عناصر الخطبة
1/ قصة أول جريمة قتل 2/ تلخيص القصة للأبعاد النفسية للصراع البشري 3/ موازنة التربية الإسلامية بين الأنانية وحب الآخريناقتباس
إن مجرد وجود المصلحين هو عبء ثقيل على المفسدين، ومجرد وجود الطاهرة العفيفة في وسط من العاهرات يمثل إحراجاً وإضعافاً لموقفهن؛ لذا يسعين بكل قوة إلى توريطها في مستنقع الرذيلة حتى... تلخص هذه القصة القرآنية الصراع البشري في بعده النفسي العميق، متجاوزةً كثرة التفاصيل، فكل مظاهر العنف التي نراها في العالم سواءً التي يمارسها الأفراد أو الدول تخفي في طياتها...
أيها الإخوة: مع وقفةٍ قرآنيةٍ مؤثرة، وقصةٍ من قَصص القرآن العظيم، يتلوها علينا ربنا في سورة المائدة: (واتْلُ عليهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
قصة أول جريمة سفك دم بريء في تاريخ البشرية، ومنذ تلك الجريمة لا يزال البشر يفسدون في الأرض ويسفكون دماء بعضِهم بغير حق.
يكشف هذا المشهد القرآني السبب النفسي العميق الذي يدفع إنساناً إلى قتل أخيه الإنسان، فسبب جريمة ابن آدم الأول هو قبول قربان أخيه وعدم قبول قربانه!.
إذاً؛ ما دفعه لاقتراف جريمة القتل هو ضعف موقفه الأخلاقي، أراد أن يعوض هذا الضعف باللجوء إلى العنف.
وهكذا يتبين لنا أن اللجوء إلى العنف يخفي وراءه ضعفاً أخلاقياً بمقدار إيمانك بصحة موقفك، بمقدار طمأنينتك وسلامك الداخلي، وبمقدار ضعفك الأخلاقي، بمقدار سعيك لإخفاء هذا الضعف بالقضاء على المتسبب في كشفه.
إن الضعيف أخلاقياً يشعر بحالة من الفوضى والارتباك والتناقض الداخلي؛ فيلجأ لإحداث فوضى خارجية لتحقيق الانسجام بين نظامه الداخلي والنظام الخارجي.
حين لم يستطع ابن آدم القاتل أن يثبت نفسه في ميدان الحق لجأ إلى أسلوب إلغاء الطرف الآخر مادياً حتى يتخلص من عبء الإحساس بالفشل الذي يسببه له نجاح الآخر.
إن مجرد وجود المصلحين هو عبء ثقيل على المفسدين، ومجرد وجود الطاهرة العفيفة في وسط من العاهرات يمثل إحراجاً وإضعافاً لموقفهن؛ لذا يسعين بكل قوة إلى توريطها في مستنقع الرذيلة حتى يكنَّ سواءً، وفي القرآن إشارة إلى هذه القاعدة النفسية: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
انتبه ابن آدم المؤمن إلى هذه المعادلة؛ لذا حرص على إبقاء المعركة في ميدانها الصحيح كمواجهة بين الحق والباطل، بين العدالة الأخلاقية والقوة الباغية، حتى ينزع الغطاء الشرعي عن أي جريمة قد يقترفها أخوه، فقال له: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
لسان حال ابن آدم الصالح في مواجهة طغيان أخيه: إذا أردت أن تتفوق فلك ذلك بإصلاح نفسك، وليس بالنقمة على الآخرين، فسبب عدم قبول قربانك لست أنا إنما العلة في داخلك، في تصرفاتك، والفكر الذي تحمله.
حرص ابن آدم الصالح على أن تظل المعركة واضحةً لا تشوبها شائبة، فقد رفض الانزلاق إلى مربع العنف الذي يختلط فيه الحق بالباطل فيكون القاتل والمقتول في النار: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة:28-29].
بإمكانك أن تقتلني، ولكنني لن أفكر في الدفاع عن نفسي؛ لأنني حريص على عدالة قضيتي، وحتى لو قتلتني فإنني من سينتصر في نهاية المطاف أخلاقياً، وستبوء أنت بإثمك وإثمي.
لقد كانت المواجهة بين ابني آدم مواجهةً نموذجيةً بين طرف لا يملك سوى القوة المادية كملاذ يعوض به ضعف موقفه الأخلاقي، وطرف آخر يستمد قوته من عدالة قضيته، ويرفض التفريط بهذه القوة الأخلاقية بالانجرار وراء محاولات الطرف الآخر لتوريطه في العنف.
ولو أنه قرر الدفاع عن نفسه لفقدت المواجهة وضوحها، ولاختلطت الأوراق، ولتصورنا أنها معركة مصالح بين طرفين يحرص كل واحد منهما على إفناء الآخر.
يجب أن تنتبهوا لذلك وتميزوا بين المنهجين.
صحيح أن صاحب منهج "لأقتلنك" نجح في إنفاذ وعده وقتل أخاه، لكن القرآن لا يجعل من هذا القتل الفصل الأخير في المعركة، إنما ختمت القصة بما كان بعد ذلك: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:30].
ويظهر في صورة العاجز النادم بعد فشله في تحقيق هدفه: (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة:31].
إذاً؛ هذه هي العاقبة: الخسران والندامة، ومن كانت عاقبة أمره خسراناً وندامةً فإنه أبعد ما يكون عن صفة منتصر، حتى لو تفوق عسكرياً على خصمه.
لقد نجح ابن آدم القاتل فنّيّاً في إلغاء خصمه لكنه خسر معركة الأخلاق، والأخلاق ليست ترفاً، بل إن خسارة معركتها هي الخسارة الحقيقية؛ لأن الإنسان يفقد إنسانيته وعلة وجوده، ولن يكون بعد ذلك قادراً على الحياة السوية.
تلخص هذه القصة القرآنية الصراع البشري في بعده النفسي العميق، متجاوزةً كثرة التفاصيل، فكل مظاهر العنف التي نراها في العالم سواءً التي يمارسها الأفراد أو الدول تخفي في طياتها شعوراً داخلياً بالارتباك والفوضى والضعف.
إن منهج "لأقتلنك" ما هو إلا محاولة لستر الضعف الأخلاقي، وما أكثر أتباع منهج "لأقتلنك"! فكل إنسان لا يتقبل قربانه الأخلاقي يعوض هذا الفشل بمحاولة التخلص من الناجح الذي صار حجةً عليه بنجاحه.
"لأقتلنك" تعني الإلغاء، وكل أساليب إسكات الخصم وإلغاء وجوده.
أما القتل بمعناه المباشر فهو الحالة القصوى التي تبلغها ثقافة الإلغاء والنفي.
كل ضيق بالخصم الفكري والسعي لإسكاته سواءً بالتخويف والإرهاب أو بإعلاء الصوت، كل هذه الأساليب فيها حقيقة "لأقتلنك".
العنف لا يحل المشاكل؛ بل يعقدها أكثر، ويولد المزيد من العنف، أما السلم فلا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم، ولو على المستوى الزمني البعيد: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].
الخطبة الثانية:
الظالم حين يلجأ للقتل فإنه لا يقصد القتل لذاته؛ بل إنه يقصد إلغاء إرادة الطرف المقابل فتخلو الساحة له دون أن يكدر أحد صفاءه.
ولو أن أظلم أهل الأرض وأطغاهم استطاع أن يحقق هدف إلغاء إرادة منافسيه برضاهم وإسكاتهم وتسليمهم له بسلطات مطلقة، لما وجد بعد ذلك حاجةً لقتلهم.
أما السبيل إلى تحرر الإنسان من ثقافة الإلغاء "لأقتلنك" فهو إيمانه بقضية عادلة، فيضفي عليه هذا الإيمان سكينةً ووقاراً وتوافقاً نفسياً، فلا يجد نفسه في مأزق يضطره للجوء إلى العنف لإثبات نفسه.
وبهذه الحوادث التأريخية المعبِّرة عن أنانية الإنسان وحسده، وتحوّل الأنانية والحسد إلى انتقام وعدوان؛ يقدِّم لنا القرآن درساً تحليلياً للنفس البشرية الأمارة بالسوء.
إنّ ثقافة القرآن تُربِّي الإنسان المسلم على التوازن بين حُبّ الذات وحبّ الخير للآخرين.
إنها تسعى لتحرير الإنسان من الأنانية، وربط هذا التوازن بالإيمان.
إنّ الرسول يُعبِّر عن ذلك بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه"، وقوله: "خيرُ الناس مَن نفع الناس".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم