عناصر الخطبة
1/ مدح الصحابة في القرآن وبيان رضا الله تعالى عنهم 2/ طاعتهم المطلقة 3/ زهدهم في الدنيا 4/تفاعلهم مع الوحي 5/ سرعة مبادرتهم بالتوبة 6/ اقتداؤهم التام والصادق بالنبي الكريماقتباس
ما هي الميزات التي كانت عند الصحابة؟ ما هي الصفات الذاتية والصفات الإيمانية التي كانوا يتحلون فنصرهم الله تعالى، وجعلهم أئمة؟ بعث النبي عليه الصلاة والسلام في مكة ثم إلى المدينة، ثم يتوفى -عليه الصلاة والسلام- فيمصر الله تعالى الأمصار، ويفتح الفيافي والقفار بهؤلاء الصحابة الكرام؛ فيصل دين الله تعالى إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر وإلى اليمن وإلى أفريقيا، حتى وصل إلى أوروبا حتى وقف أواخرهم على البحر ..
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليلُه، وخِيرَتُه من خَلْقِه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضَّلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: يقول -جل وعلا- في محكم تنزيله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...) [الفتح:29].
مدَح الله تعالى في كتابه الكريم صحابة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، وبيَّن الله -جل وعلا- في كتابه الذي يبقى إلى قيام الساعة عظة وعبرة للناس رضاه عنهم، وقال الله -جل وعلا-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18].
قال جابر -رضي الله تعالى- عنه إنه قد نزلت هذه الآية في الصحابة الذين بايعوا النبي -عليه الصلاة والسلام- تحت شجرة الرضوان في الحديبية؛ وذلك انه -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل مُحرِمَاً مُلَبِّيا مع ألف وأربعمائة من أصحابه أقبلوا محرمين مشتاقين إلى البيت الحرام فمنعتهم قريش من دخول مكة؛ فأرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليتفاوض مع قريش ويتحاور معهم لعلهم أن يأذنوا له أن يدخلوا سِلْمَاً، فأشيع أنه قد قُتل، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وقعد تحت شجرة الرضوان، وبايعهم على الموت في سبيل الله تعالى.
يبايعونه على الموت وعلى بذل الأرواح كما بذلوا قبل ذلك أجسادهم ودماءهم، وتركوا أولادهم، وأنفقوا أموالهم، يبايعونه على بذل أرواحهم، فاستحقوا بعد ذلك أن يمدحهم الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...) [الفتح:18].
هؤلاء الصحابة الكرام اصطفاهم الله تعالى لصحبةِ خير رسله، وسيِّدِ الأنبياء، ورأس الأتقياء، محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام-، اصطفاهم الله تعالى من عامَّةِ الناس، علِمَ اللهُ تعالى أنهم هم أطهَرُ الأمَّةِ قُلُوباً، وأقلُّها عُيُوباً، وأصدقُها ألسِنةً، وأقربُها إلى الطاعات، وأبعَدُها عن المحرَّمات، فاصطفاهم الله تعالى من بين الأُمَّةِ كلِّها ليبعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-! لن أتكلم عن فضلهم، فلقد تقدم في ذلك بعض الخطب، إنما سنتحدث اليوم -أيها الأفاضل- عن: "كيف انتصر الإسلام بهؤلاء الصحابة الكرام؟".
ما هي الميزات التي كانت عند الصحابة؟ ما هي الصفات الذاتية والصفات الإيمانية التي كانوا يتحلون فنصرهم الله تعالى، وجعلهم أئمة؟ بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- في مكة ثم إلى المدينة، ثم يتوفى -عليه الصلاة والسلام- فيمصر الله تعالى الأمصار، ويفتح الفيافي والقفار بهؤلاء الصحابة الكرام؛ فيصل دين الله تعالى إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر وإلى اليمن وإلى أفريقيا، حتى وصل إلى أوروبا حتى وقف أواخرهم على البحر وقال: لو أعلم أن وراءك بلد لخضتك في سبيل الله!.
كيف انتصر الصحابة؟ ما هي صفاتهم التي كانوا يتحلَّون بها؟ كيف كان تعاملهم مع النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ كيف كان تعاملهم مع القرآن؟ كيف كان تعاملهم مع أخطائهم إذا وقع أحدهم في خطأ؟.
أيها المسلمون: كان صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- متبعين للنبي -عليه الصلاة والسلام-، مُسلِمِين لوحْي الله تعالى إليهم، ما كانوا يحاورونه أو يناقشونه إلا إذا أذن لهم بذلك، لم يكونوا يعارضون الشرع بالعقل، ولم يكونوا يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام-: لماذا أمر ربنا بكذا؟ وإنما كانوا يسألون: بمَ أمرنا ربُّنا؟.
ما كانوا يوقِفُون العمل على معرفة الحكمة، كلا! وإنما كان العمل يأتي إليهم ويأتون إليه طاعةً وقربة إلى رب العالمين؛ لَمَّا خرج النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى معركة بدر وقعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزل مع الجيش أقبل إليه الحباب بن منذر -رضي الله تعالى عنه- وهو يرى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نزل منزلا جعل فيه بئر بدر بينه وبين المشركين، فرأى حباب أن هذا لا يصلح، فنحن في معركة، وينبغي أن نمنعهم من الشرب ليعطشوا فننتصر عليهم.
فأقبل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم قال وهو غاية الأدب، ويعلم أنه لا يجوز أن يقدم بين يدي الله ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات:1]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...) [الأحزاب:36]، (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51]. نعَم سمعنا واطعنا! استسلام كامل للوحي.
قال الحباب: يا رسول الله! أهذا الذي نزلنا فيه موطنٌ أمرَك الله تعالى بنزوله فعلينا السمع والطاعة، أم هي الحرب والمكيدة؟ هل هو رأي يا رسول الله رأيتَه رأياً شخصياً بشَريَّاً يحق لنا أن نطرح عليكم ما يخالفه أم هو وحي من الله تعالى أوحاه إليك فيجب علينا السمع والطاعة؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، أنا رأيتُ أن هذا المكان أنسب، فقال الحباب: يا رسول الله، هذا موضع لا يصلح، لكن تقدم عن البئر فاجعل البئر خلفنا، فنشرب إذا عطشنا ولا يشربون فيضعفون عند القتال.
ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- متكبرا عن الاستماع إلى آراء أصحابه، ولم يكن مغرورا -عليه الصلاة والسلام- برأيه الشخصي، ولم يكن يتعامل معهم على أنهم جُهَّالٌ سُفَهاء لا يُقبل منهم رأي ولا عقل ولا حكمة، ولا صواب ولا خطأ، كلا! وإنما كان يُشعرهم بقيمتهم وعقولهم وآرائهم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فنِعْمَ الرأيُ!"، ثم أمَر الجيش أن يتحرك ليكون أمام البئر. فرحِم الله ورضِي عن الحباب، لم يتكلم في الاعتراض في رأي النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا في إبداء رأي شخصي حتى استأذن من رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وكان الصحابة الكرام غاية في الطاعة لأمر الله تعالى، ولم تكن طاعتهم للأمر أو انتهاؤهم عن النهي مبنيا على رأي شخصي، أو مبنيا، على شهوة داخلية، كلا! ففي حديث أنس أيضا -رضي الله تعالى عنه- الذي في حديث مسلم يقول: كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة، وأبو طلحة هو زوج الرميصاء أم أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- فإن أباه مالكاً قد هرب من المدينة لما أقبل النبي -عليه الصلاة والسلام- إليها، هرب منها مشركا، فتزوجت الرميصاءُ أمُّ أَنَسٍ أبا طلحةَ بعد ذلك.
يقول أنَس: كنت ساقي القوم، يعني أسقيهم الخمر في بيت أبي طلحة، وذلك قبل أن تحرم الخمر عليهم، قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل رجل من عند رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يصرخ ويقول: ألا إن الخمر قد حُرِّمَت، ثم تلا عليهم قول الله -جل في علاه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:91].
قال أنس: فوالله ما كاد يُتم كلمته ولا قراءته لما قال: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، واللهِ إن بعض القوم شرْبته في يده والله ما رفعها إلى فيه، قال: فسكبوها على الأرض وقاموا إلى جرار الخمر فسكبوها في السوق، قال: ثم أصابوا من عطرٍ عند أم سليم زوجة أبي طلحة، وهي الرميصاء، أصابوا من عطر عندها، تعطروا ثم خرجوا إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- والناس يسكبون الجرار في الطريق تخوض أقدامهم في الخمر، بعد ما كانت مُعَزَّزَةً مُكَرَّمَةً يشترونها بكبير أموالهم وصغيرها، كانت مكرمه لما كانت حلالا؛ لكنها لما أصبحت حراماً صارت مُهانةً تحت أقدامهم. طاعة تامة لله -عز وجل-.
هؤلاء الصحابة أطاعوا الله تعالى، وقدموا أمر الله تعالى على مراد أنفسهم وعلى شهواتها، استحقوا أن يفتح الله تعالى بهم البلدان، وأن يذلوا كسرى وقيصر، وأن ينصر الله تعالى الدين الذي يحملونه لمــَّا صدقوا في طاعتهم لرب العالمين.
وقد كانت الدنيا على الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- رخيصة، ما كان الواحد منهم يبحث عن رئاسة أو إمارة أو شهرة، بل كان الواحد منهم يود لو أن أخاه كفاه ذلك. اليوم، إذا نظرت إلى بعض مَن يعملون للإسلام، وجدت من حظوظ النفس التي تخالط عمله الصالح ما يجعل هذا العمل فاسداً وغير مبارك، من حظ النفس في حب الشهرة أو الظهور أو حب المال، أو أحيانا الرياء، أو حب ثناء الناس عليه، أو قل غير ذلك!.
لما اطلع الله تعالى على قلوب الصحابة فرأى فيها قصداً واحداً فقط لا شريك له وهو ابتغاء وجه الله تعالى، ومحبة نصرة هذا الدين، استحقوا أن ينصر الله تعالى بهم هذا الدين، حتى رفع الله تعالى رؤوسهم على جميع الناس.
أيها المسلمون: وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم متفاعلين مع الوحي عندما يتلوه النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم، كانوا بكَّائين بقلوب صافية، وعقول حاضرة مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ خطَبَهُم النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبة بليغة، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ثم قال -عليه الصلاة والسلام- في أثنائها: "والله لو تعلمون ما أعلم لَضحكتم قليلاً، وَلَبَكَيْتُم كثيرا، وما تلذَّذْتُم بالنساء على الفرُش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى!" فماذا فعل الصحابة لما قال -عليه الصلاة والسلام- " لو تعلمون ما أعلم"، يعني من عظمة الله تعالى وعاقبة معصيته، وما أعد لمن عصاه من العذاب وما أعد لمن أطاعه من النعيم، لو تعلمون ما أعلم من هذه الأمور، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ماذا فعلوا؟.
قال راوي الحديث: فوالله! لقد وضع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جباههم على ركبهم، كان بعضهم محتبيا، لقد وضع بعضهم جبهته على ركبته ولهم خنين من البكاء لمـــَّا وعظَهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا البكاء الذي يقع منهم، ويحرِّك قلوبهم، ويسدل من عيونهم، يراه الله تعالى فيعلم فعلا صدق قلوبهم في التعامل مع -ربنا عز وجل-.
وكان الصحابة -رضي الله تعالى- عنهم إذا وقع أحدهم في خطأ، ولو في الخطأ الصغير، سارع مباشرة إلى التوبة منه، والإنابة إلى الله تعالى، ولم يكن يحتقر صغيرا أو يظنه لا يضره، كلا! بل كان الواحد ينظر إلى عِظَم مَن عَصَى، ولا ينظر إلى صِغَرِ ما وقع فيه.
قال أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنه- كما عند البخاري، بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فصبحنا الحرقات من جهينة فهزمناهم، قال: فلما انهزموا لحِقْتُ أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، رجلاً من قبيلة جُهَينة كان قد قتل من قتل من الصحابة الكرام، فلما رأي أصحابه منهزمين ألقى سيفه وانهزم معهم.
يقول أسامة: فلحقتُه أنا ورجل من الأنصار، قال: فلاذ منا بشجرة، فأقبلتُ أنا والأنصاري، فلما رفعنا عليه السيف وهو خلف الشجرة وجاءه أحدهم من يمينه ويساره، قال: لما رفعنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله. آلآن تقولها وقد قتلتَ ما قتلت من الصحابة. آلآن تقولها لما وقع من يدك سيفك وتولى عنك أصحابك؟ آلآن تذكر لا إله إلا الله؟ أين أنت عن لا إله إلا الله قبل ذلك؟!.
قال أسامة: فأما صاحبي الأنصاري فخفض سيفه، وأما أنا فعلوت بالسيف حتى قتلته، يقول: فوقع ذلك في نفسي! وهذا هو الفرق بيننا وبينهم، الإنسان منهم يقع في الخطأ فتلومه نفسه، (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2]، نفس طيبة تلوم الإنسان، لماذا نمت عن الصلاة؟ لماذا عقَقْتَ والديك؟ لماذا سبَبْتَ فلانا؟ لماذا منعت فلانا بقية حسابه وماله؟ لماذا ما فعلت كذا...؟ نفس لوامة مؤمنة تلوم، ليست نفساً قد غطى علينا الران، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]، كلا! نفس طيبة، وقلوب صافية، وبالتالي أدنى شيء من الخطأ يؤثر.
يقول: فوقع ذلك في نفسي، فلما رجعنا أقبلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلت يا رسول الله: إنا قد صبحناهم فهزمناهم، قال: "إي"، يعني: أكمِلْ، قال: فلحقت يا رسول الله أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم. قال: "إي"، قال: فلاذ مِنَّا بشجرة يا رسول الله. وأسامة كأنما ينتزع القصة انتزاعا من أقصى عروقه خوفا وطمعا ورهبة من رب العالمين، وخوفا مما يجيبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع أنه إنما قتل الرجل اجتهادا، ما بينه وبينه عداوة، ولا تعمد أن يخطئ، كان قتالاً في سبيل الله وجهاداً.
وكان أسامة -رضي الله تعالى عنه- غلاما صغيرا في ذلك اليوم، وذلك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عند وفاته قال: "ابعثوا جيش أسامة"، الجيش الذي رئيسه أسامه وقائده أسامه ابعثوه إلى الشام يقاتل، وكان عُمُرُ أسامةَ ست عشرة سنةً فقط عند وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان قائدَ جيش!.
إذن، لما وقعت قصة جهينة ،كم كان عمره؟ هو -يقيناً- تعدى خمس عشرة سنة، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمنع من هو دون الخمس عشرة سنة فلا يأذن له بدخول القتال، فهو -يقيناً- تعدى الخمس عشرة سنة، لكنه لم يجاوز السنة السادسة عشر.
ومع ذلك يقول: فوقع ذلك في نفسي، وجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! يا رسول، فصبَّحناهم فهزمناهم، فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يستمع ويقول: "إي"، قال: يا رسول الله، فلما رفعنا عليه السيف قال: أشهد ألا إله إلا الله وان محمداً رسول الله، عندها أحَدَّ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بصره إلى أسامة، إلى حِبِّه وابن حبه، إلى مَن تربَّى في بيته، ونشأ في كنَفه، إلى مَن يحبه النبي -عليه الصلاة والسلام- حبا عظيما إلى درجة أنهم كانوا إذا أردوا أن يشفعوا لأحد عند رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قدَّموا أسامة ليشفع لهم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ومع ذلك أَحَدَّ -عليه الصلاة والسلام- بصرَه إليه، قال: يا رسول الله، فلما قالها، فأما صاحبي الأنصاري خفض سيفه، وأما أنا فعلوته بالسيف حتى قتلته، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "قتلتَه بعد أن قالها؟" قال: نعم يا رسول الله! قال: "قتلته بعد أن قالها؟" قال: نعم يا رسول الله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "كيف لك بـ لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك يوم القيامة؟".
يوم القيامة لن يحاجّك الرجل، ولا يحاجك سيفك، ولا الدم الذي انهمر من عنقه، إنما ستأتي لا إله إلا الله بعِظَمِها ومقامها ومكنتها وحجمها وجلالها تحاجك عند الله! فكيف لك بـ لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك يوم القيامة؟.
قال أسامة: يا رسول الله! ما قالها إيمانا بالله، الموقف يدل على ذلك، ما قالها إيمانا بالله، إنما قالها خوفا من السيف، اتقاء من السيف كي لا يقتل! فقط قالها هكذا بلسانه. قال -عليه الصلاة والسلام-: "أشَقَقْتَ عَنْ صَدره؟" لِتَنْظُر قالها إيمانا بالله أو خوفا من السيف؟! كيف حكمت عليه؟ شققت عن صدره؟ لعل الله أنزل عليه الإيمان في هذه اللحظة، وما أدراك؟ أشققت عن صدره لتنظر قالها إيمانا بالله أو خوفا من السيف؟ كيف لك بـ لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك يوم القيامة؟.
ماذا قال أسامة، وهو الذي عمره خمس عشرة سنة؟ يقول: فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلومني حتى تمنيت أني ما دخلت في الإسلام إلا تلك اللحظة! تمنيت إني ما حضرت المعركة ولا كنت مسلما منذ أن ولدت، تمنيت أني لم أدخل في الإسلام إلا بعد وقوع المعركة؛ لأجل أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الإنسان يغفر له ما كان قبله.
لذلك؛ لو كان هذا من غير الصحابة لقال: يا رسول الله، أنا مجتهد! يا رسول الله، خرَجْتُ محتسبا إلى القتال! يا رسول الله، أنا صغير عمري خمس عشرة سنة! يا رسول الله، أصلا... وجعل يناقش! الصحابة كان عندهم استسلام، كما قال تعالى: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]، قصده نصرة الدين ويعلم أن الطريق الوحيد إلى الجنة هو اتباع هذا النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ وبالتالي كانوا يقدمون قوله على كل قول.
أسأل الله تعالى أن يجمعنا بصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنته، وأن يجعلنا ممن يهتدون بهديه، صلوات ربي وسلامي عليه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: ومما جعل الصحابة الكرام -رضي الله تعالى عنهم- مما جعلهم يفتحون الدنيا ويمكنون للدين وينصر الله تعالى بهم دينه ويعلي كلمته ويرفع رايته، مما جعلهم على ذلك أنهم كانوا متبعين لسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أحدهم يأكل كما يأكل النبي -عليه الصلاة والسلام-، يشرب كما يشرب، ينام كما ينام، كان يتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- في كل شيء، كلا! بل كانوا أعظم من ذلك، كانوا يحبون ما يحبه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويبغضون ما يبغضه النبي -عليه الصلاة والسلام-، حتى وإن كان ما يبغضه هو أمرٌ حلال، أو كان ما يحبه -عليه الصلاة والسلام- حبا شخصيا فقط وبشَريا فقط يحبونه.
يدل على ذلك ما في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: وقعدت يوماً مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- آكل طعاما، قال: فلما قعدت معه -صلى الله عليه وسلم- رأيت النبي -عليه الصلاة والسلام- يتتبع الدباء، والدباء هو ثمرة القرع، يقول: رأيته يتتبع الدباء فيأكله، قال أبو هريرة: فما زلت -والله!- بعدها أحب الدباء بعد إذ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه.
من شدة محبته لرسول -عليه الصلاة والسلام- اتبعه في كيفية صلاته، وكيفية عبادته، وكيفية قراءته للقرآن، كيفية أكله، وشربه، ونومه، وذهابه لقضاء حاجته، ما هي السنن؟ يتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- اقتداء واتباعا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21]. ثم زادوا على ذلك أنهم يحبون ما يحبه النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى من الطعام والشراب، وكان يقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في كل شؤونهم.
رؤيا بعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته وهو يصلي وقد فتح أزراره، كما في السنن، فسأله بعض التابعين قال: إنك تصلي وقد فتحت أزرار ثوبك؟ فقال لهم: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى وقد فتح أزرار قميصه، فأنا أحب أن اعمل كما عمل النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هذا الأتباع الصادق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مظاهرهم، وفي أكلهم وشربهم وجميع حياتهم وفي وعظ وتعنيف من لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم..
هذا الذي رآه الله تعالى منهم هو من أعظم الأسباب التي استحق بها ذلك الجيل أن ينصره الله تعالى.
أسأل الله -جل وعلا- أن يلحقنا بخير صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسال الله تعالى أن يرضى عنهم، اللهم العن مَن لعَنَهُم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم