عناصر الخطبة
1/رحلة سير العبد إلى ربه 2/مراحل الإنسان في سيره إلى ربه 3/مصيبة الموت 4/مرحلة الاحتضار والموت 5/مرحلة الحياة البرزحية 6/فتنة القبر وعذابه 7/بعض أهوال يوم القيامة 8/حال المؤمن والمنافق يوم القيامة 9/الحساب والعرض على الله 10/نصب الميزان 11/الصراط 12/خلود أهل الجنة وأهل الناراقتباس
أيها المسلمون: إن الحياة الدنيا مهما امتدت، ومهما طالت، ومهما صفت، فمصيرها إلى الزوال، وإن هي إلا أعوام وتنقضي، وربما كانت أيامًا أو ساعات، وكم هي لبعض الناس بضع لحظات، فيصبح المرء بعدها في حفرة وحيدًا ليس معه الأولاد ولا الأموال ولا الزوجات، ولا خليل يناديه، كأن لم يرَ الدنيا ولم تره. هذا إذا كانت الدنيا التي عاشها صافية له ونقية كيف وقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، تفرد بالحول والقدرة، وعظم فلا يقدر أحد قدره، خلق الإنسان من نطفة، وأحصى عمره، وقضى عليه بالموت، فأراه قبل مماته قبره.
أحمده سبحانه، فكم أقال من عثرة، وأنزل القرآن موعظة وذكرى، فكم أسالت آياته من عبرة.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قلب وجل يترقب أن ينجو بها من سؤال الحفرة، ويدخرها ليستظل بها في ظل العرش يوم الحسرة.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فضمن له نصره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، ومن سار على نهجهم، وترسَّم خطاهم، فلم يتجاوزوا نَهيه، واتَّبعوا أمره، وسلم تسليمًا.
أمَّا بعدُ:
فأوصيكم -عباد الله-: ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
أيها المسلمون: إن الإنسان في هذه الحياة يسير في طريق إلى أن تنتهي، وعلى مراحل يقطعها مرحلةً مرحلة، وهو سائر في الطريق إلى أن ينتهي أجله إلى آخر السفر، وإن هذا السفر وهذا المسير لا ينقطع بنومٍ ولا بأكل، ولا بغفلة ولا بذكر.
إنه مسير دائم يسير الإنسان فيه نائمًا ويقظان، يسير فيه قائمًا وقاعدًا، يسير فيه ماشيًا ومهرولًا، يسير فيه في كل لحظة، فأوشك بسير هذه المراحل أن ينقطع سريعًا، فكل لحظةً تمر به، فإنها تبعده من الدنيا، وتقربه من الآخرة، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعماله، محفوظة له شاهدة بما عمِل فيها من خير وشر.
إنها رحلة سوف يمر بها كل واحد منا شاء أم أبى!.
رحلة تبدأ منذ الاحتضار، بل قل منذ أن تخرج من هذه الحياة تخرج من دار أولى هي بطن أمك، تخرج تبكي على فراقك لبطن أمك، فلما ترى النور تفرح أنك خرجت من بطن أمك، ثم تعيش عمرك الذي كتبه الله لك في الحياة الدنيا، وحتى إن يوافيك الأجل المحتوم، وتأتيك ساعة الاحتضار، فتنتقل من تلك الدار التي فرِحت بالخروج إليها إلى دار أخرى.
إن كنت قد استعددت لها ستفرح أنك فارقت الحياة. (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الشورى: 36].
ثم ستنتقل أيضًا من تلك الدار إلى الدار الأبدية: إما جنة وإما نار، مراحل وأطوار يمر بها كل واحد منا.
أيها المسلمون: إن الحياة الدنيا مهما امتدت، ومهما طالت، ومهما صفت، فمصيرها إلى الزوال، وإن هي إلا أعوام وتنقضي، وربما كانت أيامًا أو ساعات، وكم هي لبعض الناس بضع لحظات، فيصبح المرء بعدها في حفرة وحيدًا ليس معه الأولاد ولا الأموال ولا الزوجات، ولا خليل يناديه، كأن لم يرَ الدنيا ولم تره.
هذا إذا كانت الدنيا التي عاشها صافية له ونقية كيف وقد ملئت الدنيا بالمشكلات والمنغصات؟ كم مر بنا من خير ومسرات؟! كم ضحكنا؟! كم بكينا؟! كم صححنا!؟ كم سقمنا؟! كم عوفينا؟!
تقلبات مرت بنا كأن لم تكن، فكل واحد منا على يقين أنه سيلاقي ربه يومًا، ومواجهًا أمرًا خطيرًا، وخطبًا شديدًا، سماه خالقه: "مصيبة".
ويا لها من مصيبة تهدم اللذات، وتقطع الراحات، وتفرق الجماعات، تنزل بالواحد: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19].
ويقول سبحانه : (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)[النساء: 78].
ويقول النبي المصطفى-صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به"[رواه البيهقي].
ويقول لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
فالموت في موعده المقسوم، وأجله المحتوم: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)[آل عمران: 145].
(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
فالآجال محدودة، والأنفاس معدودة، والآمال مضروبة، ثم نهاية محتومة، فيحل في الساحة هادم الذات، ومفرق الجماعات، فإما إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
نعم -أيها الإخوة-: يوسدك الأهل والأولاد والأحباب التراب، وسيحيط بك الظلام من كل ناحية، وسيذهبون عنك، فتسمع قرع نعالهم، سينادي عليك: ذهبوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللسؤال قربوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ما ينفعك إلا عملك؛ يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيتُ منظرًا قطّ إلاّ والقبر أفظعُ منه".
توضع في القبر الذي طوله أذرع قليلة، وعرضه أذرع قليلة لا تستطيع الحركة فيه كما تشاء.
النور والإضاءة غير موجودة، لا خدمة ولا مكيفات، بل انقطع الهواء، وانقطع كل شيء، وانقطعت عن العالم تمامًا.
أنت الآن في عالم آخر، أنت الآن في عالم القبور، في عالم الظلمة، في عالم التراب، التراب يحيط بك من كل الجهات، والظلام يحيط بك من كل الجهات.
وأنت لا تدري ماذا سيحصل لك في تلك اللحظات بعدُ؟ (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)[ق: 19].
الحق أنك ستموت، الحق أنك ستأتيك ملائكة؛ إما ملائكة رحمة، أو ملائكة عذاب.
الحق أنك ستعرض للسؤال، الحق أنك سترى؛ إما جنة وإما نار، فكيف سيكون الحال؟ وكيف سيكون السؤال؟ بل ليت شعري كيف سيكون الجواب؟ وأين سيكون المصير؟ هل ترى مقعدك من الجنة، أم ترى مقعدك من النار؟
والقبر هو الفيصل الذي به يعرف ما للعبد عند ربه، والقبر روضة من الجنان، أو حفرة من حفر النيران.
الأسئلة معروفة يعرفها الصغير والكبير: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟
إنه اختبار للتوحيد، اختبار للصدق، اختبار للاتباع، صدق الاتباع، تقدم لك في ذلك المكان تلك الأسئلة الثلاثة، من قالها وأفلح في الإجابة عنها، فقد فاز، وأُرِي مقعده من الجنة، ومن لم يفلح وتردد، وتلعثَم في الإجابة، أُرِي مقعده من النار.
لا مجال للتعويض ليس هناك دور ثانٍ تعطى؛ أعطيت الفرصة عمر كامل؛ حتى تستعد للإجابة.
كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه- إذا وقَف على قبرٍ يبكي حتى يبلَّ لحيتَه، فقيل: تذكر الجنّةَ والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا! قال: إنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ القبرَ أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعدَه أيسرُ منه، وإن لم ينجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه".
وهذه آمالنا تطوى وأعمارنا تفنى، وليلنا ونهارنا يقربان كل بعيد، ويفنيان كل جديد.
ألا وإن الموت -يا عباد الله-: آت إليكم، ولن يمنعه منكم مانع، وإن عذاب الله إذا وقع فما له من دافع، ووالله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت، لكان هينًا سهلًا، لكنه مع شدته وهولِه أهونُ مما يليه، والقبرُ مع ظلمتِه أهونُ مما يليه، كلُ ذلك هينٌ إذا قُرنَ بالوقوفِ بين يدي الله الكبيرِ المتعال، في يوم تدهش فيه الألباب، ويتناكر فيه الأحباب، وبعده البعث والحساب، إذا تلفت المرءُ يمينًا، فلم يرَ إلا ما قدم، وإذا رأى شمالًا فلم يرَ إلا النار.
نعم ينتقلون الأموات من عالم القبور إلى يوم الحشر والنشور، فيبعث الله من في القبور، يقول الحق --تبارك وتعالى-: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الكهف: 47-48].
نعم سوف يخرج كبيرنا وصغيرنا، غنينا وفقيرنا، حقيرنا وأميرنا، كلهم سوف يخرجون من القبور، يوم يُبعثر ما فيها، ويحصل ما في الصدور، ونحن ننفض التراب عن رؤوسنا، أين يخرجون -يا عباد الله-؟
يخرجون في موقف اللقاء العظيم في أرض: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[طه: 107].
وهنا كفى يوم مقداره خمسين ألف سنة، الله أكبر يلقى الأبُ ابنه، فيقول: بني، فيقول الابن: يا والدي نفسي، نفسي، وتَلقى المرأة زوجها، فتقول: زوجي، زوجي، فيقول: زوجتي نفسي، نفسي، وتلقى الأم ابنها، وهي تصيح وتقول: ولدي حملتك وأرضعتك، وغسلتُ نجاستك، ولدي لا تتركني، فيقول: يا أماه، نفسي، نفسي: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر: 38].
(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ)[المعارج: 11 - 13].
حين يدني عليهم جبار السموات والأرَضين، الشمس فتدنوا من الرؤوس، فالحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: "تدني الشمس من الرؤوس حتى ما يكون بينها وبين الناس إلا ميل".
فكيف بنا إذا بلغ العرق مبلغه، فمنهم كما أخبر الحبيب الصادق صلى الله عليه وسلم من يبلغ كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، فالمؤمن لا يحس بهذا في ظل الرحمن، يمر عليه الموقف كصلاة ظهر أو كصلاة العصر -اللهم لا تحرمنا وهذه الوجوه فضلك في ذلك اليوم يا حي يا قيوم-.
وأما المنافق وما أكثرهم "لا إله إلا الله"، فهو أطول من خمسين ألف سنة يصورهم القرآن: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[السجدة: 12 - 14].
حينئذ يرتفع صياح الظلمة، ويأكلون أيديهم بعد أن شعروا بالخيبة كيف لا، وقد ضيعوا أوامر الله؟! كي لا وقد ضيعوا الصلوات! كيف لا وقد تعاملوا بالربا! كيف لا ومن عاداتهم السرقات واستعمالهم المسكرات! حينئذ يعضون على أيديهم ولكن هيهات هيهات: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29].
حينها ترتفع العبرات، وتشتد الزفرات، وتتردد الحسرات، وتعلوا الصيحات، فاتعظوا -يا عباد الله-: إن كنتم تسمعون وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون، ويزداد الهول والشدائد على الناس بجهنم، فيؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان: 12، 13].
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر: 21 - 26].
فالنار -يا عباد الله-: حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها حديد، هذا طعامهم فيها من النار، ولباسهم فيها من نار، ومساكنهم طبقت عليهم النار من كل فوقهم ومن تحتهم، فكيف سيكون الحال -يا عبد الله-؟
سيشتد الهم والغم عليهم، فكيف سيكون حالي وحالك؟ فكيف سيكون حال أولئك الذين ضيعوا الأوامر، واختلقوا النواهي والمحرمات؟ فكيف سيكون حال الكاسيات العاريات؟ وكيف سيكون حال الذين فرطوا في الصلوات وأولئك الذين أكلوا الأموال الربويات؟
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36].
تذكر -عبد الله-: وقوف الخلق بين يدي الله خاشعين، يريدون أن يتكلموا، فلا يؤذن لأحد، يريدون أن يتحركوا، فلا يؤذن لأحد، يريدون أن يعتذروا، فلا يؤذن.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى أصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالًا تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30].
أيها الإخوة المؤمنون: يأذن الجبار -سبحانه وتعالى- بالحساب فتظهر الفضائح، وتعرض الخفايا: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].
فيصف الناس صفوفًا: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا)[الكهف: 48].
فيبدأ الحساب ويأتي الجبار -جل جلاله- شعار ذلك اليوم: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر: 17].
فتوضع الموازين: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)[الأنبياء: 47].
تخيل كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، تخيل إذا سمعت النداء: فلان بن فلان، استعد للعرض الآن ستقودك الملائكة من آخر الصفوف كسيرًا حزينًا، تفطَّر قلبك وارتعدت فرائصك، وتلعثَم لسانك، والناس ينظرون إليك لا تدري إلى أين المصير، حتى إذا أُوقِفت بين يدي الجبار: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ)[البقرة: 210].
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)[النحل: 111].
فيذكرك الله بنِعَمه التي أنعمها عليك: ألم نطعمكم؟ ألم نسقكم؟ ألم نزوجكم؟ ألم نسقط عليكم النعم ظاهرة وباطنة؟
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف: 6 - 8].
فيا عبد الله: تذكر وقوفك لاستلام نتيجة أعمالك، يوم يوقف العبد بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق: لقد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، عندها يَطرَب ويفرَح، ويقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة: 19].
وإن خفَّ ميزانه نادى المَلك بصوت يُسْمع الخلائق: لقد شقِي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا، فذاك هو الرسوب، عندها يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ)[الحاقة: 25].
"لا إله إلا الله" ما عساك فاعل يوم يُنادى باسمك: يا فلان بن فلان، هَلُمَّ إلى العرض على الله، قمت ولم يقم غيرك، يا لضَعفك، يا لشدة خوفك، يا لخَفقان قلبك يوم تقف بين يدي الملك الحق المبين، وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يا لله لك يوم تقرأ صحيفتك بلسانٍ كليل وقلبٍ كسير، وحياءٍ من الله عظيم.
بأي لسان تجيبه حين يسألك عن عملك القبيح؟ بأي لسان تجيب يوم يسألك عن عمرك فيما أفنيته، وشبابك فيما أبليته، ومالك يا من جعلت الربا والفوائد عنوانًا له؟ مالك من أين اكتسبته وفيمَ أنفقته؟ وعن علمك ماذا عملت فيه؟ بأي قدمٍ تقف غدًا بين يديه، بأي عين تنظر إليه، بأي قلب تجيب عليه، ما تقول له إذا قال لك: يا عبدي، ما أجللتني، أما استحييت مني، أما راقبتني، استخففت نظري إليك، ألم أحسن إليك، ألم أنعم عليك، عندها تكاد تسقط فروة وجهك حياءً من الله، فكيف بك إن شقيت، ثم ينصب للناس طريقًا إلى الصراط.
فيبدأ الناس يتجاوزون الصراط، ويُعطى كل منهم نورًا على قدر إعماله، فمنهم من يعبره كالريح المرسلة، ومنهم كالجراد، ومنهم من يركض ركضًا، ومنهم من يهرول هرولة، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحذو حَذوًا، ومنهم من يكب على وجهه في جهنم، ومكدس على وجهه في النار.
فكيف سيكون الحال إذا وُضِعت القدم على الصراط وأحسَست بالحرارة ورأيت الناس يتساقطون، فكيف سيكون حالي وحالك؟ ثم يقسم الناس قسمين؛ إما إلى جنة، وإما إلى نار: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر: 71].
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)[الزمر: 73].
فيا عبدالله: إنه يوم عظيم، ومن وجَد فيه خيرًا، فليحمَد الله، ومن وجد دون ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه.
فإذا استوى أهل النار في النار، واستوى أهل النعيم والجنة بالجنة، جيء بالموت على صورة كبش أقرن أملح، ثم ينادى: يا أهل النار، يا أهل النار، تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، نعرفه، هذا الموت، ثم ينادى: يا أهل الجنة، أتعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، نعرفه، هذا الموت.
ثم يؤمر به، فيُذبح ثم ينادى بأهل الجنة: خلودٌ، خلود، وينادى بأهل النار: خلودٌ، خلود.
تخيَّل مدى السعادة والنعيم في قلوب أولئك، ومدى الحسرة والشقاء في قلوب أولئك، أولئك تناديهم ملائكة الرحمن، وأولئك تناديهم الشياطين والعياذ بالله؛ فاتقوا الله عباد الله، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
جعلني الله وإياكم ممن قال الله فيهم: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
اللهم اجعلنا يوم الفزع من الآمنين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأظللنا في ظل عرشك يا كريم.
اللهم اجعل حسابنا يسيرًا، اللهم اجعل حسابنا يسيرًا، اللهم اجعل حسابنا يسيرًا يا رب العالمين.
فصلوا وسلموا على شفيعكم، ومَن كان بكم رؤوفًا رحيمًا، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر الكفرة والطغاة والملحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أمتنا وولاة أمورنا.
اللهم ارحمنا؛ فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا؛ فإنك على ذلك قادر، الطُف بنا فيما جرت به المقادير، يا أرحم الراحمين.
اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، اللهم ذكِّرنا النطق بالشهادة إذا يبس منا اللسان، وارتخت اليدان، وبردت القدمان، والتصقت الساقان.
اللهم اجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم فاطر السموات والأرض ذا الجلال والإكرام، إنا نعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنَّا نشهدك، وكفى بك شهيدًا، إنك أنت الله، لا اله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأن وعدك حق، والجنة حق، والنار حق، وأنك تبعث مَن في القبور، وأنك إن تكِلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضَعفٍ وعوره، وذنب وخطايا، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسن ختامنا، وأن لا تميتنا إلا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم ارحمنا إذا أوحشنا المكان، وفارقنا الأهل والإخوان، وجاورتنا الديدان، اللهم أدركنا هناك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحمنا تحت الأرض، واسترنا فوق الأرض، ولا تفضحنا يوم العرض، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ إنك غفور سميع الدعوات.
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 286].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم