عناصر الخطبة
1/من صور العطاء بعد نزول قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقون مما تحبون) 2/مما يؤسف له حال من يقدمون الدنيا على الآخرة 3/صور مشرقة العطاء مما يحب والورع عما يحباقتباس
وعن حمزة بن عبدالله بن عمر قال: قال عبدالله -يعني: أباه- حضرتْني هذه الآية؛ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، فذكرتُ ما أعطاني الله فلم أجدْ شيئًا أحبَّ إلي من جاريتي رُويمة، فقلتُ: هي حُرَّة لوجه الله -تعالى-، ولولا أنِّي لا أعود في شيءٍ جعلتُه لله لتزوجتُها...
الخطبة الأولى:
أما بعد -فيا أيها الناس- سلعة الله غالية، سلعة الله هي الجنة؛ فمن أراد الجنة قدم لها الغالي، ولن تنال بالدعة والكسل والتسويف، علما أن الجنة لا تنال إلا برحمة الله -عز وجل- وهذا بيان أن كل عمل تعمله لا يبلغ ثمن الجنة، ولكن عملك الصالح وما تقدمه في حياتك هو المفتاح لنيل رحمة الله، التي بها تدخل الجنة.
أيها المؤمنون: قال تعالى في سورة آل عمران: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]؛ فالبر قيل: المراد به الجَنة ونعيمها؛ كما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- إذ البِر سبيلُ الجنة أو الثواب الكثير، كما رُوي عن غيره، والمعنيان متقارِبان.
وقيل: المراد به: كمال الإحسان، وأيًّا ما كان المراد فالآية مرغِّبة في الإنفاق، دالَّة على أنه من أفضلِ أنواع البر، وقد أرشدتِ الآية إلى أدَب من آداب الإنفاق، وهو الإنفاق ممَّا يحب لا ممَّا يُبغض ويَكره، وتلك -لعَمر الله- أمارةٌ من أمارات الإخلاص، وفي الكتاب -الكريم- أيضًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[البقرة: 267].
وقدْ كان السَّلف الصالح -رضوان الله عليهم- أشدَّ الناس تمسُّكًا بهذا الأدَب، وأحرصَهم على هذا البر، رَوى البخاريُّ ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان أبو طلحة -رضي الله عنه- أكثرَ الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وكانتْ مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يدخلها ويشرَب مِن ماءٍ فيها طيِّب -أي: عذْب-؛ قال أنس: فلما نزلتْ هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92] جاء أبو طلحة إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسولَ الله، الله -تعالى- أنزَل عليك: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإنَّ أحب أموالي إليَّ "بيرحاء"، وإنَّها صدقةٌ لله -تعالى- أرْجو بِرَّها وذخرها عندَ الله، فضعْها يا رسول الله حيث أراكَ الله؛ فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "بخ بخ، ذلك مال رابِح.. ذلك مال رابِح، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرَى أن تجعلَها في الأقربين"؛ فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنِي عمِّه.
وفي الصحيحين أنَّ عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: يا رسولَ الله، لم أصبْ مالاً قط هو أنفسُ عندي من سَهمي الذي هو بخيبر فما تأمُرني به؟ قال: "حبس الأصل وسَبْل الثمرة"؛ أي: وقف الأصل، واجعلْ ثمرتَها للفقراء والمحتاجين.
وعن حمزة بن عبدالله بن عمر قال: قال عبدالله -يعني: أباه- حضرتْني هذه الآية؛ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، فذكرتُ ما أعطاني الله فلم أجدْ شيئًا أحبَّ إلي من جاريتي رُويمة، فقلتُ: هي حُرَّة لوجه الله -تعالى-، ولولا أنِّي لا أعود في شيءٍ جعلتُه لله لتزوجتُها، وكان عمرُ بن عبدالعزيز -رضي الله تعالى عنه- يَشتري أعدالَ السكر ويتصدَّق بها، فقيل له: لِمَ لا تتصدَّق بثمنها؟ قال: لأني أحبُّ السكر فأردتُ أن أتصدَّق ممَّا أحب".
هكذا شأن من أراد الجنة يبيع الرخيص، والدنيا كلها رخيصة، ليشتري الغالي وهو الجنة.
اللهم أيقضنا من الرقدات، وأعنا على فعل الطاعات يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله ......
الخطبة الثانية:
أما بعد -فيا أيها الناس- بعد ما سمعنا في الخطبة الأولى أن المسلم لن يدخل الجنة حتى ينفق مما يحب؛ فلنراجع أنفسنا وننظر هل قدمنا أمور الآخرة على أمور الدنيا.
إن مما يؤسف له أننا جعلنا أمور الدنيا مقدمة على أمور الآخرة؛ فالنوم يقدم على الصلاة، والنظر المحرم يقدم على غض البصر، والبعض يقدم الزنا على النكاح، وشرب الخمر، وأكل الربا، وعقوق الوالدين على برهما، واعدد ما شئت من الوقوع في المعاصي وهذا هو تقديم الدنيا، والقليل من يلتفت للدار الآخرة، أو يقول نترك هذا لله، أو خوفا من الله، لقد قل الدين في قلوبنا، فلا يردعنا رادع، والحلال عندنا ما اشتهت النفس، ولا يحرم على الشخص شيء يحبه، بل يبحث عن المسوغات والحيل، أين نحن عن الورع؟ وهو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- تقول: إن الناس قد ضيَّعوا أعظم دينهم وهو الورع.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرجُ له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ فقال: لقد تكهنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه".
وأخرج الإمام أحمد في كتاب الورع عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "قدم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مسك وعنبر من البحرين؛ فقال عمر: والله لودِدْتُ أني أجد امرأة حسنة الوزن، تزن لي هذا الطيب، حتى أُفرِّقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد: أنا جيدة الوزن، فهَلُمَّ أزن لك، قال: لا، قالت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحين عنقك، فأصيب فضلًا من المسلمين".
إن على المسلم أن يكون ورعًا، وأن يبتعد عن المشتبهات؛ لأن من اقترب منها وقع فيها، ومن وقع فيها وقع في الحرام، ووقوعه في الحرام يُفسَّر -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله- بمعنيين:
أحدهما: أن يكون ارتكابه للشُّبَه مع اعتقاد أنها شُبَه ذريعةً إلى ارتكابه الحرام بالتدرُّج والتسامُح.
الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمَنُ أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادف الحرام، وهو لا يدري أنه حرام.
إن علينا أن نُراجِع أنفسنا في: مأكلنا، ومشربنا، وملبسنا، وكتاباتنا، وما ننظر إليه، وما نستمع إليه، وما نتحدَّث به، وفي المسائل التي نفتي فيها، وفي كل أمورنا؛ قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الورَع في كلمة واحدة؛ فقال: "من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"؛ فهذا يعمُّ الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
اللهم اعصمنا من معصيتك، وأذقنا لذة حلاوة مناجاتك
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم