عناصر الخطبة
1/ ما هو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده؟ 2/ أهم المسؤوليات التي كلّف الله بها عباده 3/ حكم ما يقوله بعضهم (الأديان التوحيدية السماوية) 4/ لا حاجة لحوار الأديان والحق معروف 5/ دين الإسلام: عقيدة وشريعة ومنهج حياة 6/ مفاسد غياب التصوّر السليم للدين ولمهمته في الحياة 7/ مخاطر الغزو الفكري والتسويق لإسلام جديد 8/ تحريف معاني الإسلام 9/ وجوب الحذر من الاستسلام لأفكار التغريبييناقتباس
الدين منهج حياة متكامل، يصل الدنيا بالآخرة، ليصبح عمل المؤمن الصادق كلُّه عبادةً صادقةً لله: أكلُه وشربُه وسعيُه، وجهادُه، ورضاه وغضبُه، وحبُّه وكراهيتُه، وعلمُه وعملُه، كلُّه عبادةً خالصةً لله إذا صدقتْ النيَّة لله، وإذا خضع العمل كلّه لشرع الله،.. هذا هو الدين! نجاةٌ في الدنيا والآخرة. بدونه يصبح الناسُ وُحُوشاً، يفتك بعضهم ببعض، ويُهلك بعضهم بعضاً. لا تقوم بينهم عدالة ولا أمانة، ولا حُرِّية ولا مساواة، إلا من حيث الشعارات يطلقها المجرمون الوحوش، ليزيّنوا بها باطلهم، وليفتحوا بها ثروات الأمم لينهبوها، وليستأثر المجرمون الوحوش بخيراتها، ويَدَعُو الناس فقراء عالة عليهم!...
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: كلمة "الدّين" كلمةٌ عمّت الشرق والغرب والتاريخ البشري واللغات المختلفة، والأمم والشعوب كلٌّ يدَّعي أن له ديناً ثم يعرض دينه الذي لديه.
ومسؤولية المسلمين جميعاً أن يبيّنوا للعالم كله ما هو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وما معنى كلمةُ دين، الدين الذي يجمع أمور الحياة كلها: الاجتماعية والتربوية والنفسيّة والاقتصادية والسياسية والتشريع الكامل، والحكم ونظامه، والدولة وسلطانها، والمسؤوليات للفرد والأسرة والأمة كلها، وجميع التكاليف التي نزل بها الوحي الكريم على محمد -صلى الله عليه وسلم-، والشعائر، والعبادة كلها، والأمانة، والعمارة، والخلافة، وتعاون الشعوب على أساس إقامة دين الله، والدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ الإسلام وتعهّد الناس كافة عليه لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن النار إلى الجنّة بإذن الله تعالى، وجهاداً في سبيل الله، وسائر المسؤوليات التي وضعها الله أمانة في عنق الأمة المسلمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون) [آل عمران: 103].
ومن أهم المسؤوليات التي كلّف الله بها عباده أن يحملوا هذا الدين دعوة وبلاغاً وتعهّداً وجهاداً في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها.
فهذه هي حقيقة الأمانة والعبادة والخلافة والعمارة التي خَلَقَ الله الإنسان للوفاء بها في هذه الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص، ومن خلال عهد وميثاق، ليُحاسَب عليها الناس يوم القيامة.
أيها المسلمون: إنّ الدين الإِسلامي جاء لهذه الغاية، ليحَدِّد مُهمَّة الإِنسان في الأرض، والغاية التي خَلقَه الله من أجلها. والناحية الأخرى التي ترتبط بهذه القضيّة هي أن الله -سبحانه وتعالى- وهو الواحد الأحد، ما كان ليبعث لعباده أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها، حين يريد الله من عباده كلهم أن يؤمنوا إيماناً واحداً ليدخلوا جميعاً في طاعته ورحمته ما أطاعوا والتزموا. فالدين عند الله واحد هو الإسلام، دين جميع الأنبياء والرسل الذين خُتموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-. (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَاب) [آل عمران: 19].
أما المصطلح الذي شاع بين الناس: "الأديان التوحيدية السماوية"، وما شابهه، فهو مصطلح خاطئ متناقض، لا يتناسب مع معنى التوحيد ولا مع معنى الألوهية، ولا مع معنى الدين، فالدين عند الله دينٌ واحد هو الإسلام. وقد توجد أديان يصنعها البشر، إِما من عند أنفسهم أو من تحريف دين الله مع الزمن.
وهذه الأديان غير التوحيدية يمكن أن نضعها كلَّها في إطار "دين غير توحيدي" لا يدعو إلى الله ورسوله، ولا يتبنّى الوحي المنـزّل من عند الله على رسله الذين خُتموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-.
فهنالك إذاً دين الله، دين التوحيد، دين واحد جاء برسالات متعدّدة مع الرسل والأنبياء، ودين غير دين الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين) [سورة الكافرون].
مفاصلةٌ وحسمٌ في الدين والمعتقد، لا مجال فيه للمراءاة أو المجاملات أو المساومات: دين الله دين واحد هو الإسلام، ودين الكافرين، ولا يوجد أديان متعددة، إلا في نطاق دين الكافرين. وعند الخروج عن هذا التصوّر يضطرب الفكر ويختلط، وتضطرب التصورات، وتخرج أفكار ومصطلحات!. فحوار الأديان مثلاً مصطلح غريب حسب ما يُطْرَح في واقعنا اليوم، وغريب من حيث كلمة "الأديان"! والله يقول: دين واحد! أفنكذّب الله -سبحانه وتعالى-؟!.
وغريب من حيث كلمة "حوار"، ففي الإسلام دعوةٌ وبلاغ لتبليغ الدين الحق الواحد، وتعهُّد الناسِ عليه، كما أمر الله! فلا حاجة لحوار الأديان، فالأديان معروفة، وأصحاب كلّ دين يدعون إلى دينهم ولا يحاورون حوله. ولكن الحوار يمكن أن يدور حول طريقة التعامل لا حول الدين نفسه، ويظل الإسلام يدعو الناسَ كافة إلى الإسلام بوضوح وجلاء.
ولما جاء النبيّ الخاتم بمثل ما أتى به الأنبياء والرسل من الدين والتوحيد، مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، بأن جَمَعَ التشريع كله تشريعاً ربّانيّاً واحداً للبشريّة كلها إلى يوم القيامة، تشريعاً كاملاً وتامّاً وكافياً!
لا بدَّ من تثبيت هذا المفهوم في قلوب المسلمين وفي قلب كل مسلم، ليعي المسلم حقيقة دينه ومداه ومستواه، فلا يأخذه الضعف أو الجهل إلى أن يلهث وراء العلمانيّة والديمقراطية والحداثة. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثلي في النبيين كمثل رجلٍ بنى داراً، فأحسَنَها وأكمَلها، وترك فيها موضع لَبِنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تمَّ موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" (أخرجه أحمد والشيخان والترمذي).
فالدين من حيث الواقع والحقيقة والعقل، هو الحقيقة الكاملة لهذا الكون كلِّه، مشهدِه وغيبِه، دنياه وآخرتِه، خلقِه كله، خالقُه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، خالق كل شيء، له الملك كله، وله الأمر كله، وله الحمد كله.
ومن خلال هذا المنهج الرَّباني الكامل يبيّن الله لعباده كلِّهم مهمّة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، المهمّة التي خلقه الله للوفاء بها، ولتكون جزءاً رئيساً من هذا الدين العظيم، ليعرف كلُّ إنسان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلقه، وهو الذي كلَّفه بمُهمَّةٍ عظيمةٍ يقوم بها في الدنيا من خلال ابتلاءٍ وتمحيص، ومن خلال عهد وميثاق، فتكون الطريق أمام الإنسان في هذه الحياة الدنيا مشرقةً جليّةً، يمضي المؤمنون بذلك على صراط مستقيم واحد، ممتدٍّ إلى الدار الآخرة.
لذلك يعيش المؤمن في هذه الحياة الدنيا مطمئنّاً راضياً، واعياً لمهمته وتكاليفه الربَّانيَّة التي سيحاسَب عليها يوم القيامة بين يدي الله، يوم يضع الموازين القسط فلا تُظلَم نفسٌ شيئاً، ثمَّ يمضي الإنسان إما إلى جنَّة أو إلى نار.
هذا هو الدين الحق الذي يبيّن للإنسان كلَّ ما يحتاجه حتى ينجو من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة.
فلا يُعقل أبداً أن يكون الدين طقوساً تؤدَّى على صورة ما، تنفصل بعد ذلك عن واقع الحياة الدنيا وأحداثها وميادينها، ثمَّ يصبح الإنسان بعد هذا الانفصال هو الذي يقرر، يعبد العقل حيناً، أو يعبد الأهواء والشهوات، أو يعبد المصالح المتضاربة المتنافسة، أو يعبد الأوثان وما يوحي به شياطين الإنس والجن.
أيها المسلمون: هذا هو الدين! منهج حياة متكامل، يصل الدنيا بالآخرة، ليصبح عمل المؤمن الصادق كلُّه عبادةً صادقةً لله: أكلُه وشربُه وسعيُه، وجهادُه، ورضاه وغضبُه، وحبُّه وكراهيتُه، وعلمُه وعملُه، كلُّه عبادةً خالصةً لله إذا صدقتْ النيَّة لله، وإذا خضع العمل كلّه لشرع الله، شرطان لا يُغني أحدهما عن الآخر، شرطان يجب أن يعملا معاً في وقت واحد.
هذا هو الدين! نجاةٌ في الدنيا والآخرة. بدونه يصبح الناسُ وُحُوشاً، يفتك بعضهم ببعض، ويُهلك بعضهم بعضاً. لا تقوم بينهم عدالة ولا أمانة، ولا حُرِّية ولا مساواة، إلا من حيث الشعارات يطلقها المجرمون الوحوش، ليزيّنوا بها باطلهم، وليفتحوا بها ثروات الأمم لينهبوها، وليستأثر المجرمون الوحوش بخيراتها، ويَدَعُو الناس فقراء عالة عليهم!.
هذا هو الدين الحق، دين الله، دين الإسلام، الدين الذي يقيم الحقَّ في الأرض بين الناس، ويقيم العدل الصادق الأمين، ويقيم الحريَّة المنضبطة لتوفّر الحريّة المنضبطة، لتحقّق المساواة العادلة بين الناس. وبغير هذا الدين الحق لا تقوم عدالة أبداً، ولا حريّة، ولا مساواة، فهذا كلّه يقيمه شرع الله.
كثير من الناس غاب عنهم التصوّر السليم للدين، ولمهمته في الحياة، فاضطربت تصوّراتهم اضطراباً واسعاً. فمنهم من جعل من الدين ومن معنى العبادة الطقوس والشعائر فقط. ومنهم من نادى بعزل الدين عن السياسة والحكم، أو عزل السياسة والحكم عن الدين. ومثل هذه التصوُّرات ابتدأت في الغرب على أثر اصطدام النصرانية بالوثنية، ثمَّ اصطدام الكنيسة برجال العلم وبالدولة والحكام، ثمَّ أخذت تمتدُّ إلى العالم الإسلامي بين المسلمين، حين انتشر الجهلُ بالكتاب والسنَّة، وقويت دعاية الغرب وغزوه الفكري والعسكري.
وإذا كان القرآن قد أوجز مهمة الإنسان التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا بمصطلحات أربع: العبادة والأمانة والخلافة والعمارة، فإنه مع هذا الإيجاز فصَّل المهمّة تفصيلاً كاملاً، ثمَّ جمعت المهمة كلها في نشر دين الله في الأرض، ودعوة الناس كافَّة إليه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى. ومن أجل تحقيق ذلك شرع الله القواعد والوسائل والأساليب وفصّلها حتى يتيسَّر للإنسان الوفاء.
فمعرفةُ الدين وفهمه، وفهم تصوُّراته كاملةً سليمةً من مصدره الحق المنهاج الربَّاني أمرٌ أساسيٌّ في حياة الإنسان. وبغير هذا الفهم والعلم والالتزام يهلك الإنسان.
إنَّ البلاغ والبيان، والتعهد والبناء، والقوة والإعداد، مهمة كبيرة والتقصير بها إثم كبير، فلا يُشْغَلنَّ الدعاة عنها بزخارف الدنيا وزينتها، فَيَهْلَكُوا ويُهْلِكُوا.
إنَّ هذا الدين هو الحياة، هو النور، هو الهدى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) [الأنعام: 122].
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن الإسلام هو الدين الحق الذي يكلف الله به الخلق ولا يقبل منهم سواه، إذ ما عداه من الدين باطل وضلال، كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلام) [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين) [آل عمران: 85]، وهذا من حقائق الدين الواضحة الجلية التي يؤمن بها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أيها المسلمون: نحن اليوم في هذه الفترة العصيبة من أوقات المسلمين أمام مرحلة جديدة مرحلة ما يمكن أن تسمى بمرحلة تسويق الإسلام الجديد، ففي ظل الضعف الشديد الذي تعانيه أمة المسلمين على مختلف الأصعدة، وفي ظل سطوة الكافرين وظلمهم وطغيانهم بعدما حازوا أسباب القوة، وتفوقوا فيها على المسلمين واحتكروها، دَبّ الضعف والخَوَر في نفوس طائفة من المسلمين من الوجهاء، ومن بعض من يتعاطون شيئاً من العلوم الشرعية، فلم يروا مخرجاً من ذلك إلا عن طريق التقارب، مع ما أفرزته الحضارة الغربية المادية التي لا تتعامل إلا مع المحسوسات، والقبول بما جاءت به وعدم معارضتها.
وفي ظل ذلك فقد بدأ العالم الإسلامي بعد الصحوة القوية التي شهدها مع مطلع القرن الخامس عشر المتزامن مع مطلع السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم بدأ الآن يتراجع إلى قريب من الحالة التي كان عليها مع قرب نهاية القرن الثامن عشر عندما دهمته قوى الاستعمار بما لديها من تقدم مادي وعسكري، فرجع إلى نصوص الشريعة يلوي أعناقها ويحرفها عبر دروب كثيرة من التأويلات الفجة التي لا تستقيم من أجل إيجاد أرضية مشتركة بين ما دلت عليه الشريعة وبين ما أتت به الحضارة الغازية..
فبدأت تغزو أسماعنا الآن كلمات مثل: الإسلام المدني، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، ثم الحديث عن قيم الإسلام التنويري، والانفتاح على الآخر في المختلف الثقافي والديني، والتعاون في سبيل المشترك الإنساني، وعدم نفي الآخر أو تهميشه، والتواصل بين المؤمنين في العالم في سبيل خير الإنسانية، والكثير الكثير من أمثال هذه الجمل والتعبيرات التي تتداخل فيها الألفاظ والمعاني لإنتاج خلطة متقنة فيها الكثير الكثير من الأمور والمسائل والقضايا التي تخالف عقائد الإسلام وأحكامه، إضافة إلى القليل القليل من الطلاء الذي يبدو وكأنه ينتمي إلى عناصر الدين الصحيح، حتى يبتلع المسلمون الخلطة المعدَّة، كما يحتال الصياد بحبة من القمح يوقع بها الطائر في شراكه، فلا يخرج منها إلا إلى الذبح.
أيها المسلمون: إن المعركة اليوم شديدة وقائمة على أشدها، وهي بكل أسف وأسى لا يديرها العدو الكافر المعلِن بكفره وعداوته فحسب، وإنما يديرها مسلمون من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويحتجون بما نحتج به من القرآن والسنة لكن على غير الوجه السليم والاستدلال المستقيم، وقد بين لنا هذه الحقيقة الساطعة حذيفةُ بن اليمان حيث يقول : "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم!" قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم! وفيه دَخَن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم! دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ فقال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" (رواه البخاري).
فالإسلام الجديد الذي يروَّج له اليوم في الدوائر الإعلامية والرسمية يتكلم به ناس من جلدتنا، ويتحدثون عنه بلغتنا، وهو ليس الإسلام الذي تعبَّدَنا الله به ورضيه لنا. فليس هو إسلام السعي لنشر دعوة الله بين العالمين؛ لأن ذلك وفق الفهم العصري للإسلام عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، وإنما هو إسلام التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والنصارى على أساس أن المؤمنين إخوة..
وليس هو إسلام الدفاع عن الحقوق والبلاد والعباد؛ لأن ذلك إرهاب يهدد السلام العالمي، وإنما هو إسلام المحبة والتصالح مع الأعداء من أجل أمن المجتمعات، والإقرار بحق الأعداء في العدوان على ديار المسلمين من أجل الحفاظ على أمنهم ومصالحهم، وحق احتلال الأراضي واقتطاع أجزاء منها تضمن لهم ذلك، وليس هو إسلام الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وإنما هو إسلام بذل المحبة للجميع للمسلم الصالح وللكافر المعاند..
وليس هو الإسلام الذي يمنع الربا في المعاملات المالية والاقتصادية، لأن ربا اليوم ليس كربا الأمس (ربا الجاهلية) القائم على الجشع، وإنما ربا اليوم إنما يعمل على رفاهية المجتمعات وتحقيق التنمية، وأن الاقتصاد لا يقوم إلا به، وأن الدول لا تنهض إلا عليه، وليس هو إسلام التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، وتقديم كلام الله وكلام رسوله على قول كل أحد، لأن هذا تنطع وتشدد وتزمت، يرفضه دين السماحة واليسر، فـ "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما"، ويتركون بقية الحديث: "ما لم يكن حراماً"..
وليس هو إسلام التزام المرأة بما حد الله لها، لأن هذا يعبر عن النظرة الدونية للمرأة، والهيمنة الذكورية التي تغلب على ثقافة المسلمين التي نشأت بسبب الموروثات البيئية، إضافة إلى عدم الثقة في المرأة مما يحرم المجتمع من قدراتها العظيمة، وإنما هو الإسلام الذي لا يمنع من تبرج المرأة وإظهارها لزينتها واختلاطها بالرجال، ومشاركتها لهم في كل مجالات العمل ما دام الجميع محافظاً على الآداب العامة مع الاحترام المتبادل بين الطرفين..
وليس هو إسلام الثبات الذي يظل الحرام فيه حراماً والحلال حلالاً والواجب واجباً، لأن هذا تحجر وجمود ولا يراعي خصوصيات الزمان والمكان والمستجدات العصرية، وإنما هو إسلام التطور والمرونة ومجاراة العصر، حتى لو أدى ذلك للخروج على أحكامه المعلومة، ما دام أن ذلك الخروج يحقق المصلحة، فالدين ما جاء إلا لتحقيق المصالح. وهكذا، والقائمة طويلة.
ولكن نقول: إن الإسلام ليس نظرية علمية أو اكتشافاً قابلاً للتغيير والتبديل مع تطور النظريات العلمية، أو تجدد الاكتشافات، كما أنه ليس "موضة من الموضات" التي تتغير وتتبدل بتغير أذواق الناس وأوضاعهم، بل إن هذا الدين قد أكمله الله، وأتم به النعمة علينا، ورضيه لنا ديناً: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)[المائدة: 2].
فلا ينبغي للمسلمين أن يضيِّعوا نعمة الله التي حباهم بها، بل واجبهم أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها، ويعلموا أن ما لم يكن ديناً على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو على عهد خلفائه الراشدين فليس اليوم ديناً، فما لم يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون، ولا أصحاب الشجرة فليس من الدين.
اللهم ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم