عناصر الخطبة
1/ أهمية الوقوف على سير نبلاء الإسلام 2/ خبر إسلام عمرو بن العاص 3/ فرح النبي الكريم بإسلامه وثناؤه عليه وثقته فيه 4/ دهاؤه وعبقريته االعسكرية 5/ فقهه 6/ مناقبه 7/ حسن خلُقه 8/ أخبار احتضاره ووفاتهاقتباس
ومن مناقب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه هدم صنم سواع بعد فتح مكة، وفي عهد أبي بكر حارب قضاعة لما ارتدوا عن الإسلام، وكان في معركة اليرموك على ميمنة الجيش الإسلامي، وثبت في مكانه حين أصاب الرومُ أعينَ سبعمائة من المسلمين ومعه أصحاب الرايات، وقاتل الروم بقوة حتى كتب الله تعالى النصر للمسلمين، وله مشاركات فاعلة في فتح الشام، وهو الذي فتح مصر ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيحتاج المسلمون إلى تذكيرهم بسير رجالاتهم، وأخبار سابقيهم، والوقوف على صفاتهم وأفعالهم؛ للاقتفاء والتأسي؛ ومن أجل تخفيف سيل الغزو الثقافي، والمسخ الأخلاقي الذي يتتابع على عقول الناشئة والكبار، رجالاً ونساءً، يجرهم إلى الإعجاب برموز الشرق والغرب من الكافرين والمنافقين، أو من فسّاق المسلمين وشذّاذهم، في زمن يسير فيه كثير من المسلمين خلف كلِ زائف من الحضارة، ويقلدون كل رمز من رموزها، ويتبعونهم حذو القذة بالقذة، كما أخبر عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فسيرة الصحابة ومن اهتدى بهداهم يجب أن تكون الأنموذج الذي يرُبى عليه شباب المسلمين وناشئتهم إن كان المسلمون يريدون صلاحاً وعزاً، ويتأكد الحديث عن سيرتهم وأيامهم إذا كان المنافقون والكافرون يجلبون بخيلهم ورجِلهم لتشويه تلك الصورة الناصعة في تاريخ البشرية، ويعلنون نبذ كل قديم، ويصيحون بطرح ماعلق في الأذهان من الماضي؛ زعماً أن ذلك سبب التخلف والرجعية، حتى ولو كان دين الله تعالى متمثلاً في القرآن العظيم، وسُنة سيد المرسلين -عليه الصلاة والسلام-، وأخبار صحبه الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-، هذه مقولة المنافقين، وهذا وزرهم، (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الأنعام:31]!.
أيها الإخوة: وهذه لمحات من سيرة داهية من دهاة العرب، وفذ من أفذاذ قريش، يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم، تأخر إسلامه إلى الثامنة من الهجرة حيث هاجر فيها ومثل بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلناً إسلامه.
لما سئل عن سبب تأخر إسلامه، وهو صاحب العقل الراجح، قال -رضي الله عنه وأرضاه-: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّمٌ وسنٌ، توازي حلومُهم الجبال، ما سلكوا فجاً فتبعناهم إلا وجدناه سهلاً، فلما أنكروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكرنا معهم ولم نفكر في أمرنا، وقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا الأمر بيّنٌ؛ فوقع في قلبي الإسلام.
إنه عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- يحكي قصة إسلامه فيقول: لما انصرفنا من الخندق جمعت رجالاً من قريش فقلت: والله إن أمر محمد يعلو علواً منكراً! والله ما يقوم له شيء، وقد رأيت رأياً. قالوا: وما هو؟ قلت: أن نلحق بالنجاشي على حاميتنا؛ فإن ظفر قومُنا، فنحن مَن قد عرفوا، نرجعُ إليهم، وإن يظفر مُحمد فنكون تحت يدي النجاشي أحبّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. قالوا: أصبت، قلت: فابتاعوا له هدايا...
قال: وقدمنا عليه فوافقنا عنده عمرو بن أميه الضَّمْري قد بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر جعفر وأصحابه، فلما رأيته قلت: لعلي أقتُلُه، وأدخلُت الهدايا، فقال النجاشي: مرحباً وأهلاً بصديقي، وعجُب بالهدية، فقلت: أيها الملك! إني رأيت رسول محمد عندك، وهو رجل قد وترنا، وقتل أشرافنا، فأعطينه أضربْ عنقه، فغضب، وضرب أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض دخلت فيها، وقلت: لو ظننت أنك تكره هذا لم أسألْكَه! فقال: سألتني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى الأكبر تقتُله؟ -يعني جبريل عليه السلام- فقلت: وإن ذاك لكذلك؟ قال: نعم، والله إني لك ناصح فاتّبعه! فوالله ليظهرن كما ظهر موسى وجنودُه!.
قلت: أيها الملك، فبايعني أنت له على الإسلام، فقال: نعم؛ فبسط يده فبايعته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، وخرجت على أصحابي وقد حال رأيي، فقالوا: ماوراءك؟ فقلت: خير.
فلما أمسيت جلست على راحلتي وانطلقت وتركتهم، فوالله إني لأهوى إذ لقيت خالدَ بنَ الوليد فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ قال: أذهبُ والله أسلم؛ إنه والله لقد استقام الميسم، إن الرجل لنبيٌّ ما أشك فيه، فقلت: وأنا والله.
فقدمنا المدينة، فقلت: يارسول الله، أبايعُك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم أذكر ما تأخر، فقال لي: "يا عمرُو بايِعْ؛ فإن الإسلام يجب ما كان قبله" أخرجه أحمد والحاكم.
وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وإسلام خالد، يقول -عمرو رضي الله عنه-: ما عدل بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبخالد منذ أسلمنا أحداً من أصحابه في حربه. أخرجه البيهقي.
وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان فقال: "ابنا العاص مؤمنان: هشام وعمرو" أخرجه أحمد والحاكم وصححه.
وكانت ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه كبيرة، خاصة في أمور الحرب، فقد ولاه قيادة جيش فيه أبو بكر وعمرُ وكبارُ الصحابة، يقول عمرو -رضي الله عنه-: بعث إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني"، فأتيته وهو يتوضأ، فصعَّد فيّ النظر ثم طأطأه فقال: "إني أريد أن أبعثك على جيش فيُسلِّمَكَ الله ويُغنمك، وأرغبُ لك من المال رغبة صالحة". قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال؛ ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: "ياعمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح!" أخرجه أحمد والحاكم وصححه.
ولما خرج الصحابة في ذات السلاسل تحت إمرة عمرو -رضي الله عنه- أصابهم برد شديد، فأرادوا أن يوقدوا ناراً فمنعهم، حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: ألا ترى إلى ما صنع بالناس؟ يمنعهم منافعهم. فقال أبوبكر: دعه، فإنما ولاّه رسول الله علينا لعلمه بالحرب.
وفي رواية: أنهم لما قدموا شكوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله! كان فيهم قلَّةٌ، فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتهم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين؛ فأعجب ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان -رضي الله عنه- فقيهاً، اجتهد فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على اجتهاده، روى عبدالرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟" فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29] فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئاً. أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
ومن مناقب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه هدم صنم سواع بعد فتح مكة، وفي عهد أبي بكر حارب قضاعة لما ارتدوا عن الإسلام، وكان في معركة اليرموك على ميمنة الجيش الإسلامي، وثبت في مكانه حين أصاب الرومُ أعينَ سبعمائة من المسلمين ومعه أصحاب الرايات، وقاتل الروم بقوة حتى كتب الله تعالى النصر للمسلمين، وله مشاركات فاعلة في فتح الشام، وهو الذي فتح مصر.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه معجباً بدهائه، حتى إن عمر إذا استضعف رجلاً في رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمروٍ واحد! يريد خالق الأضداد.
ولم يدفعه دهاؤه وحنكته إلى الغرور والتكبر؛ بل كان حسن الخلق، يقول قبيصةُ بن جابر: صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين قرآناً، ولا أكرم خلقاً، ولا أشبه سريرة بعلانية منه.
فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل دار الخلد مثواه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله - كما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر.
أيها الإخوة المؤمنون: كان لهذا الصحابي الجليل قصةٌ في تأخر إسلامه، وقصةٌ في سبب إسلامه، وقصةٌ عند احتضاره، عاتب فيها نفسه، ورجا رحمة ربه، ووصف الموت وشدته وصفاً دقيقاً.
أخرج ابن سعد أن عَمراً قال: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه، كيف لا يصفه؟ فلما نزل به الموت، ذكّره ابنه بقوله وقال: صفْه، قال: يا بني! الموت أجَلُّ من أن يوصف؛ ولكني سأصف لك: أجدني كأن جبل رضوى على عنقي، وكأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نَفَسي يخرج من إبرةٍ.
هذا وصف احتضار رجلٍ صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد له بالإيمان، وأبلى في الإسلام بلاءً حسناً، وقضى دهراً من عمره مجاهداً في سبيل الله تعالى، يا ترى كيف سيكون احتضارنا ونحن بهذا التقصير والعصيان؟! نسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ورحمته.
قال ابن شُمَاسة المَهْري: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه! أما بشّرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟ أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحدٌ أشدَّ بغضاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، ولا أحَبَّ إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مُتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار.
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ابسط يمينك فلأبَايعْك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: "مالك يا عمرو؟" قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: "تشترط بماذا؟"، قلت: أن يُغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟".
وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجلّ في عيْني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عينيّ منه، ولو مُتُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مُتُ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا عليّ التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنحرُ جزور ويقسم لحمها؛ حتى أستانس بكم، وأنظر ماذا أراجعُ به رسلَ ربي. أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن ثابت البُناني قال: كان عمرو على مصر فثقل، فقال لصاحب شرطته: أَدخلْ وجوه أصحابك، فلما دخلوا نظر إليهم وقال: ها قد بلغتُ هذه الحال، ردُّوها عني، فقالوا: مثلُك أيها الأمير يقول هذا؟ هذا أمر الله الذي لا مرّد له، قال: قد عرفتُ؛ ولكن أحببت أن تتعظوا، لا إله إلا الله، فلم يزل يقولها حتى مات.
وفي رواية عن عبد الله بن عمرو أن أباه قال عند موته: اللهم إنك أمرتنا فأضعنا، ونهيتنا فركبنا، فلا بريءٌ فأعتذر، ولا عزيزٌ فأنتصر؛ ولكن لا إله إلا أنت! وما زال يقولها حتى مات.
كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين، وصلى عليه ابنه عبد الله، ودفن يوم العيد رضي الله عنه وأرضاه، وقد قارب التسعين.
(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم