عناصر الخطبة
1/المقصود بقاعدة \"كما تكونوا يولى عليكم\" وقصته 2/انتشار الظلم في المجتمعات البشرية 3/صلاح الولاة وفسادهم كحال رعيتهم 4/الاعتصام بحبل الله وإصلاح ذات البين 5/وجوب السمع والطاعة لولاة الأمراقتباس
"كما تكونوا يولى عليكم" هذه الكلمة ليست حديثا نبويا، وإن اشتهر ذلك عند الناس، ولكنها حكمة درجت على ألسنة الاجتماعيين والمؤرخين خاصة؛ لأنها قاعدة سلطانية، شهد لها البحث الإستقرائي للتاريخ، فلا تكاد تحكم جماعة إلا بما يناسب مستواها من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، هادياً ومبشراً ونذيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصحَ الأمّةَ، فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة 197].
"كما تكونوا يولى عليكم" هذه الكلمة ليست حديثا نبويا، وإن اشتهر ذلك عند الناس، ولكنها حكمة درجت على ألسنة الاجتماعيين والمؤرخين خاصة؛ لأنها قاعدة سلطانية، شهد لها البحث الإستقرائي للتاريخ، فلا تكاد تحكم جماعة إلا بما يناسب مستواها من الصلاح، أو غيره، وكل سلطان من طينة رعيته.
ومعلوم أن الله -عز وجل- سلط فرعون على قومه؛ لأنهم كانوا على مستواه، كما قال سبحانه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54].
فوصفهم بالفسق، فلذلك سلط عليهم من يناسبهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والخفيف هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه".
ويبدو أن هذه الحكمة قديمة، فقد قال العجلوني في كتابه: "كشف الخفاء": "روى الطبراني عن الحسن البصري: أنه سمع رجلا يدعو على الحجاج، فقال له: لا تفعل، إنكم من أنفسكم أوتيتم، إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير، فقد روي: أن أعمالكم عُمَالكم، وكما تكونوا يولى عليكم".
"إنما نخاف عليكم إن عزل أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير".
والقردة مقلدون والخنازير لا غيرة عندهم، فذلك في الحقيقة وفي المعنى على سواء.
"إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات، أن يتولى عليكم القردة والخنازير".
القردة يقولون: نحن كهم حذو النعل بالنعل، ولا تقدم لنا إلا باتباعهم أثرا وعينا، نأكل كما يأكلون، ونشرب كما يشربون، ونتغوط كما يتغوطون، حذو النعل بالنعل، وينقلون لكم مناهج أعداء الله في السياسة والاقتصاد، ومناحي الحياة، لتكون منهاجا لكم، منحين منهاج ربكم وسنة نبيكم.
"أن يتولى عليكم القردة والخنازير" والخنزير، هو الحيوان الوحيد في دنيا الحيوانات الذي يرضى أن تغازل أنثاه خنزيرا سواه، وأن يواقعها تحت عينيه.
"أن يتولى عليكم القردة والخنازير" يشرعون لكم استبدال الزوجات، وهتك المحرمات، وإطلاق الحريات.
"إنما نخشى عليكم إن عزل الحجاج أو مات، أن يتولى عليكم القردة والخنازير".
قال الحسن -رحمه الله- زمن الحجاج: "اتقوا الله، فإن عند الله حجاجين كثيرا، تحسبون أن الظلم قد مات، وأن الفساد قد فات، إنما هو آت آت، فاتقوا الله رب الأرض والسماوات، واتبعوا سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-".
واعلموا أن الناس يجنون ثمار أعمالهم، ومن هذه الثمار حال حكامهم، فإنها تابعة لما يقارفون من أعمال، ولذا يقال: "ظلم العمال، ظُلمة الأعمال".
والمقصود بالعمال الأمراء والمسؤولون، وهو ما يسمي اليوم عندنا، ب "الوالي" أو "المحافظ" أو "حاكم مقاطعة" أو "منطقة" يقول الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
نظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بختنصر، فقال: بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا.
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].
فإذا انتشر في أي مجتمع من المجتمعات البشرية جملة من المحرمات، كالسرقة، والاغتصاب، والرشوة، والمخدرات، والوقوع في الزنا، وشرب المسكرات، وإيذاء الجار، وعقوق الوالدين، وانقلبت عندهم الموازين، فالباطل عندهم هو الحق، والحق هو الباطل، والمعروف هو المنكر، والمنكر هو المعروف، والصادق هو الكذاب، والكذاب هو الصادق، والأمين هو الخائن، والخائن هو الأمين، والذي يرتكب كبائر الذنوب، وصاحب سوابق، هو الرجل الشهم، وذو دين وخلق، حسن هو المغفل الغبي، وعمت مظاهر اللهو، كالموسيقى والأغاني الماجنة، والاعتداء على الغير، وسائر المحرمات التى حرمها الله، وتضييع حقوق الله، كالزكاة، والحج، وأكل أموال الأيتام، وحرمان الورثة الحقيقين من الميراث، وهذا كحرمان الأنثى من ميراث أبيها، وتضييع العبادات، كالصلاة، وغيرها، كما في الآية الكريمة: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].
فلا تنتظر من هذا المجتمع أن يخرج منهم مسؤول، أو حاكم صالح، بل يخرج من جنس أفعالهم، ويذيقهم الويلات، جزاء بما كسبت أيديهم، وجنت أفعالهم.
ومن خالفت أقواله أفعاله تحولت أفعاله أفعى له.
وقال قتادة: "قالت بنو إسرائيل: إلهنا أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف نعرف رضاك من سخطك؟ فأوحى الله إلى بعض أنبيائهم: "إذا استعملت عليكم خياركم، فقد رضيت عنكم، وإذا استعملت عليكم شراركم، فقد سخطت عليكم".
واعلموا: أن أهل الحل والعقد، إنما يكونون على حسب أعمال الناس، وأحوالهم صلاحا وفسادا، روي أنه قيل للحجاج بن يوسف: لم لا تعدل مثل عمر وأنت قد أدركت خلافته؟ أفلم تر عدله وصلاحه؟ فقال لهم: كونوا كأبي ذر في الزهد والتقوى -أتعمـر لكم- أي أعاملكم معاملة عمر في العدل والإنصاف.
قال الشيح محمد بن صالح العثيمين في كتابه: "الضياء اللامع": "هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة، حين كانت الرعية قائمة بأمر الله، خائفة من عقابه، راجية لثوابه، فلما بدلت الرعية، وغيرت، وظلمت نفسها، تبدلت أحوال الرعاة، وكما تكونون يولى عليكم".
بارك الله لى ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا.
عباد الله: اعتصموا بحبل الله -تعالى- جميعا ولا تفرقوا، واجتهدوا في إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين، هي الحالقة للدين، واحذروا النزاع، وأسباب التفرق:: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
واعلموا: أن الله -تعالى- أمر ولاة أمور المسلمين بأن يؤدوا ما بأعناقهم من الأمانة للرعية، وأن يحكموا بالعدل، فيقيموا الحدود والتعزيرات، ويردعوا العصاة عن المعاصي، وأن يرفقوا بالرعية، فلا يكلفوهم ما يشق عليهم، قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215].
وأمر الرعية بأن يسمعوا لهم ويطيعوهم فيما أمروهم أو نهوهم، ما لم يكن في معصية الخالق؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
فوجوب طاعة ولي أمر المسلمين، عقيدة دينية، يدين بها المسلم لربه، فإن أمره أميره، أو مديره، بأمر، وجب عليه تنفيذه ما لم يكن معصية لله -تعالى-، وإن نهاه عن فعل شيء وجب الانتهاء عنه.
وولاة الأمور، هم: العلماء والأمراء، فطاعة هؤلاء فيها مصلحة الدين والدنيا، ومخالفتهم فيها فساد الدين والدنيا.
فالعبرة -أيها المسلمون- بمن نجا كيف نجا، وليس العبرة بمن هلك كيف هلك.
فلا تستوحشوا من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتروا بكثرة الهالكين.
نسأل الله -تعالى- العفو والعافية في الدنيا والآخرة، كما نسأله السلامة من حقوق خلقه، والإعانة على أداء حقه، وأن يجعلنا من المتعاونين مع ولاة أمورنا على البر والتقوى، وألاَّ يجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم