عناصر الخطبة
1/ التقصير والتهاون في الطاعات 2/ ظاهرة التخلف عن صلاة الفجر 3/ فضائل المحافظة على صلاة الفجر 4/ إهلاك الله للظالمين في وقت صلاة الفجر 5/ الارتباط بين الهزيمة وتضيع صلاة الفجراقتباس
صلاة الفجر تلك المُحببة إلى قلوب العابدين المتقين، الطائعين لله -عز وجل- منها يبدأ المسلم يومه، ويبدأ سعيه ورحلته إلى الله لإصلاح نفسه التي طالَها ما طالها من ذنوب ومعاصٍ، وران على قلبه ما ران من الأدران الفاسدة حتى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي جنبنا سبل الغواية وهدانا للإسلام، فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم لقاه.
أما بعد:
معاشر المؤمنين والمؤمنات: أوصيكم ونفسي أولًا بتقوى الله؛ لأنه من (يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3]؛ لأنه من (يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4]؛ لأنه من (يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].
فاللهم اجعلني وأحبتي من المتقين.
مظاهر التقصير والتهاون في الإقبال على الطاعات في هذه الأمة كثيرةٌ وصُورها متعددة، وقد يكون ذلك عند البعض في فضائل الأعمال والسنن، وقد يتعدى عند البعض إلى واجبات الدين وفرائضه.
واليوم -بإذن الله- نقف مع إحدى هذه المظاهر أو هذه الصور التي اشتهرت وانتشرت انتشارا لا يمكن معه الإنكار، وعمت حتى لحِقت بعض المؤمنين الأخيار، مع أن هذه الظاهرة، هي سمة المنافقين -نعوذ بالله من حالهم وحال أهل النار-.
هذه الظاهرة هي الإعراض أو التخلف عن إحدى الصلوات الخمسِ المفروضة، ألا هي: صلاة الفجر التي تجعل من يحافظ عليها في ذمة وفي رعاية وحماية الله سائرَ اليوم، كما في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صلى الصبح، فهو في ذمة الله"، وتجعل المحافظةَ عليها من أسباب النجاة والفوزِ يومَ القيامة.
لكن الكثيرَ من المسلمين أضاعوا صلاة الفجرِ وأسقطوها من اهتماماتهم، فلا يصلوها إلا بعد انقضاء وقتها، فوالله لو نطقت هذه الصلاة لاشتكت قلة من يشهدها من المصلين، واشتكت من حال كثيرٍ من المسلمين الذين كَثُر تخلفُهم عن أدائها مع الجماعةِ، أو لم يصلوها إلا بعد خروج وقتها.
فصلاة الفجر قضية محورية في حياة الفرد وحياة الأمة المسلمة.
صلاة الفجر تلك المُحببة إلى قلوب العابدين المتقين، الطائعين لله -عز وجل- منها يبدأ المسلم يومه، ويبدأ سعيه ورحلته إلى الله لإصلاح نفسه التي طالَها ما طالها من ذنوب ومعاصٍ، وران على قلبه ما ران من الأدران الفاسدة حتى ارتكس في مرتعٍ آسِن لا يُقرُّ معروفا ولا يُنكر منكرا.
فمن صلاة الفجر يبدأُ الفرد وتبدأ الأمة تصحيحَ المسارِ في الحياة، ومنها تبدأ رحلة الجهاد الشاق، جهاد النفس وما أشقه من جهاد!
وبها يقاس مستوى الأمة وقيمتُها وقدرُها، فالأمة التي تُفرط في صلاة الفجر في جماعة لا تستحق التمكين والاستخلاف في الأرض، بل تستحق أن يستبدلها الله بأمة غيرها، قال ربنا –سبحانه- في سورة الأنعام: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام: 133]، وقال في سورة فاطر: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 16 - 17]، وقال في سورة النساء: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) [النساء: 133]، وقال في سورة محمد: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
ومن العجائب: أن نجد بعض المسلمين لا يحافظون على صلاة الفجر في جماعة، ولا حتى على الصلوات الأخرى، ثم يتحدثون عن النصر والاستخلاف والتمكين في الأرض، فهل يكون ذلك معقولا أو مقبولا؟
تأملوا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- في هذه الآيات من سورة الإسراء، قال ربنا -سبحانه-: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78]، والمقصود بَ (قُرْآنَ الْفَجْرِ) الذي تشهده الملائكة، هو صلاة الفجر، وعبر عنها بالقرآن، ثم يقول ربنا: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79]، فقبل صلاة الفجر، قيامُ الليل، وبعد قيام الليل وتأديةِ صلاة الفجر، أمر ربنا بطلب النصرِ فقال: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 80 - 81]، آيات عجيبة -والله- فالعز والنصر وإظهار الدين والتمكينُ في الأرض لا يتأتى إلا بعد إقامة الصلاة، وبالذات صلاة الفجر.
وهذه هي أهم أدوات النصر في حياة صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، فأول ما اهتم به هو : صلاة الفجر، وتحفيز الناس على صلاتها والمحافظة عليها؛ لأن ذلك من عوامل النصر على الصليبيين أو غيرهم من أعداء الأمة.
وقد يخطئ البعض في ظنه أن صلاح الدين كان يظل قائما في المسجد ويترك إعداد الجيوش، فهذا ظن خاطئ، بل كان رحمه الله يأخذ بكل الأسباب المادية المباحة من الإعداد والتدريب والتنظيم والتخطيط، لكن في ذات الوقت كان يعرف أنه لا يمكن أن ينتصر إلا إذا كان متصلا بالله، فالمسلم أولا وأخيرا لا بد أن يرتبط بربه قبل أن يتوقع النصر، قال ربنا: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحـج: 40] ولا يمكن أن يكون الله مع من يضيع فرائضه وحقوقه، وصلاة الفجر من فرائض الله وحقوقه.
يا أمة القرآن: اقرؤوا القرآن بتدبر، فالقرآن كنز ربنا، وفيه أن تغيير الله -عز وجل- لواقع الأرض، وإهلاك الطغاة، وأهل الظلم والفساد يكون دائما في الصبح، فقوم لوط كان وقت إهلاكهم الصبح، قال ربنا: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود: 81].
وإهلاك عادٍ قومِ هودٍ في الصبح: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف: 25].
وثمودَ قومَ صالح كما في سورة هود: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 67]، إلى غير ذلك من الآيات، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وربنا -سبحانه وتعالى- عندما أقسم وقال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) [العاديات: 1 - 3] أقسم بالخيول التي تعدو وتغير في الصباح وقتَ التغيير ووقتَ الجهاد، ووقتَ التمكين، ووقتَ إهلاك الظالمين المفسدين.
وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، وسيبقى كلام الله هو الوعد الحق حتى اللحظات الأخيرة من عمر هذه الأرض أن النصر والتمكينَ سيكون لأولئك الذين يحافظون على صلاة الفجر في جماعة، وهذا ما أخبر به الصادق المصدوق محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما جاء في صحيح الجامع عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لم تكن فتنةٌ في الأرض منذ ذرأ الله ذريةَ آدم، أعظمَ من فتنة الدجال" يعني: أشدُّ فتنةٍ ستأتي على أهل الأرض هي فتنة الدجال: "وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة" ثم بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن صفات الدجال، وعن الأحداث المصاحبة له، وعن يأجوج ومأجوج، وعن طائفة المؤمنين التي سينزل عليها المسيح عيسى -عليه السلام- ليقيم العدل في الأرض من جديدٍ بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال صلى الله عليه وسلم: "وجلهم ببيت المقدس" أي جل المؤمنين آنذاك في بيت المقدس، نسأل الله -عز وجل- أن يحرر فلسطين كاملة: "وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم الصبح" هذا بنص كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فرجع ذلك الإمام يَنْكُصُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى، فيضع عيسى يده بين كتفيه فيقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم".
معاشر المؤمنين والمؤمنات: أبعد هذا يوجد من ينام وصلاة الفجر تقام في المساجد؟! فمتى يأتي اليوم الذي تمتلئ فيه المساجد ونجد فيها كلَّ المتخلفين والقاعدين من المسلمين يصلون الفجر في جماعة وكأنهم يصلون الجمعة؟
وفي هذا المقام أسوق لكم كلاما قاله أحد المسؤولين اليهود، قال: إنه لا يخاف من أمة الإسلام إلا في حالة واحدة، وهي أن يصل عدد من يصلون الفجر في جماعة كعدد الذين يصلون الجمعة في جماعة.
وسواءً هذا الكلام قاله فعلاً يهودي أو لم يقله فالجملة صحيحة صريحة: أن أمة الإسلام بغير صلاة الفجر في جماعة أمةً مهزومة.
احفظوها جيدا: الأمة التي تطلب العزة والكرامة والنصرة وهي تفرط في صلاة الفجر لا ولن يستقيم أمرُها أبدا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسل الله وعلى آله وصحبه.
"تستر" مدينة فارسية حصينة حاصرها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب سنة ونصف، ثم سقطت المدينة في أيدي المسلمين، وتحقق لهم فتحاً مبينا، وهو من أصعب الفتوحات التي خاضها المسلمون.
ويذكر أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن جيوش المسلمين دخلت مدينة تُسْتَر عند أذان الفجر، وبدخولهم، بدأت معركةٌ ذاتُ بأس شديد بين المسلمين والفرس، فلم يتمكن المسلمون من صلاة الفجر في وقتها، وظل القتال مستمرا حتى طلعت الشمس، ومن شدة ضراوة المعركة لم يتمكن المسلمون من الصلاة حتى إيماءً، وبعد أن أتمَّ اللهُ نصره للمسلمين صلوا الصبح بعد شروق الشمس.
وكان أبو موسى الأشعري يتألم يقول: "والله لقد ضُيِّعَتْ علينا صلاةُ الصبح، لصلاة الصبح عندي خير من ألف فتح" يتألم لصلاة فجر ضيعها في وقت السيوف على الرقاب، فهو يحزن على ضياع هذه الصلاة وعنده ما يعتذر به، فهو معذور، وجيش المسلمين معذور؛ لأنه مشغول بذروة سنام الإسلام، مشغول بالجهاد، لكن الذي ضاع يعده أبو موسى شيئا عظيما خيرا من ألف فتح!
ونحن -معاشر عمار بيت الله- ما هو عذرنا من صلاة الفجر؟ وكيف يكون عذرنا بين يدي ربنا؟
فلا بد من حمل هذا الأمر على محمل الجد، فتضييع صلاة الفجر أو تضييع فرض غيرها أحد عوامل الهزيمة الرئيسية للمسلمين، فما نراه من ضعف قد حَلَّ بالمسلمين ليس له إلا سبب واحد، ذكره عمر بن الخطاب للجيوش الإسلامية فقال:"إنكم تُنصَرون على عدوكم بطاعتكم لله ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العُدَّة والعتاد".
فبمجرد ما يتخلى المسلمون عن طاعة الله يتخلَّى الله عنهم، وإن نصروه نصرهم، قال ربنا: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد: 7] وما عند الله لا يُنَال إلا بطاعته.
فالأمر في منتهى الوضوح، والرسالة واضحة، وهي أن النصرَ والتمكين والاستخلاف لا يأتي إلا بطاعة الله، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم