اقتباس
فأنا وأنت وغيرنا لسنا أطهارا ولا معصومين؛ بل نحن مشمولون بلطف الله ومحفوفون بستره، ولو كشف عنا سحب لطفه وظلال عفوه وستار حلمه لظهرت لنا بوائق ومزالق.
أيها الفضلاء: لقد كان من حكمة الرب الإله -سبحانه- أن كانت الدنيا دار عمل، وعليه فقد شاء المدَّبر -سبحانه- قدرا كونيا وقوع العمل فيها بنوعيه الخير والشر، وأعد للعاملين فيها في الآخرة دارين، وأسكن كل دار بما يناسبها من العمل والكدح؛ فجعل لعامل الخير دارا هي الجنة ثواباً، ودارا لعامل الشر وهي النار عقاباً.
ولأن الله -سبحانه- قد قدّر بعلمه أن يكون هناك شر وذنب وعصيان ومرتكبين لذلك من عباده من البشر؛ فكان لزاما علينا أن نتفهم كيفية التعامل مع هؤلاء المخطئين والمخالفين؛ إذ ليسوا سواء في دوافعهم ولا في مقاصدهم ولا في أحوالهم.
والمخالف المذكور في عنوان المقالة لا نقصد به من خالفنا الدين أو العقيدة، أو انتحل منطق الزنادقة والفلاسفة، أو سلك مسلك الوثنيين والملحدين، أو تبنى مذهبا غير مذهب السلف في الأصول والاعتقاد فوقع في البدع المكفرة وانحدر نحو الزيغ والضلال والانحراف؛ فهؤلاء لهم تعامل آخر وشأن مختلف؛ إنما يتوجه خطابنا إلى المخالف من أهل السنة والجماعة؛ سواء كان المخالف من علمائهم أو دعاتهم أو عامتهم وجمهورهم.
ذلك أن المخطئ في دائرة هؤلاء -في اعتقادنا- لم تكن مسوغات مخالفتهم التحليل أو الجحود أو الإباء والإعراض؛ إنما دوافع فعلهم هو ناتج عن الضعف البشري والقصور الإنساني، نتيجة للصفات التي جبلوا عليها؛ مثل: الجهل، الضعف، العجلة، قلة الإدراك، ضعف الإمكانيات، النسيان، الخطأ، الشهوة .. ألخ.
ثم رأيت أن الأنسب لتسمية هذه المقالة ب (كيف تتعامل مع المخالف؟)، ولم تكن مثلا؛ موقفك من العاصي أو المذنب؛ لأمرين: أحدهما: تحبباً بالمخالف وتحبيباً وذلك أرفق. ثانيا: لأن ما فعله وهو في نظرنا ذنب ومعصية قد لا يكون عند الله -سبحانه- الإله كذلك؛ فقد يكون له من المسوغات ما يرفع ذلك الوصف؛ فكان الأنسب تسميتها مخالفة من وجهة نظرنا، وذلك أليق.
ومما لا بد من العلم به أن شريعة الإسلام التي جاءت بها نصوص الوحيين؛ إما معروف أمر الله به ورسوله، وإما منكر نهى الله عنه ورسوله، وليس منكر إلا ما نهى الله ورسوله عنه ولو زعم من زعم شرعيته، كما أنه لا طاعة إلا ما أمر الله بها ورسوله، ولو زعم من زعم عدمها.
والمخالفات -أيها الكرام- منها ما فيه تعد لحق الخالق، ومنها ما فيه تعد لحق النفس أو المخلوقين مما حرمه الشارع الحكيم، وعلى هذا فإن أي تجاوز مع الله أو مع غيره هي مخالفة لله -سبحانه-.
وبعد هذا التمهيد -أيها الكرام- نأتي إلى صلب حديثنا ومحط رحالنا، وهو التطبيقات العملية لموضوعنا من خلال التعرف على مسلمات يجب مراعاتها وخطوات يجب اعتبارها مع من رأينا مخالفته؛ فنقول مستعينين بالله -تعالى-:
1. خلق الله الدنيا وجعلها دارا تجمع الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، والخير والشر، والحسن والقبيح، والصلاح والفساد، ومن أرادها غير ذلك فهو يعارض الله في تدبيره وأفعاله وإرادته، ثم جعل على ذلك يوما يجزي فيه؛ (الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، ولا دار كلها سيء وخبيث إلا النار، ولا دار كلها حسن وطيب إلا الجنة.
2. تذكَّر أن الله كتب الذنب والزلل على جميع عباده، وقدر ذلك كونا وأراده؛ فكل ابن آدم خطاء، وليس من عباد الله من أحد من لدن أبينا آدم وما دونه إلا وقد أخطأ ويخطئ؛ فمن سلم من ذنب أدركه غيره، ومن لم يقع في كبيرة وقع في صغيرة؛ قال عليه الصلاة والسلام: " كلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التَّوابُون"، وبالتالي حدوث الذنب والخطيئة ليس بمستغرب على ابن آدم.
3. الله يحب الطاعة والطائعين ويكره المعصية والمصرين، لكنه يحب المستغفرين والتائبين؛ ففي الحديث "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم"، وعليه ينبغي علينا محبة ما يحبه ورسوله وبغض ما يبغضه الله ورسوله.
4. أن الله -سبحانه- سمى نفسها عفوا غفورا توابا رحيما، ولأنه سمى نفسه بذلك واتصف به فيقتضي ذلك أمور؛ أولا: يقتضي وقوع الذنب في عباده والزلل منهم. ثانيا: يقتضي حصول التوبة والرجوع منهم والأوبة والاستغفار. ثالثا: يقتضي مغفرته للمستغفر وتوبته على من تاب. رابعا: يقتضي عقوبته لمن لم يتب. فدل أن لهذه الأسماء والصفات لوازم ومقتضيات، ومن قال غير ذلك فهو يدعي عبثية هذه الأسماء والصفات، وذلك إلحاد في حق الله..
5. أنه يجب الرحمة بالمخالف والشفقة عليه ومراعاة حاله، وهل كان إرسال محمد للناس كافة إلا رحمة بهم ليخرجهم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات! قال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؛ فهكذا أُرسل نبينا، وهكذا يجب على أمته وأتباعه أن يكونوا رحمة للعالمين، وأنت واحد من أمته؛ والواقع في الذنب يتجرع غصصه دنيا وآخرة؛ فحقه عليك الرحمة به والشفقة عليه، وذلك بانتشاله من ظلمة الذنوب والمخالفات إلى نور الطاعات والبركات.
6. سلامتك من هذه المخالفة التي وقع فيها غيرك هو فضل من الله عليك؛ (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)؛ فلا ينبغي أن يخدعك غرورك أو تزهو بك نفسك؛ فربما سقطته تلك تدخله الجنة؛ بينما عجبك بنفسك وغرورك بسلامتك يدخلك النار؛ ف"رب معصية أدخلت صاحبها الجنة ورب طاعة أدخلت صاحبها النار".
7. ألا تشمت بالمخالف أو تسخر منه أو تنتقص؛ فذلك قدر الله عليه، وفي الحديث "لا تُظهرِ الشَّماتةَ بأخيك فيرحمُه اللهُ ويبتليكَ"؛ نعم، فسخريتك منه تجعلك عرضة يوما ما لذلك البلاء أو لذلك الذنب.
8. أن تدعو الله لنفسك ألا يكلك إليها؛ فالنفس يطرأ عليها الضعف ويداهمها الفتور، كما أن من طبعها التزيين؛ لذا ردد دائما: "يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ، أصلِحْ لِي شأنِي كلَّهُ، ولا تكِلْنِي إلى نفسِي طرْفةَ عيْنٍ"؛ فما وقع عبد في مخالفة وذنب وخطأ إلا حين أوكله الله إلى نفسه، وليس كثرة علمك ولا قوة إيمانك ولا حسن ذكائك من سلمك من الذنب؛ إنما هو حفظ من الله لك وصونه، ولو شاء الله لنزع حوله عنك فوقعت فيما فيه وقع.
9. أن تثني على الله شكرا وحمدا على معافاته لك من الذنوب وصونه لك من المعاصي؛ لأن ترك ذلك سبب من أسباب الانتكاسة والوقوع في الذنب.
10. أن تكون دائم الدعاء لله بأن يمنحك الهداية والصلاح؛ (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)، وأن يجنبك الزلل والخطأ؛ (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ)، ويكرِّه إليك الذنوب والعصيان؛ (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
11. أن تشكر الله الساتر لعيوبك بينما كشف عيوب غيرك؛ ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: " اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي..."؛ فأنا وأنت وغيرنا لسنا أطهارا ولا معصومين؛ بل نحن مشمولون بلطف الله ومحفوفون بستره، ولو كشف عنا سحب لطفه وظلال عفوه وستار حلمه لظهرت لنا بوائق ومزالق.
12. وجوب نصيحة المخالف وإرشاده بأي وسيلة شرعية مناسبة؛ وأدلة ذلك كثيرة منها؛ "من رأى منكم منكرا فليغره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وترك ذلك يعرض صاحبه للعن -عياذاً بالله- وعدم الإنكار شراكة للمخالف في مخالفته. كما يجب اختيار الوسائل المناسبة لدعوة أي مخالف؛ فليس شرطا أن وسيلة نجحت مع فلان أن تنجح مع غيره؛ فربما نفع هذا الدليل الشرعي بينما غيره الدليل العقلي، بينما آخر بالعرف وذاك بالقانون، وذاك بالترغيب وهذا بالترهيب.. وهكذا.
13. قد نحتاج في بعض الأحيان والأحوال والأماكن، ولبعض المخالفات ومع بعض المخالفين لِأن نستعمل معهم أسلوب الهجر وترك مجالستهم إذا رجحت المصلحة؛ قال ربنا: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام؛ كما هو فعله مع الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، وكما فعله مع من رأى في يده خاتماً من ذهب حيث أعرض عنه، فألقاه واتخذ خاتما من حديد فقال: "هذا شر، هذا حلية أهل النار؛ فألقاه فاتخذ خاتما من ورق، فسكت عنه".
14. العاصي نفسه خذلته وشيطانه زين له، وعليك كأخ ناصح ومشفق أن تعينه على نفسه بشتى الوسائل لا أن تعين نفسه وشيطانه عليه؛ ففي حديث الرجل السكران أنه أتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بضربه؛ قال الراوي: فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم".
15. وجوب ستر العاصي وحرمة كشفه والتشهير به؛ بل والدفاع عن عرضه في حياته وبعد مماته، وذلك أوجب؛ " وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"؛ وستر المخالف هو الأصل، وعدمه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والمخالفات؛ فأحيان يكون التشهير بالمخالف وكشفه من الصواب وليس من الحكمة ستره.
16. العاصي قد يكون له من المسوغات أو الملابسات ما يرفع عنه الحرج عند الله وما يغفر له سقطته، ويعذر به عند الله -تعالى-، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم مع حاطب حيث قال لعمر لما أراد استأذن أن يضرب عنقه: "لعل اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"؛ ففي بعض الحالات تكون المخالفة سقطة تحققت بها الإرادة الكونية، وينطبق هذا في حق ذوي الهيئات وأهل الصلاح والفضل، وفيهم يقول عليه الصلاة والسلام: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"؛ أو الجهل أو الخطأ أو التوبة أو غير ذلك، وعليه وجب أن نعذر من عذر الله ورسوله.
17. ينبغي في الأصل أن ننظر إلى المخالفة لا إلى المخالف؛ لأن مما ابتليت به الأمة في زمانها الطويل هو التشنيع على الأشخاص لا على التصرفات والممارسات، وقد كان الواجب شرعا أن نقيِّم المخالفات والسلوك وننقدها لا الأشخاص والأعيان، وهذا أسلوب القرآن والسنة؛ فكم هو حديثه عن مخالفات أهل الكتاب والمشركين وأمم سبقت؛ بينما كم تحدثا عن أشخاصهم؟
18. من عُرف عنهم الصلاح والهدى والتوحيد واتباع السنة يجب أن نوسع دائرة حسن الظن فيهم؛ فنحصر خطأهم ونضيق الحكم عليها؛ إذ الحال أن خطأهم ليس عن خبث وإعراض..؛ بخلاف من عرف عنهم الفساد واشتهروا به فلا يحسن الظن بنواياهم ولا بتصرفاتهم، ودليل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تبوك قال ما فعل كعب ابن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه؛ فقال له معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: بئس ما قلت: والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فالرسول اقر دفاع معاذ عن كعب لأن كعب لم يعرف عنه إلا صلاحه وليس غير ذلك.
19. الواقع في الذنب أو المخالفة لا يزال في دائرة الإسلام؛ فهو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فلا يتبرأ منه مطلقا كما لا يوالى مطلقا؛ بل الصواب في حقه حب طاعته وبغض معصيته، ويوالي على إيمانه ويتبرأ منه بقدر ما فيه من معصية وفسق، فهذا رجل اسمه عبد الله في عهده عليه الصلاة والسلام، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله"؛ فأثبت له الإيمان والمحبة.
20. يجب إدراك أن التعامل مع الناس وفق عقيدة الولاء والبراء أقسام: 1- المعصومون: الأنبياء والرسل وفي حقهم يجب الولاء المطلق. 2- إبليس والكفار بصنوفهم وفي حقهم يجب البراء المطلق. 3- المسلمون والمؤمنون وفي حقهم يجتمع لهم براء وولاء وقرب وهجر.
21. أن تأطِّر خلافك مع المخالف حول مخالفته التي وقع فيها، ولا يجوز أن يتمدد خلافك معه إلى غيرها؛ ومتى تعدى الخلاف مخالفته فذلك من قبيل الفجور في الخصومة والاعتداء المحرم، وفيه استجابة لنداء الشيطان، ونزول عند حظوظ النفس ورغباتها وذواتها، ومن جاوز مع آخر خلافه في قضية ما إلى غيرها فقد أتى خصلة من خصال المنافقين؛ كما في قوله: "وإذا خاصم فجر".
22. أن تجعل من معصية العاصي أو مخالفته عبرة لك وعظة لغيرك؛ فقد لفت الله انتباها إلى ذلك في كتابه الكريم؛ (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
23. أن تعلم أن ما من عبد إلا وله ذنب يرتاده بين الفينة والأخرى؛ قال عليه الصلاة والسلام: "ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا، توابا، نسيا، إذا ذكر ذكر"، وربما صاحبه يجاهد نفسه للتخلص منه، وبذل في سبيل ذلك وسائل كثيرة؛ لكن شاء الله أن يكون هذا بلاؤه ومحنته، ولو نظرت بعين الإنصاف والتجرد لوجدت نفسك مقيما على ذنوب تتغافلها؛ فصور الذنوب والمخالفات كثيرة، والكل يعصي الله بطريقته، والكثير ينظر للذنوب التي سلم منها وابتلي بها غيره، ثم هو يغفل عن التي وقع فيها وربما سلم منها غيره.
24. يجب أن تفرق بين عاثر في زلة وبين مصر عليها، وبين محلل لها وبين محرم، وبين مستتر بها وبين مجاهر فيها، وبين متلبس بها وبين مسوق ومروج، وبين ذنب هو شرك وكفر ونفاق وذنب هو كبيرة وصغيرة، وبين صغيرة وخطأ وخطيئة، وبين واقع في الذنب نتيجة شبهة ومن يريد الحق ولم يدركه، وبين الواقع فيه عالم به وبين الجاهل به، ودليل هذا مبسوط في القرآن والسنة؛ كقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
25. يجب أن يسأل الواقع في المخالفة عن دوافع مخالفته وملابسات ذلك قبل أن تصدر في حقه الأحكام وترمى عليه الألقاب والأوصاف، وهذا هو منهج القرآن؛ قال ربنا لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، وكفعله صلى الله عليه وسلم مع ماعز، إذ لم يصدر في حقه عقوبة قبل استجوابه؛ بل دعاه ثم سأله عن سبب ما فعل؛ قائلاً: "ما حملك على ما صنعت يا حاطب؟"؛ فالعجلة فيها تجن، والمشروع هو التأني؛ فربما وجد لزلته تفسيرا ولسقطته تأويلا، وهذا المقصد أراده عليه الصلاة السلام من سؤاله ماعز؛ "لعلك قبلت أو باشرت..." .
26. المذنب التائب يجب طي معصيته، ولا يجوز نبشها في كل زمان ومكان ومناسبة، ويجب أن تكون في عداد المكتوب المقدر، ويرجى أن تكون -أيضا- في سجل المغفور؛ بدليل قوله: "مهلًا يا خالدُ فوالَّذي نفسي بيدِه! لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مُكسٍ لغُفِر له. وأمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت"، وهذا بخلاف المذنب القائم على معصيته.
27. اقتراف العبد للمعصية لا يعني خروجه من دائرة الإسلام أو استحقاقه للنار أو حرمة الجنة عليه؛ فربما كان له من المسوغات أو طرأ عليه طارئ؛ كتوبة أو نزول بلاء أو شفاعة شافع أو جزاء على معروف؛ فصارت في المعفو المغفور، وفي الحديث، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في مجلس، فقال لأصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا - وقرأ هذه الآية كلها - فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".
28. وجوب الحذر والاستعاذة بالله من شرور المعاصي والمخالفات وتبعاتها؛ فربما السيئة التي رأيتها في أخيك ليست سوى نتيجة سيئة لم يتب منها ويستغفر أو يستعيذ بالله من مغبتها وتبعاتها؛ فكان من عقابها أن جرّته لسيئة أخرى بعدها، وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام؛ "...أعوذُ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، وأبوءُ لَكَ بنعمتِكَ عليَّ، وأعترفُ بِذنوبي، فاغفِر لي ذنوبي إنَّهُ لا يَغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ".
29. يجب الاستعاذة بالله من شرور النفس والشيطان؛ فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: "أعوذُ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطانِ وشِرْكِهِ".
30. ينبغي أن تكون النصيحة وفق ما وجه الله نبيه وأرشده إليه، وأنت -يا عبد الله- لست إلا عبدا لله -تعالى- وواحدا من أتباع نبيه؛ فيجب أن تتعلم أسلوب دعوته كما تحمل همَّ دعوته؛ (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؛ فالحكمة تعني الأسلوب الحسن، والموعظة الحسنة أي الكلام الجميل الذي يتضمن ترغيب المخالف فيما عند الله للطاعين والمنتهين عن مخالفته، كما يتضمن ترهيب المخالف من مقارفة ما نهى الله عنه ورسوله أو التارك لما أمرا.
31. لا تشنع على المخالف ولا تسبه أو تكفره وتفسقه وتبدعه عن هوى وبغي؛ بل ينبغي وزن المخالفة بميزان الشرع، والحكم عليها من منظوره؛ فإن تجاوزت حكمها الشرعي فكلاكما مخالف للشرع، وربما كان تجاوزك أعظم إثما وأكبر جرما من المخالف نفسه؛ كونك تقولت على الله في دينه على عباده بغير علم أو عن هوى، وذلك البهتان العظيم؛ قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).
وأخيرا أيه -الأفاضل- هذا ما تم إعداده وتيسر بفضل ربي إيراده؛ فلله منه صوابه وعلينا سيئه وخطؤه.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم