عناصر الخطبة
1/قصة هاجر وابنها إسماعيل 2/مشهد الحجيج 3/وقفات حول قوله: \"لتأخذوا عني مناسككم\" 4/من دروس الحج ومعانيه 5/فضل عشر ذي الحجة 6/بعض الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجةاقتباس
فإن الناظر إلى أرض الحرمين في موسم الحج، يرى عجباً، ويزداد لوعة وشوقاً، وهو يتأمل موكب الإيمان، وقوافل عباد الرحمن، جاءوا رغبة وطواعية، ألسنتهم تلهج داعية، أعينهم باكية، تسأل الله الرحمة والعافية، هديرهم تكبير، حديثهم تسبيح، نداؤهم تلبية، دعائهم تهليل، مشيهم عبادة، زحفهم صلاة، سفرهم إلى الله الدار الآخرة، وغايتهم رضوان الله ومغفرته، تركوا الديار والبلاد، والأهل والأولاد، واجتازوا الصعب والمعاد، ترى مظهراً من مظاهر....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر خليله ببناية البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره، على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مبرأة من الشرك والكذب والجهل، وتطرق الأوهام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، وهداة الأنام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
عباد الله: جاء إبراهيم -عليه السلام- بهاجر وابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعهما بمكة في تلك البقعة المقفرة، والأرض الموحشة، وبين الجبال المصمتة بواد غير ذي زرع، ثم مضى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي لا أنيس ولا شيء؟ فقالت له مراراً وجعل إليه، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا الله".
بكل صدق وتوكل على الله.
"إذ لا يضيعنا الله" (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64].
اذهب واترك المرأة ورضيعتها، فربها لن يرضعها، فالحفظ ليس بكثيرة الأولاد، بل في صدق التوكل والاعتماد، وسؤال الله التوفيق والسداد، وما أعظمه لو تحقق في قلوبنا وقلوب العباد، ثم رجعت فانطلق إبراهيم -عليه السلام- ثم دعا: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها، وتشرب من ماء كان معها، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعل الرضيع يتلوى يطلب الماء ليتروي، فقامت على الصفا، ثم أتت المروة سبع مرات، إلى أن سمعت صوتاً، فقالت: صه، ثم تسمعت، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث جبريل بعقبه، حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه بيدها وتحبسه، فقال جبريل: عيه، فإنها رواء، أي: كثير مرو.
ورحم الله أم اسماعيل كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا" [رواه البخاري].
وفي رواية: "لو تركته كان الماء ظاهراً" [رواه البخاري].
وفي هذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ماء زمزم لما شرب له" [رواه ابن ماجة وأحمد].
وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً: "فإن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته مستعيذا أعاذك الله، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله".
ثم قال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله".
عباد الله: ويستجيب الله دعا ء الخليل: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37].
فإن الناظر إلى أرض الحرمين في موسم الحج، يرى عجباً، ويزداد لوعة وشوقاً، وهو يتأمل موكب الإيمان، وقوافل عباد الرحمن، جاءوا رغبة وطواعية، ألسنتهم تلهج داعية، أعينهم باكية، تسأل الله الرحمة والعافية، هديرهم تكبير، حديثهم تسبيح، نداؤهم تلبية، دعائهم تهليل، مشيهم عبادة، زحفهم صلاة، سفرهم إلى الله الدار الآخرة، وغايتهم رضوان الله ومغفرته، تركوا الديار والبلاد، والأهل والأولاد، واجتازوا الصعب والمعاد، ترى مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة لله رب العالمين.
تم السنون تتوالى القرون، ووفود الله يتزايدون في لقاء في لقاء إيماني، واجتماع سنوي، يقدمون من أماكن بعيدة، وبلدان سحيقة، ومن كل فج عميق، إلى واد غير ذي زرع، ليس فيه ما يستوي النفوس، كل ذلك استجابة لله، قائلين: "لبيك اللهم لبيك".
والعبودية لله من أعظم ما يحصله العبد من المنافع والفوائد، وكفى بهذا شرفاً وفضلا.
حجاج بيت الله: حج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كل فج، لتنال شرف الصحبة، والحج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي حث على العج والثج.
وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة، نزل قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة: 3].
وعندما سمعها عمر -رضي الله عنه- بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".
وكأنه استشعر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسميت حجة الوداع، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا نتحدث بحجة الوداع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع".
وكان يقول: "إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا" [رواه الدارمي].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل موطن: "لتأخذوا مناسككم" [رواه مسلم].
"لتأخذوا مناسككم" وصية لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[الأنبياء: 7].
"لتأخذوا مناسككم" وصية لكل من شرفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتقوا الله فيهم، ويسلكوا بهم هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إحراماً وتفويجاً، إفاضة ومبيتاً، طوافاً وسعياً، نصحاً وإرشاداً، بيعاً وشراءً.
أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.
"لتأخذوا مناسككم" وصية لكل حاج ليعلم أن الحج نسك وعبادة، وموسم خير وطاعة، فعرفة ومنى، ومزدلفة وأم القرى، يترفع فيها الحاج، وكذا في كل مكان وزمان، يترفع عن المنازعات والشعارات، أو الدعوى بدعوى الجاهلية، وإثارة النعرات، ويحذر التهم الباطلة، وترويج الإشاعات، فهذه أرض المشاعر، وحري بالمسلم أن يحقق فيها أطيب الأخلاق والمشاعر.
إخوة الإسلام: إن المتأمل في أعمال الحج، يستلهم دروساً خالدة، ومعاني سامقة؛ منها:
تعود المسلم على الاستسلام لله، والاستجابة والخضوع له والطاعة، فهاجر تقول لخليل الله -عليه السلام-: "آلله أمرك بهذا؟" قال:" نعم" فأعلنت استسلامها، وأذعنت لأمر بها، وخضعت لخالقها، قائلة: "إذاً لا يضيعنا الله" "وأكرم بها من طاعة في أرض مقفرة، لا أنيس ولا ماء، ولا طعام ولا أخلاء".
ويأمر الله إبراهيم -عليه السلام- بذبح ابنه، حين بلغ السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ولو أمر غيره بالذبح لكان أهون، فكيف إذا كان الذابح للولد أباه؟
ويعرض الخليل الأمر على ابنه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات : 102].
ويعلن الجميع استجابتهما، وانقيادهما، وخضوعهما.
وبهذه المواقف يلقي إبراهيم وزوجه وابنه درسا للأجيال، خالداً على مر العصور، قائما نتعلم فيه كيف يكون الاستسلام لله والطاعة، والخضوع والاستجابة.
وتأتي أعمال الحج لتركز هذا المفهوم، وتعمق هذا المدلول، فهناك يقف الحاج في عرفة، ولو تأخر عنها، أو تقدم بطل حجه، ويطوف حول الكعبة، وهي أحجار مغطاة بستار، ويقبل الحجر الأسود الذي لا يضر ولا ينفع، يؤدي ذلك ليتربى على الاستسلام والاستجابة، ويتعود على الخضوع والطاعة، قائلاً في كل نسك، وفي كل أمر ونهي: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
حتى إذا عاد إلى بلده وبيته، في عمله وتعامله، وسمع الأوامر الإلهية، والزواجر الشرعية، قال: "لبيك اللهم لبيك".
يعلنها في سائر شؤون حياته، كما كان يصدح بها على صعيد عرفات، إذ كيف يستجيب لله في تقبيل حجر، ولا يستجيب فيما يجلب الخير، ويدفع الضرر.
إذا سمع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)[البقرة: 104] أرخى لها سمعه، واستحضر قلبه، مستسلماً لله، خاضعا ومنقاداً لأمر الله، فهو إما خير يؤمر به، أو شر ينهى عنه.
إذا سمع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)[المائدة: 90].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[النساء: 29].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ)[الحجرات: 12].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1].
(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
(وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)[الحجرات: 12].
وهكذا كلما سمع أمراً ربانيا، أو توجيها نبوياً، قال دون تلكؤ وتردد: "لبيك اللهم لبيك" قال دون أن يعرض الأمر على العادات والتقاليد، أو يستجيب لأهواء العبيد: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة: 285].
فلا مناص -عباد الله حجاج بيت الله- من أن تطيعوا، لا أن تعرضوا أوامر الله للتضييع والتمييع، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ)[الشورى: 47].
أمة الإسلام: ومن معاني الحج العظيمة: وحدة المسلمين، واجتماع كلمتهم، يجتمعون في مكان واحد، وفي زمن واحد، على تباعد ديارهم، وتباين ألوانهم، واختلاف ألسنتهم، تجردوا من ثياب الزينة، وطهروا قلوبهم من الضغينة.
هاهم على صعيد عرفات: الأسود والأبيض، الأحمر والأصفر، جميعا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وبيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، فأي وحدة أعمق من هذه، كلهم في مظهر واحد.
فما أعظم وأحوج المسلمين أن يحققوا وحدة المظهر والمخبر، والظاهر والباطن.
حتى لا يتلصص بين الصفوف عدو مشاحن، وذو ضغن مواحن، حتى لا تنفتح الأسماع لأضم حسود، ووغم حقود، حتى تتطهر النفوس، ويصبح صف المسلمين كالبنيان المرصوص، ومهما علت النداءات، وتكررت الخطابات، لتحقيق الوحدة الإسلامية، فلن تتم دون أن نحقق مقوماتها، ونوجد أركانها، ومنها: تصحيح المنهج والمسار، والسير على هدي سيد الأبرار، وحب الصالحين الأخيار.
هذا واقع المسلمين لما تفرقوا، تأمل أحوالهم وقد تبدد شملهم، تفرق جمعهم، تباين أمرهم، اختلفت آراؤهم، تنافرت قلوبهم، تمزقت ألفتهم، خمدت نارهم، وركدت ريحهم، بل أصبحوا غثاءً كغثاء السيل؛ كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
وافظع من هذا وأعظم أن ترى الدماء الجارية من أجساد المسلمين الطاهرة بأيد مسلمة.
ونتساءل بكل حيرة وعجب، أيقتل المسلم أخاه المسلم بلا سبب؟ هذا الذي كان يمتنع حال إحرامه عن قتل الصيد في الحرم، بل عن تنفيره وإثارته، وهناك تراه يسعى لقتل أخيه وإبادته، دون وازع من دينه وإيمانه وعبادته.
قلب بصرك أنى شئت تر العجب العجاب، ولن ينفع العويل ولا الصراخ والعتاب.
ولقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرمة المسلم للأمة حذراً من نوازل مدلهمة، وذلك في خطبة في حجة الوادع العظيمة، فقال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" [رواه البخاري].
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" [أخرجه الترمذي].
لا يتسع المقام لاستقصاء الدروس، ففي كل نسك من هذا الركن العظيم مغزى، وعلى كل بقعة معنى، ولعل ما ذكر تتم به السلوى، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا تنفعه الطاعة، ولا يضره العصيان، أحمده سبحانه وأشكره على جميع الفضل وعظم الامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن: 29] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخذ بحجز العباد عن النيران، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عباد الله: ما زلتم ترفلون في موسم من مواسم الخير العظيمة، والأيام الفاضلة، هي للطائفين مغنم، وللصالحين ميدان للتنافس ومتجر.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه، وماله فلم يرجع بشيء" [أخرجه البخاري].
وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
فالسعيد من اغتنم مواسم الأيام والشهور، والساعات والدهور، وتقرب فيها إلى مولاه بالطاعات، فعسى أن يصيبه شيء من تلك النفحات، يسعد به سعادة يأمن بعدها من اللفحات.
والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتي ذلك في غيره.
ويسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز أن يذكر فيه اسم الله، يجهر به الرجال وتخفيه المرأة، إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله -تعالى-، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الحـج: 27].
والتكبير في أول العشر صار من السنن المهجورة، فقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما- كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
والمراد أن الناس يتذكرون التكبير، فيكبر كل واحد بمفرده.
والتكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقيب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق، وفي كل زمان.
إن يوم عرفة يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، ويوم عيد أهل الموقف، حيث لا ترى فيه إلا عابداً يتبتل، أو مؤمنا يخشع، ومصليا يركع، وتائبا ذا عين تدمع، تغسل فيه الآثام، وتمسح الخطايا، وتمحى السيئات.
وخص من بين أيام العشر بمزيد فضل، فرتب الشارع على صيامه لغير الحاج فضلا عظيما، وأجراً جزيلاً، فقد ورد عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم عرفة، فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" [أخرجه مسلم].
فاغتنموا مواسم الخيرات، وانهلوا من معين القربات لتنالوا رحمة رب الأرض والسموات.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، ومعلم البشرية الخير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم