عناصر الخطبة
1/ ذم القدرية 2/ وجوب الإيمان بمراتب القدر الأربعة 3/ من ثمرات الإِيمان بالقضاء والقدر 4/ شبهات حول القدر ودفعهااقتباس
ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة وأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة
الحمد لله العلي في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سره وجهره، يسمع أنين المظلوم عند ضعف صبره، ويجود عليه بإعانته ونصره، وأشكره على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده طول عمره وسائر دهره، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه ما جاد السحاب بقطره وطل الربيع بزهره، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم -ونفسي- بتقوى الله: فتقوى الله أقوم وأقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: الإِسلام دين السعادة والسرور، والراحة والطمأنينة، من تمسك به ورضي به؛ زالت عنه الهموم والغموم، ومن اعتصم به نجا وفاز.
والقدر: ما يقدره الله من القضاء، يجب الإِيمان به، وأنه أحد أركان الإِيمان الستة، وقد ورد الوعيد الشديد في إنكار القدر، وأن إنكاره كفر مخرج عن الملة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذم القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة، فعن ابن عمر مرفوعًا: "القدرية مجوس هذه الأمة، وإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم" رواه أبو داود.
وروي من حديث حذيفة: "لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر"، يعني أن الأمر مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله، وإنما يعلمه بعد وقوعه، ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة وأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
عباد الله: يجب على العبد الإيمان بمراتب القدر الأربع التالية:
الأول: العلم؛ وذلك بأن يؤمن بأن الله -سبحانه- علم كل شيء جملة وتفصيلاً، فعلم ما كان وما يكون، وعلم أحوال العباد وأرزاقهم وآجالهم وغير ذلك من شئونهم، قال تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59]
الثاني: الكتابة؛ كتابته -سبحانه- لكل ما قدره وقضاه في اللوح المحفوظ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج: 70]
الثالث: المشيئة؛ الإِيمان بمشيئته النافذة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام: 112] وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82] إلى غير ذلك من الآيات.
الرابع: الخلق؛ خلقه -سبحانه- لجميع الموجودات، لا خالق غيره، ولا رب سواه، فهو الخالق المدبر، وذو القوة والسلطان (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر: 62]، فالله -تعالى- علم الأشياء كلها قبل وجودها، وكتبها عنده، وشاء ما وجد منها، وخلق ما أراد خلقه.
قال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر".
ثم استدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم. بين ابن عمر -رضي الله عنهما- أن من أنكر القدر، فإنه لا تُقبل منه أعماله ولو أنفق مثل جبل أحُد ذهبًا في سبيل الله؛ لأن الله -سبحانه- لا يقبل الأعمال إلا من مؤمن.
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإِيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
عباد الله: إن أول شيء خلق الله -قبل السموات والأرض-، فأمره الله -سبحانه- أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا دليل على شمول علم الله وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12]
قال أحمد: "القدر: قدرة الرحمن"، قال شيخ الإِسلام: "يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله على كل شيء".
وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار". بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوعيد الشديد لمن أنكر القدر، واستحقاقه النار والعياذ بالله.
عباد الله: وفي المسند، والسنن عن ابن الديلمي، قال: "أتيت أبيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي.
فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار".
قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت؛ فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"، حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه. يخبر ابن الديلمي -رحمه الله- أنه حدث في نفسه إشكال في أمر القدر فخشي أن يُفسد عليه دينه، فذهب ليسأل بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينوا له: "أنه لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا في سبيل الله؛ ما قبله الله منه حتى يؤمن بأن جميع الأمور كائنة بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما قدر من الخير أو الشر فلن تجاوزه إلى غيره، وما لم يُقَدَّر عليه فلن يصيبه، وأن من مات على غير هذا كان من أهل النار".
وفي هذا الأثر دلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه؛ عملاً بقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]
عباد الله: من ثمرات الإِيمان بالقضاء والقدر:
الطمأنينة للقلب: لأن المؤمن بالقدر يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والثاني: منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملاً يشكل عليه، لأن الله هو الذي منَّ عليه وقدره له وأعانه عليه.
الثالث: ثباته وصبره وعدم تسخطه على ما أصابه من الأقدار المؤلمة لأنه يعلم تدبير العليم الحكيم.
فالواجب على العبد الإِيمان بالقدر خيره وشره؛ لأنه ركن من أركان الإِيمان الستة، ومن أنكرها فقد كفر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإِسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فالإِيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإِيمان الستة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الإِيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم.
قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "الإِيمان بالقدر: هو أن تؤمن بتقدير الله -عز وجل- للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله -عز وجل- قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم؛ فالعلم سابق على الكتابة، ثم إنه ليس كل معلوم لله -سبحانه وتعالى- مكتوبًا؛ لأن الذي كُتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة، أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله -عز وجل-، ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنها مكتوبة".
وهذا القدر، قال بعض العلماء: "إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يُطِلع الله عليه أحدًا؛ لا ملكًا، ولا نبيًا مرسلاً؛ إلا ما أوحاه الله -عز وجل- إلى رسله، أو وقع فعلم به الناس، وإلا فإنه سر مكتوم"، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) [لقمان: 34] الآية، وإذا قلنا: إنه سر مكتوم؛ فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته؛ لأننا نقول لهذا الذي عصى الله -عز وجل- وقال: "هذا مقدر علي" ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت؟!؛ أفلا كان الأجدر بك أن تُقدر أن الله -تعالى- قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟
قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف: 5]؛ فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين.
وقوله: "خيره وشره" الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه، ومعلوم أن المقدورات خير وشر؛ فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا.
وإذا كان القدر من الله؛ فكيف يقال: الإِيمان بالقدر خيره وشره؛ والشر لا ينسب إلى الله؟
فالجواب: أن الشر لا يُنسب إلى الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والشر ليس إليك" رواه مسلم؛ فلا يُنسب إليه الشر لا فعلاً ولا تقديرًا وحكمًا، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]؛ تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يوحي به من العاقبة الحميدة، وهي الرجوع إلى الله -عز وجل-.
هذا، وصلوا وسلموا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم