اقتباس
لن يخلو مسجدك من مواقف تثير حفيظتك وتستنفر غضبك وتغالب تحمُّلك، لن يخلو مسجدك من متحامل عليك ينتقدك صباح مساء، ومن منفعل غضوب يخاطبك بما لا يليق، ومن متعالم جهول يتجنى عليك، وإنك...
في تاريخنا من الخطباء الأفذاذ من انقادت له الجماهير، وتوَّجوه فوقهم ملكًا بغير عرش ولا تاج؛ فهو ملك على القلوب والأرواح، يصدرون عن أمره وينصاعون لمراده طواعية لا جبرًا، وأمل كل خطيب "لبيب" أن يصل إلى هذه المنزلة من جمهوره؛ فيتخذوا منه قائدًا يثقون فيه ويتقبلون كلامه في حب ورضا، وإننا نحاول في هذه المقال أن نقدم لهؤلاء الخطباء النابهين سبلًا واستراتيجيات تقرِّبهم من هذه الغاية، وقد سبق منها في الجزء الأول من هذه المقال استراتيجيات ثلاث، وهي كالتالي:
الاستراتيجية الأولى: كن مخلصًا، تكن قائدًا.
الاستراتيجية الثانية: كن قدوة، تكن قائدًا.
الاستراتيجية الثالثة: كن خبيرًا مطلعًا مثقفًا واعيًا، تكن قائدًا... وموعدنا الآن مع استراتيجيات أخري:
الاستراتيجية الرابعة: كن كريمًا، تكن قائدًا:
أخي الخطيب: ستكون مواقف تحتاج إلى بذل وعطاء وكرم وسخاء، أيًا كان شكلها أو وصفها؛ كرجل من أهل المسجد نزلت به نازلة، وهم يجمعون له المال لمواساته، فلا تكن أنت أبخلهم وأضنهم بالمال بل ساهم بما استطعت، أو حانت مناسبة لأحد رواد مسجدك تستدعي أن تهديه هدية، فلا تتخلف أنت عن مجاملته، وأمثال ذلك كثير.
فإن ذلك سيبني لك في قلوبهم ودًا، ويؤسس لك في صدورهم حبًا، فقد قيل: "السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار"، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس"([1])، ومن أحبه الله أحبه الناس لا محالة، وتكون قد مهدت نفوسهم ليتخذوك قائدًا، يقول ابن حبان: "كل من ساد في الجاهلية والإسلام، حتى عرف بالسؤدد وانقاد له قومه ورحل إليه القريب والقاصي، لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف"([2]).
وهذا قائد هذه الأمة -صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس، يروي عنه أنس -رضي الله عنه- قائلًا: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة"([3])، وعن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني، حتى إنه لأحب الخلق إليَّ"([4]).
واعلم -أخي الخطيب- أن البخيل لا يسود، ولا يصلح أن يكون قائدًا لجمهوره أو لأي أحد، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يعزل قائدًا عن قيادته بسبب بخله؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سيدكم يا بني سلمة؟" قلنا: جد بن قيس، على أنا نبخله، قال: "وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح"([5])، ولقد كان يقال في المثل: "سؤدد بلا جود، كملك بلا جنود"([6])، وما أصدق قول الشاعر:
وإن سيادة الأقوام فاعلم *** لها صعداء مطلبها طويل
أترجو أن تسود بلا عناء *** وكيف يسود ذو الدعة البخيل
الاستراتيجية الخامسة: كن حليمًا، تكن قائدًا:
أخي الخطيب: لن يخلو مسجدك من مواقف تثير حفيظتك وتستنفر غضبك وتغالب تحمُّلك، لن يخلو مسجدك من شانئ ينتقدك صباح مساء، ومن منفعل غضوب يخاطبك بما لا يليق، ومن متعالم جهول يتجنى عليك... وإنك -أيها الخطيب- إن عاملتهم بمثل معاملتهم تساويتما! بل وأشفيت المعاند من نفسك:
سكت عن السفيه فظن أني *** عييت وما عييت عن الجواب
متاركة السفيه بلا جواب *** أشد على السفيه من العذاب
ولا شيء أحب إلى سفيه *** إذا وقع الكريم من السباب([7])
والرد على هؤلاء لا يليق بوارث علم النبوة، لا يليق بمن يسرد على الناس كيف أن أعرابيًا جذب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ردائه جذبة شديدة أثرت في عاتقه -صلى الله عليه وسلم-، قائلًا له في غلظة: مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء"([8])، وأمثال ذلك أنت تحفظه.
بل تسامى -أخي الخطيب- عن إساءات الناس في حقك، ولا تنتقم لنفسك، وقابل السيئة بالحسنة، ومن جاءك معتذرًا متنصلًا فاعف عنه، قدوتك في ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تقول عنه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط"([9])، وتذكر: "ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله، من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله"([10]).
وكلما صنعت ذلك كبرت في أعين الناس، وسكن قلوبَهم إكبارُك واحترامُك، وأحبك الله -تعالى- قبل أن يحبك الناس؛ فقد قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"([11])، ثم جعلك الناس سيدًا لهم وقائدًا عليهم؛ فلما سألوا بكر بن وائل عن سيدهم وبم سادهم؟ قال: "ما كان فينا أسود([12]) من ثعلبة بن أوس؛ كان يحلم عن جاهلنا، ويعطى سائلنا"([13])، وسئل خالد بن صفوان عن الأحنف بم ساد؟ فقال: "بفضل سلطانه على نفسه"([14])، وقيل لأعرابي: من تعدون السيد فيكم؟ قال: "من غلب رأيُه هواه، وسبق غضبَه رضاه، وكف عن العشيرة أذاه"([15])، ولخَّص ابن حبان الأمر فقال: "من حلم ساد"([16]).
وما ساد من لم يعف عن ذنب صاحب *** وإن كان في إجرامه يتعمد([17])
أخي الخطيب: وإن لم يكن الحلم لك طبيعية وسجية، فتكلَّفه؛ بكظم غيظك حتى تتقنه ويصير لك ديدنًا، ثم ترقى من كظم الغيظ إلى الحلم الكامل؛ تلك هي نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه"([18])، يقول الغزالي: "الحلم أفضل من كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم؛ أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادًا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه، وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفًا"([19]).
الاستراتيجية السادسة: كن عفيف اليد عزيز النفس، تكن قائدًا:
أخي خطيب المسجد: فإن الذي يمد يده للناس مستعطيًا لن يكون أبدًا لهم قائدًا، فإن النفوس مجبولة على الأنفة من أن تأتمر بأمر من يستجديها من أجل عطية أو مال! لذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "استغن عمن شئت فأنت نظيره، وتفضل على من شئت فأنت أميره، واضرع إلى من شئت فأنت أسيره"([20])، بل هذا جبريل الأمين -عليه السلام- يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: "يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"([21]).
ومر أعرابي على البصرة فقال: من سيد هذه البلدة؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: وبم سادهم؟ قالوا: "لأنه استغنى عن دنياهم، وافتقروا إلى علمه"([22])...
فكذلك فكن -أخي الخطيب- كن عزيز النفس عفيف اليد، متساميًا فوق الطمع والتطلع إلى ما في يد الأغنياء والوجهاء، وكلما ازددت استغناءً عن الخلق، زاد إكرام الخلق لك وإعزازهم لمقامك، وكلما رأوا منك زهدًا في دنياهم كلما تقبَّلوا منك الزاد إلى أخراهم، وهذا كله من مقومات قيادتك "الروحية" لهم، وصدق القائل:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
وأظنك -أخي الخطيب- تدرك أننا نتكلم عن الطلب من الناس، فهذا مرذول لا أظن خطيبًا صادقًا يفعله... أما إن جاءك رزق بلا طلب منك ولا منة من أحد فذاك الذي لا يضر، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالًا، فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خذه، فتموله، وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك"([23])، ولفظ ابن حبان: "إذا ساق الله إليك رزقًا من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه، فإن الله أعطاكه".
***
أخي الخطيب: هذا هو السبيل؛ سبيل قيادة الجماهير، فإن قصَّرت أنت عن هذا الطريق، الذي أُقر بأنه شاق، وكلَّت دونه همتُك، وآثرت الراحة والدعة، فعندها فاعلم أنه سيسود على الناس كل مخنث بطال ومتكلم جهول وصاحب بدعة وضلالة... وأنك ستكون من أسباب ذلك؛ لأنك قد تركت له المجال وأفسحت له الطريق، وصدق من قال:
إذا هلكت أسد العرين ولم يكن *** لها خلف في الغيل ساد الثعالب
كذا القمر الساري إذا غاب لم يكن *** له خلف في الجو إلا الكواكب([24]).
[1])) رواه الطبراني في الكبير (13646)، وابن بشران في أماليه (573)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 906).
[2])) روضة العقلاء، لابن حبان (ص: 259)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
[3])) رواه مسلم (2312).
[4])) رواه الترمذي (666)، وابن حبان (4828)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).
[5])) رواه البخاري في الأدب (296)، والبيهقي في الشعب (10361)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد).
[6])) أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 184)، ط: دار مكتبة الحياة.
[7])) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/607-608)، ط: دار الكتب العلمية: بيروت لبنان.
[8])) رواه البخاري (3149)، ومسلم (1057).
[9])) رواه البخاري (6126)، ومسلم (2327).
[10])) رواه ابن ماجه (4189)، والطبراني في الأوسط (7282)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف ابن ماجه).
[11])) رواه مسلم (18).
[12])) "أسود" هنا أفعل تفضيل من ساد يسود... فالمعني: "ما كان فينا أكثر سيادة من ثعلبة".
[13])) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/604).
[14])) عيون الأخبار، للدينوري (1/327)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
[15])) المجالسة وجواهر العلم، للدينوري (5/223)، ط: دار ابن حزم (بيروت - لبنان.
[16])) روضة العقلاء، لابن حبان (ص: 40).
[17])) مكارم الأخلاق، للخرائطي (ص: 132)، ط: دار الآفاق العربية، القاهرة.
[18])) رواه الطبراني في الأوسط (2663)، وابن شاهين في الترغيب (243)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 342).
[19])) إحياء علوم الدين، للغزالي (3/176)، ط: دار المعرفة - بيروت.
[20])) تفسير الثعالبي (1/533)، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
[21])) رواه الحاكم وصححه (7921)، والبيهقي في الشعب (10058)، وحسنه الألباني (الصحيحة:831).
[22])) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 509)، ط: دار القلم - دمشق.
[23])) رواه البخاري (7163)، ومسلم (1045).
[24])) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/217)، ط: عالم الكتب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم