عناصر الخطبة
1/نشأة مصعب بن عمير 2/ظهور الدعوة الإسلامية 3/مشاهد الاضطهاد والتعذيب 4/إسلام مصعب بن عمير وجهاده 5/أول رسول إلى أهل المدينة 6/الدعوة إلى الإسلام بعلم وحلم وحكمة 6/استشهاد مصعب بن عمير.اقتباس
من مصعبٍ المدللِ إلى مصعبٍ المسلمِ إلى مصعبٍ الداعيةِ إلى مصعبٍ الشهيدِ، تلك هي محطاتُ حياتِه، وتلك هي عظيمُ منجزاتِه. نعم! خسر من الدنيا قليلاً، لكنه ربحَ في الآخرة كثيرًا مزيدًا وافرًا باقيًا لا ينفدُ ولا ينتهي.. تجارةُ....
الخُطْبَة الأُولَى:
أما بعد: حديثنا اليوم عن أحدِ التجارِ الناجحين، له العديدُ من المشاريعِ الناجحةِ التي نلمسُ أثرَها، ونقطِفُ من ثمرِها. ربح الصفقاتِ العظيمةِ، وفاز بالمكاسبِ الكثيرة.
ولكن الغريب في القصة أن حياةَ هذا التاجرِ قد خُتمتْ ولم يوجد له من مالِه كفنٌ يغطي جسدَه.
فما هي القصةُ؟ وكيف بدأت؟ وكيف انتهت؟
بطلُ قصتِنا هو مصعبُ بن عمير، فتى مكةَ المدلل، الذي كان يعيشُ في مستوى الطبقةِ العاليةِ المترفة، يلبسُ أزهى الثياب، ويأكلُ أفخرَ المأكولات، ويتعطرُ بأنفسِ العطور، حتى أنه إذا مر بطريقٍ واختفى منه، يمرُّ من بعده على ذاتِ الطريق، فيعرف أن مصعبًا مرَّ من ها هنا، من جودةِ رائحةِ عطرِه وقوةِ فوحِها.
كانت أمُّه تبالغُ في تنعيمِه وتدليلِه، حتى إنه كان لا ينامُ إلا وتضعُ إفطارَه عند رأسِه فإذا استيقظ أكل منه.
وفجأةً!
يخرج من مكةَ رسولُ الهدى محمدُ بن عبدِ الله -صلى الله عليه وسلم-، يجهرُ بالدعوةِ إلى دينِ الحق، بشيرًا ونذيرًا، يُبشّرُ المؤمنين بنعيمٍ مقيمٍ، وينذرُ الكافرين من عذابٍ أليمٍ.
آمنَ معه مَن آمن، وكفرَ به مَن كفر. لكنَّ أهلَ الإيمان قوبلوا بالاضطهادِ والتعذيبِ، والحبسِ والتضييقِ، ذاقوا صنوفَ الألم، وقاسَوا شتى أنواعِ الشدائد. هذا بلالٌ يُسحَلُ في صحراءِ مكة، وهذه سميةٌ تُطعنُ بالرمح وتُستشهد، وهذا عمارٌ يُضربُ ويُعذبُ حتى يضطرَّ إلى قولِ كلمةِ الكفرِ مُكرهًا.
مصعبُ بن عميرٍ تحرّكَ قلبُه، واضطربَ فؤادُه، وعلم أن دينَ الإسلامِ هو الدينُ الحق.
لكنّ مشاهدَ الاضطهادِ والتعذيبِ لم تكن تغيبُ عنه، كان يشاهدُها بعينه، ويعقِلُها بفؤاده. كان يعلم علمَ اليقين أنه إن اختار الإسلامَ، فسيكون مصيرُه مصيرَ بلالٍ وسميةَ وعمارٍ. فكيف سيتحمل الألمُ وهو المدلَّلُ المنعَّمُ؟ كيف سيصبرُ على الشدائد وهو الذي لا يعرف إلا حياةَ الرخاءِ والترف؟!
كان بين يديه مشروعان؛ كل منهما له خسائرُه وأرباحُه:
المشروعُ الأول: أن يُقدّمَ الآخرةَ الباقيةَ الخالدةَ ثمنًا ليكسبَ النعيمَ والترفَ والدلالَ في الدنيا، فحينها يكون قد خسر الآخرةَ، وربح شيئًا من نعيم الدنيا.
المشروعُ الثاني: أن يقدم دلالَه وترفَه ثمنًا ليكسبَ نعيمَ الآخرة في جنةِ الخلد، فيكون حينها خسر شيئًا من نعيم الدنيا، وربح الآخرةَ.
وبحسبةٍ يسيرةٍ، ودراسةِ جدوى سريعٍة، استطاع مصعبُ بن عميرٍ أن يُقرِّرَ الدخولَ في المشروعِ الثاني، فيقدّم دنياه ثمنًا لآخرتِه، اتخذ القرارَ الشجاعَ، وأعلن الدخولَ في الإسلامِ وهو مستعدٌ لتحمّلِ كلِّ التبعات.
وما إن علمت أمُّه بإسلامه، حتى بدأت خسائرُ الدنيا تحيطُ به.
تلك الأمُّ التي كان يحبها ويرى فيها قرةَ عينه، تغضبُ عليه، وتعلنُ الدخولَ في إضرابٍ عامٍّ حتى يرجعَ مصعبٌ عن دينه، فكانت تقول: "لا ألبس خِمارًا، ولا أستظلُّ، ولا أدَّهنُ ولا آكلُ طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى تدع ما أنت عليه". وليس سهلاً -والله- هذا المشهدُ على مصعب، أن تتعذبَ أمُّك بسببك، وأنت تملك أن توقفَ عذابَها بيدك، لكنَّ اللهَ كان أحبَّ إلى مصعبٍ من أمِّه.
يقدمُ أخوه فيقول لأمِّه: "يا أمّه دعيني وإياه! فإنه غلاٌم عاف، ولو أصابه بعضَ الجوعِ لترك ما هو عليه، ثم أخذه وحبسه"؛ هكذا كان التصور عن مصعب، غلامٌ مدللٌ منعمٌ لا يستطيعُ أن يتحملَ الشدائد. لكن هذا كان قبل أن يخالطَ الإيمانُ قلبَه، وقبل أن يدركَ حقيقةَ مشروعِه وعاقبتَه الحسنى.
وفعلاً بدأَ أهلُه في حرمانه من النعيم الذي كان يعيشه، فلم يعدْ مصعبٌ فتى مكةَ المدلّلَ، فلا لبسَ فاخر، ولا طعامَ باذخ، ولا عطرَ ثمين. تغير الحالُ على مصعب، وانقلبت حياتُه رأسًا على عقب.
منظرُه كان يثير الشفقة، حتى كان سعدُ بن أبي وقاصٍ -رضي الله عنه- يقول: "كان مصعب بن عمير أترفَ غلامٍ بمكةَ بين أبويه، فلما أصابه ما أصابنا لم يقوَ على ذلك، ولقد رأيتُه وإن جلدَه ليتطايرُ عنه تطايرَ جلدِ الحية، ولقد رأيته يتقطَّعُ به، فما يستطيع أن يمشي، فنَعرِضُ له القِسِيَّ، ثم نحملُه على عواتقِنا".
وتقول ليلى بنتُ أبي حَثْمَةَ -رضي الله عنها-: "وكان مصعبُ بن عميرٍ رقيقَ البَشَرِ ليس بصاحب رِجْلِهِ، ولقد رأيتُ رجليه تقطران دمًا من الرِّقَّةِ، فرأيتُ عامرًا خلعَ حذاءَه فأعطاه حتى انتهينا إلى السفينة... ولقد كنتُ أرى عامرَ بن ربيعة يَرِقُّ على مصعب بن عمير رِقَّةً ما يرقُّها على أحد".
وكان ذلك حين هاجر مصعبُ مع مَن هاجر من الصحابةِ إلى الحبشةِ، هروبًا من اضطهادِ أهلِ مكة وتعذيبِهم.
رجع مصعبٌ بعد ذلك من الحبشة إلى مكةَ مع من رجع من الصحابة، وصحب النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في مكة، حتى جاءت بيعةُ العقبةِ الأولى، وبايع اثنا عشر رجلاً من قادةِ الأنصار رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، وكان لا بد من أن يبعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معهم رجلًا يعلمهم الإسلامَ ويُقرؤهم القرآن.
ولا شك أن الخياراتِ بين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كانت كثيرة، فكان بين يديه كبارُ الصحابةِ من السابقين إلى الإسلام، ولكنه انتدب لهذه المهمةِ الصعبةِ مصعبَ بن عمير، ليكون أولَ سفيرٍ في الإسلام، وأولِ معلمٍ، وأولَ داعيةٍ يبعثه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
وما إن وصل مصعبُ بن عميرٍ المدينةَ، حتى بدأ يفتحُ القلوبَ بالقرآن، ويهدي الناسَ إلى الإسلام. أسلم على يديه كبارُ الأنصارِ وقاداتُهم.
حين أسلم أسيدُ بن حضيرٍ عند أسعدَ بن زُرَارَةَ الذي كان يُضيفُ مصعبَ بن عميرٍ قال أسيدٌ: "إن ورائي رجلاً إن اتّبعكما لم يتخلّفْ عنه أحدٌ من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعدَ بن معاذ". وكان سعدٌ حانقًا على أسعدَ ومصعبَ، فلما وصل إليهما قال سعدٌ لأسعد: "يا أبا أمامةَ! أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابةِ ما رمْتُ هذا منّي، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ فقال له مصعب: أو تقعدُ فتسمع؟ فإن رضيتَ أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عزلْنا عنك ما تكره.
قال سعد: أنصفت.
ثم ركزَ الحربةَ وجلس، فعرض مصعبٌ عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلامَ قبل أن يتكلمَ لإشراقِه وتسهِّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتُم ودخلتُم في هذا الدين؟ قالا: تغتسلُ فتَطَّهَّرُ وتطهِّرُ ثوبيك، ثم تشهدُ شهادةَ الحق.
ثم أخذ حربتَه فأقبل عامدًا إلى نادي قومه ومعه أسيدُ بن حضير -رضي الله عنه-، فلما رآه قومُه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبدِ الأشهلِ: كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيّدُنا وأفضلُنا رأيا وأيمنُنا نقيبةً.
قال: فإن كلامَ رجالِكم ونسائِكم عليّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبدِ الأشهلِ رجلٌ ولا امرأةٌ إلا مسلمًا أو مسلمةً.
قال ابن إسحاق: "ورجع سعدٌ ومصعبٌ -رضي الله عنهما- إلى منزل أسعدَ بن زرارة -رضي الله عنه-، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رجالٌ ونساءٌ مسلمون ومسلمات...".
وهكذا تحولت صِبغةُ يثربَ من مدينةِ شركٍ وكفرٍ، إلى بلدِ إسلامٍ وتوحيدٍ، فكانت أولَ ما فُتحَ من البلدان، وفُتحت بالقرآنِ على يدي مصعبٍ -رضي الله عنه وأرضاه-.
وبعد سنةٍ وزيادة!
هاجر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وقد امتلأتْ قلوبُ أهلِها بحبِّ الله ورسوله، والعزيمةِ على نصرة دينه، واللهفِ والشوقِ إلى إعلاءِ كلمته، وكلُّ ذلك بفضل الله -تعالى- ثم بجهودِ مصعبٍ فيها.
في السنة الثانيةِ من الهجرةِ نشبت معركةُ بدرٍ، أولُ المعاركِ العظمى بين المسلمين وكفارِ قريش، وأعطى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لواءَ المهاجرين إلى مصعبِ بن عمير.
أتذكرون ذلك الفتى المدلّلَ المنعّم؟!
اليوم لم يعدْ كذلك. اليوم ذلك الفتى يحمل لواءَ الحربِ بكل شجاعةٍ واقتدارٍ، وهو يعلم أن مهمةَ حملِ اللواءِ هي أخطرُ مهمةٍ في المعركة؛ إذ السهامُ كلها تتجه إلى اللواءِ لإسقاطه، لتسقطَ بعده معنوياتُ الجيش.
لقد صنع الإسلامُ بطولتَه، وصقلَ معدنَه.
ينتصرُ المسلمون في المعركة، ثم تنشبُ في السنةِ التاليةِ معركةُ أحد، ومن سيحمل لواءَ المهاجرين فيها؟
إنه مصعبٌ أيضًا. ولِمَ لا؟ وقد أبلى في بدرٍ أحسنَ البلاء.
لكن الوضعَ في أُحدٍ كان مختلفًا، فقد لحقت الهزيمةُ بالمسلمين، وفرّ العديدُ منهم من أرضِ المعركة، لكنَّ مصعبًا لم يولِّ ظهرَه، ولم ينكِصْ على عقبيه، فثبتَ ثباتَ الرجال، ودافعَ دفاعَ الأبطال، وعاش لحظاتِه الأخيرةِ وهو ينافح عن دينِ الله، ويرد السهام عن رسولِ الله، حتى ضربه ابن قَمِئَةَ ضربةَ النهاية، لترتويَ الأرضُ بدمِه، وترتقيَ روحُه إلى السماء، فعاش حميدًا ومات شهيدًا.
من مصعبٍ المدللِ إلى مصعبٍ المسلمِ إلى مصعبٍ الداعيةِ إلى مصعبٍ الشهيدِ، تلك هي محطاتُ حياتِه، وتلك هي عظيمُ منجزاتِه. رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثوانا ومثواه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: قال خبابٌ بن الأرت -رضي الله عنه-: "هَاجَرْنَا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- نُرِيدُ وجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أجْرُنَا علَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَن مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِن أجْرِهِ، منهمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وإذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ.. ومِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثَمَرَتُهُ، فَهو يَهْدِبُهَا".
وبنفس المعاني يتفوه عبدالرحمن بن عوف فيقول عنه ابنه أنه: "أُتِيَ بطَعَامٍ، وكانَ صَائِمًا، فَقالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وهو خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ في بُرْدَةٍ: إنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وإنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، ..ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا ما بُسِطَ، أوْ قالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا ما أُعْطِينَا، وقدْ خَشِينَا أنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ".
إيهٍ يا مصعب! إيهٍ يا فتى مكةَ المدلل! لم يكنْ لك عند موتِك حتى كفنٌ يُغطّي جسدَك، خسرتَ كثيرًا من نعيمِ الدنيا! لكن حسبُكَ أن جُلَّ الأنصارِ أسلموا على يديك؛ فلك أجرُهم -بإذن الله-، وحسبُك أن كثيرًا من أمم الإسلامِ في مشارقِ الأرض ومغاربِها دخلوا في الدين على أيدي الأنصارِ الذين أسلموا على يديك فلك أجرهم -بإذن الله-.
نعم! خسر من الدنيا قليلاً، لكنه ربحَ في الآخرة كثيرًا مزيدًا وافرًا باقيًا لا ينفدُ ولا ينتهي..
تجارةُ مصعب تجارةٌ أخرويةٌ رابحة، لن تخسرَ ولن تبورَ، وهي إلى الآن تتدفقُ أرباحها، وتعظمُ قيمتُها. وها نحن اليومَ نذكر مصعب في المنابر، ننهلُ من سيرتِه، ونتعلمُ من قصصِه، ونقتدي بُمثُلِه العليا.
اللهم اجمعنا بمنك وكرمك مع حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام..
اللهم أسلكنا طريقهم، وأوزعنا بهديهم، واحشرنا في زمرتهم، وارزقنا مرافقتهم في عليين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم