عناصر الخطبة
1/ تلبية الأنبياء 2/ معنى التلبية 3/ لماذا التلبية لله لا شريك له 4/ فضل الأيام العشراقتباس
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ”. هكذا كانت تلبِيةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجّ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمدُ لله الذي لبَّى له الموحِّدون، وخضعَ لعظمتهِ المخبِتون، واستجَاب لشَرعهِ المؤمنون، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فاتقوا اللهَ عباد الله حقّ التّقوى، وراقِبوه في السِّرّ والنّجوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
إخوةَ الإسلام: “لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ”. هكذا كانت تلبِيةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجّ. رواه البخاري ومسلم.
“لبّيك اللهم لبّيك”: تلبيةٌ لـهِجَ بها كلُّ من سمع نداءَ الخليلِ عليه السلام حين أذَّنَ في الناس بالحجّ، ممن آمنَ بالله وكتبَ اللهُ له الحج.
يقولُ عبدُ الله بن عبّاس -رضي الله عنهما-: “لما فرَغَ إبراهيمُ عَلَيه السَّلامُ مِن بناءِ البَيتِ قال: رَبِّ قَد فرَغتُ. فقالَ: أذِّنْ في النّاسِ بالحَجِّ. قال: رَبِّ، وما يَبلُغُ صَوتِي؟ قال: أذِّنْ وعَلَيَّ البَلاغ. قال: رَبِّ كَيفَ أقولُ؟ قال: قل: يا أيُّها النّاسُ، كُتِبَ عَلَيكُمُ الحَجُّ؛ حَجُّ البَيتِ العَتيقِ، فسَمِعَه مَن بَينَ السَّماءِ والأرضِ”(رواه ابن أبي شيبة)، وأَسْمعَ مَن فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء، فَأجَاب من آمن مِمَّن سبق فِي علم الله أَن يحجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: لبَّيْك اللَّهُمَّ لبَّيْك. (رواه الطبري).
لبَّيك اللهم لبَّيك، بها لبَّى الأنبياء.
لقد مرّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على وَادِي الْأَزْرَقِ، فقَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ”، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا”(رواه مسلم).
إنَّ التلبيةَ مِن شعار الحج، ولقد نزل جبريلُ عليه السلام يوصي برفع الصَّوت بالتلبية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ”(رواه ابن ماجه).
عبادَ الله: لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ ألفاظٌ وَجيزة، تحملُ في طَيَّاتها معانيَ عزيزة، حين يقولها العبدُ صادقًا بها قلبه، فمعناها أنه يقول: أجبتُ أمرَكَ يا الله عندما دعوتني إلى الحج، وأنا أبدًا مُقيمٌ على استجابة أمرِك كلِّه، أجبتُك وأطعتُك يا ربِّي مُخلِصًا مُحِبًّا، لا أتحوَّل عن ذلك أبدًا، فأنا أُجيبك إجابة بعد إجابة، في أمرٍ بعد أمر.
إنّه الإعلانُ الذي سطَّره القرآنُ عن حياة المؤمنين: "سمِعنا وأطعنا"، قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 51-52].
لبَّيك اللهم لبَّيك: أطعناكَ وحدَكَ لا شريكَ لك، وعبدناكَ وحدَكَ، لا أندادَ ولا شُركاء، لا أوثانَ ولا أهواء.
عَبدَ الله: يعلِنُ العبدُ ذاك الشعار “لبَّيك اللهم لبَّيك” لله وحدَه لا شريك له، فهل تأمَّلت يومًا في سبب ذلك؟
إنَّ التلبيةَ لله وحدَه لا شريك له، لأنَّ له الملكَ، وله الحمدُ سبحانه وبحمده، وهو وحدَه الذي أنعمَ على عبادهِ وأسبغَ عليهم نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنة.
لقد كان المشركون يُلَبُّون وهم يطوفون بالبيت قائلين:" لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ”(رواه مسلم).
ألَا ما أسفَهَ عُقُولَهم، كيفَ يسوُّون الملِك الذي يملك كلّ شيء، بالمملوكِ الذي لا يملِكَ أيّ شَيء؟!
اللهُ هو الإلهُ الحق، له الكمالُ والجلال، وهو وحدَه المستحقُّ للمحامدِ كلِّها، وهو وحدَهُ من له الفضلُ والإحسان، ولذا هو وحدَه الذي له الطاعةُ المطلقة، طاعةٌ بكمالِ الحبِّ ومنتهى الذُّلِّ والخضوع، طاعةٌ ليس فيها انتقاءٌ ولا تحوُّل ولا تلوُّن، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كانَ مِن تَلبِيَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ”(رواه النسائي).
إنَّ التلبيةَ لله وحدَه؛ لأنَّ الخيرَ كلَّه بيدَيْه، والشرَّ ليس إليه.
إنَّ التلبيةَ إعلانُ العبوديةِ لربِّ العالمين، وهُوَ ما كان يقولُه النبي -صلى الله عليه وسلم- كلَّ يوم مستفتِحًا به صلاته، قائلًا: “لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ”(رواه مسلم).
لبَّيك ربّي؛ لأنَّ الخيرَ كلَّه بيدَيك، والشرَّ ليس إليك.
إنَّ اللهَ يدعو عبادَه لما فيه خيرُهم وحياتُهم، لما فيه صلاحُ دُنياهم وآخِرتِهم، ألم يقلِ اللهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]؟
أبشِرُوا أيها المستجيبون لله بقلوبكم وجَوارِحكم وأعمالِكم بالحسنى في الدنيا والآخرة، قال ربّنا سبحانه: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) [الرعد: 18].
إنَّ العبدَ المستجيبَ لله حقًّا، هو العبدُ الذي عرَفَ ربَّه وأيقن بوعده، فوجَّه وجهَهُ لله، وأقبلَ على كتابه، يتدبَّرُه ويعملُ به.
إنّه العبدُ الذي جعلَ رسولَ الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قُدوته في شأنه، فإذا أمرَهُ امتثل، وإذا نهاه انتهى، وإذا أخبره صدَّق، يتَّخذ سُنَّته نبراسًا يستضيء به، ومنهاجًا يسير عليه.
هو العبد الذي رضي بالإسلام دينًا، فلم يبغِ به بدًلا، ولا عنه حِوَلًا، بل اعتزَّ به على سائر الأديان، واستعلى به على زُبالات الأذهان.
هو العبد الذي لم تَخْلِب بصرَه فتنةُ الدنيا، ولا غرَّته شَهَواتُها وأهواؤها، لأنَّ الاستجابةَ لأمر الله ملكت عليه قلبَه، فصغَّرت عنده كلَّ حقير.
هذه الاستجابة الحقّة، هي لُبّ (لبّيك)، وهي التي تقود أهلها إلى جنّة الله، حيث تظلُّ التّلبيةُ في قلوبِ المؤمنينَ وعلى ألسنتهم حتى بعد دخولها، وعندها يحِلُّ عليهم رضوانُ الله فلا يسخَطُ عليهم بعدَه أبدًا، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى؟ يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا”(رواه البخاري ومسلم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عبادَ الله: لقد جاءتْ خيرُ أيام الدنيا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”(رواه الترمذي).
فكلُّ عملٍ صالحٍ في هذه الأيامِ أفضلُ وأحبُّ وأعظمُ ثوابًا وأجرًا عندَ الله من أيِّ عملٍ صالحٍ في غير أيام العشر، إلا أفضلُ الجهاد، وهو الذي خرج مجاهدًا في سبيل الله بنفسِه ومالِه، فأنفقَ مالَه في سبيل الله ورزقه اللهُ الشهادة.
ومِن أعظمِ الأعمال في هذه العشرِ -بعدَ المحافظة على الفرائض، والكفِّ عن المحارمِ، والتوبةِ إلى الله عن المعاصي، وردِّ المظالم- هو ما وصَّى به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهو الإكثارُ من قول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله"، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ”(رواه أحمد).
وكذلك يُستحبُّ صيامُها، فلقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في طاعة ربِّه في هذه العَشر، ولا يتركُ صيامَها. تقول بعضُ أزواجِ النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ”(رواه أبو داود).
وأعظم الصيام فيها صومُ يوم عرفة، فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ”(رواه مسلم).
فأكثروا يا عبادَ اللهِ مِنَ العمل الصالح، فهذه رحَماتٌ من ربِّ العالمين، لمن أراد القُرْبَ والدَّرجاتِ العُلا في جِنان الخُلد.
اللهم أعِنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.
اللهم انصُرْ عبادَك المستضعفين، ودمِّرِ اليهودَ المجرمين.
اللّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمّتَنا وُولاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبعَ رِضاك.
عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم