اقتباس
لكن الفرحة بالعيد أبدًا لن تكتمل إلا إذا أتينا بآداب العيد وسننه، وأهمها -بل قل وأوجبها؛ فإنها من الواجبات- أن يكون الفرح بالحلال المباح لا بالمعاصي ولا بالذنوب! فافرحوا أيها المسلمون بطاعاتكم فرحًا طاهرًا بريئًا مشروعًا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)...
هل مرَّ عام كامل؟ هل انقضى اثنين وعشرين شهرًا كاملة؟ هل نقصت أعمارنا ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا؟... لكأنها ساعات أو أيام قلائل منذ خرجنا على هذا المنبر الكريم؛ منبر ملتقى الخطباء لنهنئكم بحلول عيد الفطر لسنة 1445هـ، واليوم نبشركم بعيد الفطر الجديد وقد مرَّ عام كامل، فما أسرع مرور الليالي وما أسرع كر الأيام!
وإنا لموقنون أن ألوفًا مؤلفة من البشر كانت تعيش معنا في العيد الماضي وهي ليست بيننا هذا العيد! وإننا لموقنون أيضًا أن العكس قد حصل؛ فأطفال بيننا اليوم تحملهم أمهاتهم أو أباؤهم لم يكونوا على وجه الأرض في العام الماضي! وكم من غني أصبح فقيرًا، ومن فقير صار غنيًا! وكم من قوي تحول ضعيفًا، ومن ضعيف غدا قويًا! وكم من عزيز صار ذليلًا، ومن ذليل أصبح عزيزًا! وكم من منصور غدا مهزومًا، ومن مهزوم بات منصورًا! وكم وكم وألف كم؛ كم ممن تحول حاله وتبدل أمره وتغير وضعه.... فسبحان من لا تؤثر فيه السنون والأعوام.
إنها سنة الله -عز وجل- في كونه: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فاطر: 43].
ولو تفكر المرء في نفسه؛ كم مرَّ عليه من رمضان وكم مرَّ عليه من عيد! فمنا من حضر عشرين رمضان وعشرين عيد فطر، ومنا من حضر ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو فوق ذلك... فأين تلك السنون الآن؟ لقد رحلت بحلوها ومرها وخيرها وشرها، فنيت ولم يبق منها إلا الأعمال؛ الأعمال الصالحات أو الأعمال الخبيثات، مضت هي وظل الإنسان رهينًا بسيئاته: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر: 38]، أو منتظرًا ثواب صالحاته: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43]؛ فمنا من اتخذ من ذلك العام الذي انتهى زادًا له إلى الجنة، ومنا من تحمل منه الأوزار التي تسوقه إلى النار -والعياذ بالله-، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها"(رواه مسلم)، فاللهم اجعلنا ممن تزيده أيامه قربًا إليك، وليس بُعدًا عنك.
***
والآن وقد كاد هلال شوال أن يهل فقد انقسم المسلمون في فرحتهم بعيدهم إلى درجات كثيرة متفاوتة؛ فأشدهم فرحة وأصدقهم سرورًا هو أخلصهم لله -تعالى- عملًا وأطهرهم قلبًا وأنقاهم سريرة، أما من قصَّر في رمضان ففرحته على قدر طاعته، وكلما زاد تفريطه كلما اضمحلت فرحتهم وتلاشى سروره، لذا يقولون: "إنما العيد لمن أطاع، ولا عيد لمن عصى".
ويبقى باب التوبة مفتوحًا ما دام في أجسادنا روح، فإن الشيطان قد قال لربه -عز وجل-: "وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب -تبارك وتعالى-: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني"(رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني)، فنسأل الله -تعالى- أن يتوب علينا وعلى الناس أجمعين.
***
لكن الفرحة بالعيد أبدًا لن تكتمل إلا إذا أتينا بآداب العيد وسننه، وأهمها -بل قل وأوجبها؛ فإنها من الواجبات- أن يكون الفرح بالحلال المباح لا بالمعاصي ولا بالذنوب! فافرحوا أيها المسلمون بطاعاتكم فرحًا طاهرًا بريئًا مشروعًا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
ولقد خرج حسان بن أبي سنان إلى العيد فلما رجع قالت له امرأته: كم امرأة حسنة قد نظرت إليها اليوم؟ فلما أكثرت قال: "ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك"! (ذم الهوى، لابن الجوزي).
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك *** لا أن تجرَّ به مستكبرًا حللك
كم من جديد ثياب دينه خلِق *** تكاد تلعنه الأقطار حيث سلك
ومن مرقع الأطمار ذي ورع *** بكت عليه السما والأرض حين هلك
وثانيها: التكبير: فلا تكتمل فرحة العيد إلا بإظهار شعيرة التكبير، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)[البقرة: 185]، "قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره"(تفسير القرطبي).
"وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد"(تفسير الرازي).
وثالثها: صلاة العيد: وهي الشعيرة الأكبر من شعائر العيد، والأفضل أن تُصلى في الخلاء إلا من عذر.
ثم الآداب والسنن بعد ذلك كثيرة معلومة؛ كلبس الجديد، ومخالفة الطريق، والإفطار على تمرات وتر قبل الصلاة، وحضور خطبة العيد...
***
ومهما فرحنا بالعيد ولبسنا الجديد فهي فرحة يشوبها غصة؛ غصة يخلفها ذلك الجرح الدامي في غزة، جرح يُبكي القلوب دمًا ويُقطِّع الأفئدة حسرة ويُفتت الأكباد كمدًا؛ أن نرى إخواننا يبادون بالقنابل والطائرات والمدافع ولا نقدِّم لهم حماية ولا عونًا! أن نراهم يتضورون جوعًا وتموت أطفالهم جفافًا ثم لا نستطيع أن نُدخِل لهم كسرة خبز!
أقبلت يا عيد والأحزان نائمـة *** على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي *** قلوبنا من صنوف الهمِّ ألـــوان!
من أين نفرح والأحداث عاصفة *** وللدُّمى مـقـل ترنـو وآذان!
فاللهم فرِّج الكرب وأزل الهم وانصر المظلوم وعاف المبتلى وأعز المقهور...
ونترككم الآن مع هذه الخطب النيرات التي أحب أصحابها أن يشاركوكم عيدكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم