أوروبا، وترك الإمبراطور ليوبولد الأول فيينا وابتعد والشعب الغاضب يصيح ويصرخ، ونهب الشعب الغاضب، سراي الإمبراطور وبقي دفاع فيينا على عاتق الكونت العجوز (إرنست) وكانت فيينا تعتمد على مدافعها التي تعد بالآلاف، وأسوارها المتينة وخنادقها وقوات الإمدادات التي ستصلها. فتح القائد حسين باشا براتسلافا واغتنم تاج إمبراطور ألمانيا الموجود فيها، وبعدها تم الاستيلاء على كامل سلوفاكيا إلى حد مورافيا وغاليجيا على مسافة 30 كلم عن شرق فيينا، وصل الأتراك كذلك إلى حد بافيرا.
كان الإمبراطور ليوبولد في لينز، أما القائد العام كارل فقد كان في مدينة ليوبولد على بعد 15 كلم من فيينا، وأُرسل محمد باشا بكلر بك أضنة للحملة على كارل، فهزم كارل بعد التحامه مع الأتراك لمدة ساعتين، فطلب من الجنرال شولتر نسف الجسر الموجود على الدونة وانسحب إلى الضفة الأخرى للنهر، ودخل العثمانيون مدينة ليوبولد وأحرقوا قصر الإمبراطور الصيفي.
استحوذت جاذبية فيينا على قرة مصطفى باشا، وشلت بصيرته، وبدلا من أن يفرق هذا الجيش، جلس ينتظر سقوط المدينة، والواقع أنه لو تمكن من إفناء جيش العدو أو على أقل تقدير، لو كسره وشتته، لسقطت المدينة لحالها. المهم أن العثمانيين بدءوا في فرض حصارهم على فيينا واستطاعت وحدات الصاعقة العثمانية أن تستولي على الكثير من الآليات النمساوية، ونصبوا سرادقا في المكان الذي نصب فيه السلطان سليمان القانوني سرادقه قبل 154 سنة أثناء حصاره لفيينا، واستطاعت بعض الفرق العثمانية الدخول إلى سويسرا، وبدأ الحصار العثماني على فيينا بحوالي 60 ألف جندي ووزع قرة مصطفى باشا بقية جيشه على ساحة واسعة جداً بقصد قطع طريق المساعدات القادمة للمدينة المحاصرة، غير أن هذا الأمر كان خطأ عسكرياً فادحاً؛ لأنه شتت القوات العثمانية في مساحة واسعة من الأرض وهو ما أفقدها ميزتها في الكثافة العددية.
كان مدافعو فيينا في بداية الحصار 11500 جندي، انخفض عددهم إلى 5500 البقية ماتوا، وقُتل من أفراد الشعب 1648 شخصاً. الإمدادات الأوروبية القادمة لنجدة فيينا كانت كبيرة، فكان لدى دوق لورين 85 ألف جندي، والملك سوبياسكي 35 ألف جندي على وشك الانضمام إلى الجيش الألماني البالغ عدده 135 ألف مقاتل، منهم 40 ألف خيال، بالإضافة إلى تدفق المساعدات من كافة أنحاء أوروبا. بدأت الجيوش في الانضمام، وبدأت المساعدات في الوصول من جميع الأطراف، والتأمت جيوش الأعداء بشكل كامل في 7 سبتمبر 1683 م، وترك دوق لورين القيادة العامة إلى الملك سوبياسكي الذي يفوقه منزلة في السلطة، لكن العسكري الفعلي الكبير كان دوق لورين. أقدم الألمان على عمل كثيراً ما ترددوا في فعله، وهو عبور جسر الدونة جبراً، مع القبول بالخسائر الكبيرة التي ستحدث؛ لأن الجسر بيد العثمانيين.
الخيانة العظمى:
كان قرة مصطفى باشا قد كلف "مراد كيراي" حاكم القرم في الجيش بمهمة حراسة الجسر، ونسفه عند الضرورة وعدم السماح للأوروبيين بعبوره مهما كانت الأمور، وقد كان مصطفى باشا يكره مراد كيراي، ويعامله معاملة سيئة، أما مراد فكان يعتقد أن فشل مصطفى باشا في فيينا سيسقطه من السلطة ومن منصب الصدارة، ولم يخطر ببال هذا القائد الخائن أن خسارة العثمانيين أمام فيينا ستغير مجرى التاريخ العالمي، لذلك قرر مراد أن يرسل قائد التحالف الصليبي ملك بولندا (سوبياسكي)، ويخبره بعزمه ترك الصليبيين يمرون بسلام على الجسر، وأعطاه العهود والمواثيق على ذلك، وأن يظل متفرجاً على عبور القوات الأوروبية جسر الدونة؛ ليفكوا الحصار المفروض على فيينا، دون أن يحرك ساكناً، وقد كان. أضف إلى خيانة مراد الكبرى أن هناك وزراء وبكوات في الجيش العثماني كانوا لا يرغبون في أن يكون قرة مصطفى باشا هو فاتح فيينا التي فشل أمامها السلطان سليمان القانوني.
وفي يوم السبت الموافق (20 رمضان 1094هـ - 12 سبتمبر 1683م) وقعت معركة (ألمان داغي) الشهيرة في التاريخ الأوروبي والعثماني، حيث تقابل الجيشان أمام أسوار فيينا وكان الأوروبيون فرحين لعبورهم جسر الدونة دون أن تُسكب منهم قطرة دم واحدة، إلا أن هذا الأمر جعلهم على حذر شديد، أما العثمانيون فكانوا في حالة من السأم لعدم تمكنهم من فتح فيينا، وحالة من الذهول لرؤيتهم الأوروبيين أمامهم بعد عبور جسر الدونة، بالإضافة إلى ما ارتكبوه من ذنوب ومعاصٍ في شهر رمضان المعظم، وانشغال بعض فرق الجيش بحماية غنائمها وليس القتال لتحقيق النصر، وتوترت العلاقة بين الصدر الأعظم وبعض قواد جيشه وظهرت نتائج ذلك مع بداية المعركة؛ فقد سحب الوزير (إبراهيم باشا) قائد الجناح الأيمن في الجيش قواته أثناء المعركة وانفصل بها، في الوقت الذي لم تكن هناك أية علامات لهزيمة العثمانيين؛ وهو ما تسبب في انتشار الوهن في القلوب والتولي من ميدان الجهاد، وقد كانت هذه الخيانة هي السبب الرئيسي في الهزيمة، فهجم العدو بكامل قواته على العثمانيين ولم تمض ساعات قليلة حتى كان الأوروبيون في سرادق الصدر الأعظم الفخم، فأمر مصطفى باشا بالانسحاب ورفع الحصار عن فيينا، واستشهد من العثمانيين حوالي 10 آلاف، وقُتل من الأوروبيين مثلهم، ووضع مصطفى باشا خطة موفقة للانسحاب حتى لا يضاعف خسائره، وأخذ الجيش العثماني معه أثناء الانسحاب 81 ألف أسير.
وعاد الجيش العثماني وجاء إبراهيم باشا الذي اتضح أنه ترك ساحة القتال لغرض شخصي وإقدامه على الفرار قبل الكل كان سببا للهزيمة، فقد قصد الإيقاع بقرة مصطفى باشا؛ لكي يعود ذليلاً. فُعزل إبراهيم باشا الذي ترك ساحة الشرف دون أن يكون هنالك أي سبب عسكري ودون أن يحصل على إذن من القائد الأعلى، وسبّب انكسار ثلث الجيش التركي والهزيمة النهائية في الحرب، نزل أمام سرادق قرة مصطفى فوبخه مصطفى باشا قائلا: (أيها الشيخ الملعون، فررت وبفرارك كنت السبب الكلي في هزيمة العساكر الإسلامية كافة وأمر بقتله).
لم يكن إبراهيم باشا جباناً أو عسكرياً غير قدير، فحياته العسكرية الطويلة مليئة بالشرف ولكنه ارتكب هذه الخيانة التي لا يصدقها العقل؛ لإسقاط مصطفى باشا لا غير، وقبل قطع رأسه، قال للشاويش باشي (رئيس مرافقي السلطان): "قل للسلطان لا يستطيع أحد أن يتفادى ما فات غير مصطفى باشا". يقصد بذلك ألا يعزل السلطان، مصطفى باشا بسبب الهزيمة وأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يزيل آثار الهزيمة هو مصطفى باشا" في إشارة لندمه على خيانته ورغبته في إصلاح بعض ما تسبب فيه بخيانته.
بعد إعدام الخائن إبراهيم باشا مكث قرة مصطفى باشا ثلاث أيام في ينق قلعة من أجل ضبط الجيش بشكل تام. لم تكن هناك خسائر مهمة، كان الجيش العثماني يقدم عادة خسائر بنفس هذه الدرجة في انتصاراته الكبيرة، ثم ذهب الجيش إلى بودين ولكي يعدم الخائن مراد كراي، ولكنه استطاع الهرب، فعزله قرة مصطفى باشا وعين مكانه ابن عمه حاجي كراي خانا على القرم، وظل مراد طريداً شريداً حتى هلك منفياً في إحدى جزر البحر الأسود.
نتائج المعركة السياسية والعسكرية:
وفي تلك الأثناء كانت كنائس أوروبا تدق أجراسها فرحاً بهذا النصر الكبير، وظلت تقرع ثلاثة أيام متصلة، وتحرك جيش التحالف المسيحي؛ لاقتطاع بعض الأجزاء من الأملاك العثمانية في أوروبا، ووقعت معركة (جكردلن) بين أحد القادة العثمانيين وقواته البالغة 30 ألف مقاتل وبين الملك سوبياسكي وقواته البالغة 60 ألف مقاتل، وانتهت بتراجع سوبياسكي، وتوالت المعارك العثمانية في أوروبا، وفقدت الدولة بعض مراكزها الهامة بسبب هزيمتها أمام فيينا التي كانت هزيمة من النوع الثقيل تاريخياً أكثر منه عسكرياً.
المعركة نقطة تحول في كفاح 300 سنة بين القوات الصليبية من أوروبا الوسطى والدولة العثمانية. فقد كانت هزيمة العثمانيين عند أسوار فيينا نقطة تحوُّل فاصلة في التاريخ العثماني والأوربي، فقد فَقَدَت الدولة العثمانية بهزيمتها أمام فيينا ديناميكية الهجوم والتوسع في أوربا، وكانت الهزيمة نقطة توقُّف في تاريخ الدولة العثمانية، وتحرَّكت بعد ذلك جيوش التحالف المسيحي لاقتطاع بعض الأجزاء من الأملاك العثمانية في أوروبا. فبعد المعركة على مدى ستة عشر عاماً تمكنت سلالة عائلة الهابسبورج النمساوية تدريجياً -إلى حد كبير- إخراج القوات العثمانية من الأراضي الجنوبية والمجر وشمال رومانيا. وانتهت الدولة العثمانية العالمية، على الرغم من أنها كانت لا تزال أيضاً الدولة الأولى في العالم، لكن العصور التي كان فيها نفوذها يعبر القارات ويوجه سياسة وتاريخ العالم، أصبحت في ذمة الماضي. كانت قد خفتت فيها قوة الاندفاع، الفاعلية، الجرأة، وتوقفت حركة الفتوحات العثمانية الكبرى إلى الأبد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم