اقتباس
إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة، تلك الفصاحة، والبراعة، والنجابة، التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء، وإمام البرعاء، وأبين العرب العرباء، كان إذا تكلم ملك المشاعر، واستولى على الضمائر، واستمال السرائر، فلا يريدون بعده كلام خطيب ولا شاعر، إذا نطق عليه الصلاة والسلام وتدفق، فكأنه الفجر أشرق، والماء ترقرق، والنور في الأرواح ترفق.
نحن في زمن عجيب، وفي عصر غريب، كم بلينا بخطيب غير أديب، ولا مصيب، إذا تكلم تلعثم، وهمهم، وغمغم، وتمتم. إذا بدأ في الكلام اعتذر، لا يدري ما يأتي وما يذر، لأن كلامه هذر مذر، ابتلي الرجل بالسعال، وكثرة الانفعال، وسوء التعبير في المقال. لا يزوّر الكلام في صدره تزويرا، ولا يحبّر الخطب تحبيرا، فلا يساوي كلامه في ميزان الشعر نقيرا، يا ليت بعض الخطباء اشتغل بالتجارة، أو مارس البناء والنجارة، وترك المنبر لأهل الإبداع والجدارة.
الخطيب القدير، والمتكلم النحرير، له صولة وزئير، ومنطق كالحرير، ولسان كالسيف الطرير، إذا وثب على المنبر، فاح منه المسك والعنبر، فكأن منطقه الماء الزلال، والنبع السلسال، يأتي بالحكمة في ارتجال، ويغلب بحجته الرجال، فإنه الأسد إذا صال وجال، إياّك والكلام الساقط المرذول، والعامي المبذول، وعليك بفصيح المنقول، الذي يحبّذه أصحاب العقول، ما أحوجنا إلى خطيب قوّال، وبما يقول فعّال، ليس صاحب إملال، ولا إخلال، ولا إقلال، وإنما يدبج السحر الحلال.
لا يشرح الصدر مثل الكلام الصادق، والبيان الناطق، واللفظ الدافق، والأسلوب السامق، أما كلام الحاكة، وألفاظ أهل الركاكة، فهو حُمّى الأرواح، في الصدور رماح، وفي القلوب جراح. ترى بعضهم إذا تكلم لا يكاد يبين، كأنه من الأعجميين، ينطق بالحرف مقلوبا، ويجعل المرفوع منصوبا، ملأ خطبته عيوبا، وندوبا، وثقوبا. غضب منه في النحو سيبويه، وفي اللغة نفطويه، وفي الحديث راهويه، وفي الشعر متنبيويه. الخطيب البارع يأسر القلوب أسرا، ويسري بالأرواح فسبحان من أسرى، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداء، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء. الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، ويرسم في العقول صوراً من براعة التعبير، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير. هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب، وحل بها الحبيب، وأطفأ نسيمها اللهيب، وكذلك الخطيب النجيب، في خطبه روضات من الجمال، وبساتين من الجلال، ودواوين من الكمال.
تقرأ القصة لا تساوي بعرة، ولا تهز شعرة، فيلقيها الخطيب الأشدق، والفصيح المتدفق، فكأنها السحر دب في كيانك، وكأنها الخمر هزت أركانك، تسمع بيت الشعر لا يساوي ريالا، ولا ترى فيه روعة ولا جمالا، فيلقيه الخطيب المصقع، والمتكلم المبدع، فتبقى من حسنه مبهوتا، كأنك لقطت ياقوتا.
الخطيب الهدّار، كالسيل الموّار، يقتلع الأشجار، ويحمل الأحجار، ويقتحم الأسوار، لا يرده جدار، ولا تقف في طريقه دار، لأن الخطيب يقبل ومعه الآية الآمرة، والموعظة الزاجرة، والقصة النادرة، والحجة الباهرة، والقافية الساخرة.
تعيش معه في دنيا من الصور والألوان، وفي عالم من المشاهد والألحان، كأنك في إيوان، أو بستان، أو ديوان.
دعني من الخطباء الثقلاء، كأن كلامهم لهيب الرمضاء، أو وهج الصحراء، أو وجه الشتاء، لا طلاوة، ولا حلاوة، لا إبداع، ولا إمتاع، ولا إشباع. قوم لم تركض ألسنتهم في ميدان البيان، ولم تذق قلوبهم حلاوة القرآن، ولا تمتعوا بسحر الكلمات، ولا رشاقة الجمل البالغات، ولا عرفوا حسن السبك، ولا براعة الحبك، هَمُّ أحدهم صحف يتلوها على الناس بكرة وأصيلا، لا تترك في الناس من التأثير فتيلا، يلوك أحدهم الكلام لوكا، كأنه يغرز في الأجسام شوكا. أفصح الناس رسول الهدى، وإمام الندى، أبلغ من حضر وبدا، وأوعظ من راح وغدا.
إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة، تلك الفصاحة، والبراعة، والنجابة، التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء، وإمام البرعاء، وأبين العرب العرباء، كان إذا تكلم ملك المشاعر، واستولى على الضمائر، واستمال السرائر، فلا يريدون بعده كلام خطيب ولا شاعر، إذا نطق عليه الصلاة والسلام وتدفق، فكأنه الفجر أشرق، والماء ترقرق، والنور في الأرواح ترفق.
إن من النعيم، عند ذاك الجيل العظيم، سماع ذلك النبي الكريم، في منطق سليم، وصوت رخيم، وقول قويم، ونهج مستقيم. ثم درج خطباء الأمة على منواله، وسبكوا أقوالهم على أقواله، فمن مقلٍّ ومكثر، ومن مُؤثّرٍ ومتأثر. فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه، وملأ بنور الحديث عينه، وجعل البيان خدينه، ثم أكثر من التدريب، وأدمن التجريب، وأخذ من كل فن بنصيب، فترى له من البراعة، ومن الجرأة والشجاعة، ما يخلب ألباب الجماعة، جمالاً في بيان، وحسناً في إتقان، مع عذوبة لسان، وثبات جنان.
غير أن البلاء، يأتي من الأغبياء، المعدودين في الخطباء، فهم كالغيم في الصحو، وكاللحن في النحو، عبارات من حجاب البيان سافرة، وجمل متنافرة. وتركيب غريب، ليس عليه من سلطان الإبداع رقيب، هَمُّ أحدهم أن يقول، ولو أخطأ في النقول، وعاث في العقول، فَمَنْع هؤلاء من الخطابة إصابة، حتى يراجع كل منهم حسابه. فليست المنابر أسواق باعة، ولا أحواش زراعة، ولا ورش صناعة، إنما المنابر مواضع طاعة، تهذب بها الأجيال، وتصقل بها عقول الرجال.
فهذبْ لسانك، وجوّد بيانك، ودرب جنانك، وأطلق في الفصاحة عنانك، لتكون الخطيب المسدّد، والمتكلم المؤيد. وحذار من ترداد الكلام، فإنه يتحول إلى ركام، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام، وإيّاك والتقعر والغرابة، فإنها من عيوب الخطابة، ولا تكرر العبارة، ولا تكثر الإشارة، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص، ولا تجرح الأشخاص. واخلط الترغيب بالترهيب، والوعظ بالتأديب، وتحبب إلى السامعين بالطَّيِّب من الكلام، ولا تتعرض للشتم والملام، وتألّف القلوب، وذكرهم برحمة علاّم الغيوب.
وتخولهم بالموعظة، لتكون لقلوبهم موقظة، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل، وما يهمهم من فضائل، وكن لطيفاً مع الناس، كالطبيب الآس.
واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان، صاحب القرآن، سيد ولد عدنان.
فقد كان الجذع يحنّ لكلامه، ويئن من كثرة شوقه وهيامه، وكانت الدموع من وعظه تتحدر، والقلوب تتفطّر، والنفوس تتحسر، هذا إذا أنذر وحذر، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرّد من السرور، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة فالكل نور على نور.
أيها الخطباء كونوا أبطالا، ورصّعوا من الحكمة أقوالا، ودبّجوا من الفصاحة أمثالا، وانفروا خفافاً وثقالا، وفقكم الله تعالى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم