اقتباس
وحتى لا ينصرف القلب في الصلاة إلى غير الله، والحرص على حضوره وروحانيته والمحافظة على خشوعه وطمأنينته؛ وضح الشارع الكريم الصلاة بكل تفاصيلها ولم يترك فيها شيئاً للاجتهاد؛ حتى منع كثيرا من المباحات والمشروعات؛ بغية الحفاظ على روح الصلاة وصيانة...
الحمدلله حمد الكمال والتمام الصلاة والسلام على سيد الأنام خير من صلى قام وعلى آله وصحابته الأعلام والتابعين بإحسان، وبعد:
أيها الكرام: لم يزل الله -تعالى- يرغب في الصلاة ويحث عليها، ويذكر لها من الصفات والمزايا ويرتب عليها من المكرمات والعطايا ما يسوق عباده إليها سوقا، وفي المقابل كم من التنبيهات وجهها ومن الوعود رتبها تحذيرا منه على تركها أو التكاسل والتخلف عنها! ولم يقتصر الأمر على المنشغلين عنها؛ بل حتى من هم في الصف يؤدونها لكنهم منشغلون بغيرها عنها.
وإنه لا غرابة -أيها الفضلاء- أن تحرص الشريعة في نصوصها حثا وترغيبا فضلا وثوابا قصصا وأمثالا تنبيها وتحذيرا جزاء وعاقبة عن شعيرة كالصلاة، وتوليها ضمن تشريعاتها عناية بالغة وأهمية كبيرة؛ ذلك أن الصلاة صلة الأرض بالسماء وعلاقة المخلوق بالخالق. فالصلاة مناجاة وطمأنينة سكنية ورهبانية، إقبال إلى الله وانقطاع إليه، قيام لله وقنوت معه، تبتل إلى الله واختلاء به، حديث مع الله وأنس به، قرب من الله واتصال معه.
ومن هنا كان انشغال المصلي عن صلاته انشغالاً عن الله وإساءة له؛ لأنه التفات عن الخالق إلى المخلوق وعن الحقيقة إلى الخيال؛ فالمصلي في حقيقته وهيئته يناجي ربه ويحادث إلهه، وهو بهذا المقام مع الحضرة الإلهية والمقام الشريف والحال الكريم؛ فمن أقبل إلى الصلاة بجوارحه دون قلبه فليس معظما لله -تعالى- ولا ممجدا له، ولم يحترم فيها مكانا ولم يراع حالا ولا زمانا.
وعلى هذا كان الإسلام حريصا في حث المصلي أن يفرغ ذهنه ويخلي فكره ويسلم روحه وجوارحه في الصلاة إلى الله -تعالى- ومعه؛ فكما لا ينبغي له أن يشغل جوارحه بشيء مما ليس من أعمال الصلاة فكذلك لا ينبغي له أن يشغل فكره وقلبه بشيء مما ليس من الصلاة؛ إذا لا ينبغي للمصلي أن يترك الدنيا وما فيها بجسده تلبية لنداء الله (حي على الصلاة) ثم هو يحملها إلى المسجد بقلبه ثم يجول فيها بفكره ويلتهي عنها بجوارحه؛ يسرح فيها ويمرح ويجول ويصول يقضي ويفي. وكم من قصص كثيرة ومحزنة في ذلك مما سمعنا وقرأنا وعشنا!!.
والمتأمل في مقدمات الصلاة القولية والعملية يدرك أن جميعها تصب في هذا المعنى وتعالج هذا الأمر؛ فمثلاً الأذان (الله أكبر) إشعار بتعظيم الله لتلبية داعيه وترك ما سواه، والوضوء طهارة من أدناس الدنيا حسا ومعنويا، وصلاة النافلة والانتظار قبل الفريضة تهيئة للدخول فيها، والإقامة دعوة للمتنفلين والتالين والذاكرين بالقيام للفريضة لأوليتها على غيرها، وافتتاح الصلاة بالتكبير (الله أكبر) رسالة للمصلي نفسه ومن حوله أن كل شيء سوى الله صغير وأن الصلاة لقاء مع الله الكبير، ودعاء الاستفتاح (وجهت وجهي) تنبيه إلى الاقبال على الله والتوجه إليه.
وحتى لا ينصرف القلب في الصلاة إلى غير الله، والحرص على حضوره وروحانيته والمحافظة على خشوعه وطمأنينته؛ وضح الشارع الكريم الصلاة بكل تفاصيلها ولم يترك فيها شيئاً للاجتهاد؛ حتى منع كثيرا من المباحات والمشروعات؛ بغية الحفاظ على روح الصلاة وصيانة لقيمتها وسداً لذريعة الانشغال عنها؛ مما قد يفضي إلى فسادها أو نقصان أجرها، ومن ذلك:
زخرفة المساجد: فالمشروع في المساجد بناؤها وطهارتها وتهيئتها للمصلين والذاكرين، وليس من المشروع إهدار المال في زخرفتها؛ ففي زخرفتها صرف لمرتادي المساجد عن المقصود الشرعي والتعبدي من الصلاة والذكر، جاء من حديث بن عباس -رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: "ما أمَرْتُ بتشييدِ المساجدِ. قال ابنُ عباسٍ لَتُزَخْرِفُنَّها كما زخرَفَتِ اليهودُ والنصارى"(الألباني صحيح أبي داود (٤٤٨).
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "إذا زَوّقْتُم مساجدكُم، وحَلّيتُم مصاحفكُم، فالدّمارُ عليكُم"(الألباني السلسلة الصحيحة (١٣٥١).
وقال عمرُ: "أَكنَّ النَّاسَ منَ المطرِ وإيَّاكَ أن تحمِّرَ أو تصفِّرَ فتفتنَ النَّاسَ"(الألباني، والبخاري معلقا مجزوما به).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قال -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ أشراطِ الساعةِ أنْ يَتَباهَى الناسُ في المساجدِ"(الألباني (١٤٢٠ هـ)، صحيح الجامع).
لبس الثياب المعصفر: ألزم الشارع الحكيم المصلي بستر عورته وحثه على أخذ زينته؛ لأنه هنا في بيت الله يناجي ربه بخشوع ويقرأ آياته بتدبر، ونهاه عن صوارف ذلك وكل ما يشغل المصلي عن صلاته كالثياب المعصفرة والملونة وغيرها؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اذهبوا بخميصَتِي هذه إلى أبي جَهمٍ فإنها أَلْهَتْنِي آنفًا في صلاتي وأْتُوني بأنبجانيَّتِه"(البخاري (٣٧٣)، ومسلم (٥٥٦).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "أمِيطِي عنَّا قِرامَكِ هذا؛ فإنَّهُ لا تَزالُ تَصاوِيرُهُ تُعرَضُ لِي في صلاتِي"(الألباني صحيح الجامع (١٤٠٥).
كثرة الحركة: ولسنا هنا في طور الحديث عن الحركة الواجبة أو المستحبة التي من شأنها صلاح الصلاة وسلامتها؛ سواء أكانت من واجباتها أو من مكملاتها مما هو داخل في قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب).
بل نقصد بالحركة التي ليست من الصلاة ولا مما يصلحها كالحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة؛ والتي يكون ضريبتها فساد الصلاة أو الإخلال بها، وما يفسد الصلاة أو يخل بها لا يجوز فعله؛ لأنه من باب اتخاذ آيات الله هزواً، قال الله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) [المائدة: 58].
والحركة اليسيرة هي ما دون الحركة الكبيرة، وإن كانت لا تبطل الصلاة لكنها تقدح في قيمتها وتؤثر في فضلها وثوابها.
جاء في فتوى للإمام العلامة ابن باز -رحمه الله- يقول: " فينبغي للمؤمن أن يتحرى الخشوع ويحرص على ذلك في صلاته حتى يكملها عملا بقوله -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، وعملا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اسكنوا في الصلاة"(جابر بن سمرة - مسلم (٤٣٠))، لما رأى ناسا يشيرون بأيديهم في الصلاة قال: "اسكنوا في الصلاة"، وأمرهم بالسكون وهو ترك العبث. أهـ
وروح الصلاة هو القنوت فيها والانقطاع بالخالق عن الخالق قال الله -تعالى-: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وما ذكر من الحركات يتعارض مع هذا المعنى.
لواصق المسجد من أذكار وغيره: وإن كان الغرض منها الخير والتعلم والفائدة إلا أن هذا المقصد لا يبرره وسيلة مثل هذه؛ فيمكن جعل اللواصق واللوحات وغيرها في مؤخرة المسجد ولا توضع في مقدمته؛ لأن في ذلك إشغال للمصلي وصرفه عن أعمال الصلاة القولية والعملية.
وقد سئل عن هذا الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين -حفظه الله- ما رأي فضيلتكم في كتابة الآيات القرآنية على جدران المسجد (في داخل المسجد)؟.
فأجاب: لا يجوز ذلك إذا كانت الكتابة في قبلة المسجد، وكثرت الكتابات، فإنها تشغل المصلين، وتسبب لهم الوسوسة في الصلاة، وتتحدث نفس المصلي بتلك الكتابات التي تتمثل أمامه، فلا يحصل الإقبال على الصلاة، وحضور القلب التام فيها، فإن الإقبال: هو لب الصلاة، وقد ثبت أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال لعائشة لما سترت فرجة في البيت بستر فيه تماثيل: قال "أميطي عني هذا القرام، فإن تماثيله تعرض لي في صلاتي، كلما نظرت إليها ذكرت الدنيا"، وهكذا صلى مرة وعليه خميصة لها أعلام، فلما انتهى، قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي "، وكل ذلك يدل على حرصه -صلى الله وعليه وسلم- على الإقبال على الصلاة، والطمأنينة فيها. أهـ
الصلاة بحضرة طعام: فقد نهي المسلم عن الصلاة إذا كان يريد الطعام أو يصلي بحضرته ونفسه تشتهيه؛ لأن نفسه التواقة للطعام ستشغل فكره وقلبه وبصره عن صلاته؛ ودليل النهي ما ورد من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بحَضْرَةِ طعامٍ، ولا وهو يُدافِعُه الأَخْبَثانِ"(الألباني صحيح الجامع (٧٥٠٩).
الصلاة وهو يدافع الأخبثين: فلا ينبغي للمسلم أن يدخل الصلاة وهو يجد في نفسه الحاجة لقضاء الحاجة؛ لأن مدافعته لذلك يذهب عليه سكونه وخشوعه في صلاته؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بحَضْرَةِ طعامٍ، ولا وهو يُدافِعُه الأَخْبَثانِ"(الألباني صحيح الجامع (٧٥٠٩)؛ إضافة إلى المضاعفات الصحية الناتجة عن بسه ذلك.
الصلاة وعليه نعاس: فالنوم مظنة تجاوزات كثيرة واحتمال فرضيات عديدة منها: انتقاض وضوئه، وخفقان رأسه والذي قدي يؤدي به لانحرافه عن القبلة، خشية ألا يقيم أركان الصلاة؛ ركوعها وسجودها وغيرها بطمأنينة أو لا يؤدي بعض أركانها بالكلية، فقدان الطمأنينة والخشوع فيها، احتمالية سب الله بدل أن يمجده ويعظمه؛ كل ذلك قد يكون منه دون أن يشعر؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نَعِسَ أحدُكم في صلاتِه فلْينصرِفْ، ولْيرقدْ"(الألباني صحيح النسائي (٤٤٢).
وفي حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قال عليه الصلاة والسلام: "إذا نعسَ أحدُكم وهو يصلِّي فلْيرقدْ حتى يذهبَ عنه النومُ لأن أحدَكم إذا صلَّى وهو ناعسٌ لا يدري لعلَّهُ يستغفرُ فيسبُّ نفسَهُ وفي بعضِ ألفاظهِ لعلَّهُ يدعو على نفسِهِ وهو لا يدري"(البخاري (212)، ومسلم (786).
الالتفات: سواء كان الالتفات بالجسد أو كان بالبصر أو بكليها؛ ففي الأول خالف شرطها والثاني خالف واجبها، وفي كلا المخالفتين انشغال عن الصلاة ومفسد لخشوعها وسبب في تفويت بعض أفعالها وأقوالها؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت سألتُ رسولَ اللَّهِ -ﷺ- عنِ التفاتِ الرَّجلِ في الصَّلاةِ فقالَ: "إنَّما هوَ اختلاسٌ يختلسُهُ الشَّيطانُ من صلاةِ العبدِ"(الألباني صحيح أبي داود (٩١٠).
وعليه ينبغي للمصلي أن يمم جسده شطر المسجد الحرام وبصره موضع سجوده وحال التشهد ينظر لسبابته.
هيشات الأسواق: المساجد أطهر البقاع وأقدسها وأشرفها والمصلي في صلاته اجتمع له فيها شرف المكان والزمان والحال؛ لذا نهي الإسلام أن تصبح المساجد كالأسواق في الهيشات؛ فالمساجد جعلت لذكر الله وقراءة القرآن والصلاة والعلم؛ والأسواق أعدت للتجارة والتكسب وغيرها؛ لذا ورد النهي كما في حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "وإيَّاكم وَهَيشاتِ الأسواقِ"(مسلم (٤٣٢)؛ فذلك يتعارض مع شرف المساجد ومكانتها؛ وكل ذلك يفضي إلى ذهاب روح الصلاة، ولا يتأتى معه قنوت القلب وصفاء الفكر وسكون الجوارح.
الصلاة بجوار من يتحدِّث، أو عند نائم: فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى أن يجهر قارئ القرآن عند من يصلي لأنه يشغل المصلي؛ فكيف لو كان الحديث في غير القرآن! كما نهى عن الصلاة عند نائم فقد يتأذى المصلي بشخيره فيتسبب بذهاب خشوعه أو يؤثر على نشاطه ويجلب له النوم؛ عن أبي هريرة "نُهيتُ أن أُصلِّيَ خلفَ المُتحدِّثينَ والنِّيامِ"(الألباني إرواء الغليل ٢/٩٦ حسن).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- "يا أيها الناسُ كلُّكم يُناجي ربّه فلا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ بالقراءةِ فتُؤذُوا المؤمنين"(الألباني الصحيحة (7/455).
مس الحصى أو تسوية التراب أثناء الصلاة بلا عذر: لأنه من العبث المنهي عنه ما لم يكن لضرورة؛ كون ذلك يخرج المصلي عن هيئة الصلاة ويشغله عنها، وقد رد في حديث معيقيب قال: "ذَكَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَسْحَ في المَسْجِدِ -يَعْنِي الحَصَى- قَالَ: "إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً"(رواه البخاري ومسلم).
فرقعة الأصابع أو تشبيكها أثناء الصلاة ؛ التشبيك والفرقعة عبث في الصلاة وتلاعب بها، كما أنها تسبب في التشويش على المصلين؛ فعن شعبة مولى ابن عباس قال: "صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَقَعْتُ أَصَابِعِي، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاةَ قَالَ: لا أُمَّ لَكَ! تَفْقَعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلاةِ؟"(ابن أبي شيبة بإسناد حسن).
ومن هنا يتضح -أيها الكرام- كون الصلاة صلة بين العبد فهذا يعني حضور المخلوق بين يدي خالقه وحديثه إليه؛ مما يفرض على المصلي أن يكون خاشع القلب ذليل الفؤاد خافض الطرف منكسر الجناح مستكين الجوار؛ واستحضار هذه المعاني يعني انشغال المصلي بها؛ لذا جاء في حديث عبدالله بن مسعود كنَّا نسلِّمُ على رسولِ اللَّهِ -ﷺ- وَهوَ في الصَّلاةِ فيردُّ علينا فلمَّا رجَعنا من عندِ النَّجاشيِّ سلَّمنا عليْهِ فلم يردَّ علينا وقالَ: "إنَّ في الصَّلاةِ لشُغلًا"(الألباني صحيح أبي داود (٩٢٣).
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لمرضاته واتباع هدي نبيه، وأن يجعلنا من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون وعليها يحافظون أولئك في جنات مكرمون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم