عناصر الخطبة
1/ ظاهرة الإسراف وسوء ثقافة الاستهلاك 2/ الإسراف سبب لفقدان النعم وتحولها 3/ صور مذمومة من الإسراف 4/ أسباب نزع بركات الرزق 5/ أهمية التربية على نبذِ الإسراف وثقافةِ الاستهلاك 6/ ضرورة تفعيل الرقابة على التجار والأسعار ومحلات التقسيط والديون.اقتباس
وعادت مناظر للإسرافِ والتبذيرِ التي نراها تقع ممن أُناسٍ لفضل النعم لا يدركون.. وباسم الكرم يزعمون، لكنهم يتفاخرون ويُسرفون ويتباهون!! وما علموا كيف عاش آباؤهم وأرضهم كيف كانت؟ لا يدركون! فقد كانت مذئبةً منهبةً يجوع فيها الناس ويهربون للهند والعراق لطلب الرزق ولأهلهم وولدهم يتركون..
الخطبة الأولى:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا لجنّته ورضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأعوانه، وسلم تسليماً.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه..
وعادت مناظر للإسرافِ والتبذيرِ التي نراها تقع ممن أُناسٍ لفضل النعم لا يدركون.. وباسم الكرم يزعمون، لكنهم يتفاخرون ويُسرفون ويتباهون!! وما علموا كيف عاش آباؤهم وأرضهم كيف كانت؟ لا يدركون! فقد كانت مذئبةً منهبةً يجوع فيها الناس ويهربون للهند والعراق لطلب الرزق ولأهلهم وولدهم يتركون..
ولكن حال الأرض تبدّل وأخرج الله كنوزه منها في نعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى.. بفضل الله وحده سخَّر الله ما في الأرض وأسبغ نعمه ظاهرةً وباطنة ويجبى لها ثمرات كل شيء (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، يجدُ الناس ما يشترون ويُحصّلون ما يشتهون، وأصبحت الجزيرة موطناً للنعم وملاذاً للعمل والرزق لكن بعض الناس لم يُوائم بين دخله ومصروفه.. فتأثرت البركة..
فالفقراء يريدون منافسة الأغنياء وارتفعت الأسعار وكثرت الطلبات فأصبح ما يُشترَى بالأمس لا يكفي اليوم حتى الجمعيات لم تستطع مساعدة كل الفقراء والمحتاجين وتنافست الشركات في الغلاء واللعب بالمستهلكين وسوء الصناعة.. ولم يفهم البعض ثقافة الادخار للمستقبل!! في ظاهرةٍ للإسراف وسوء ثقافةٍ للاستهلاك فهم لا يعرفون كيف يتصرفون وفي الديون والأقساط يغرقون.. ولا يدركون للنعمة التي هم فيها..
إذا كنتَ فِي نعمةٍ فارْعها *** فإن المعاصي تزيلُ النِعمْ
وحُطْها بطاعة ربِّ العباد *** فربُّ العباد سريعُ النقم
لقد أصبح الإسرافُ سمةً لدى البعض ويعتبرونها ميزةً وكرماً في تبذيرٍ زائدٍ عن الحد بالولائم والهدايا والمناسبات.. وانتشرت الديون والمداينات والتقسيط حتى وصل إجمالي مبلغ الديون عندنا (246 مليار) ريال للبنوك وغيرها ونسبةُ المستدينين من الناس (80%) وبالمقابل ضعف الإنفاق والبذل في سبيل الله للمحتاجين داخل البلاد وخارجها من زكاةٍ وصدقةٍ فقلََّت البركةُ في الأرزاق وأصبح الناس خائفين على مستقبلهم كأن الرزق بيد فلان وفلان وليس بيد الله الملك العلام..
نسأل الله ألا يؤاخذنا بذنوبنا ويرزقنا شكر النعم ويبارك بها..
عباد الله: الإسرافُ في حياتنا تحوّل من سلوك فرديٍّ لدى بعض الأغنياء في المدن الكبرى إلى ظاهرةٍ عامة تجتاحُ الأمةَ كلّها، فالغنيُّ يُسرف، والولائمُ تُرمى ولا تؤكل ومناظرها تصوّر للمباهاة بصحون للطعام كبرى عليها جمال وأغنام للمهايط والمفاخرة فقط!!
تعدَّى الإسراف للمنزل والملبس والمركب والسفر وأصبح ظاهرةً!! انتشرت مقاطع غريبة ومصورة للإسراف باسم الكرم تُشوِّه مجتمعنا وهي جنون ومَخْيلَة وكفرٌ بالنعمة..
الفقير يقترض ليُسرف ويحتفل، تقليداً ومفاخرة.. يشكو من قلةِ دخله وبعض مصروفاته كماليات وليس للحاجات.. اشتكى من المصاريف مَنْ رواتبهم تجاوزت العشرة آلاف شهرياً ولا يملك بيتاً وهو مديون لسوء التدبير فمَنْ رواتبهم أقلَّ كيف يعيشون؟!
انظروا للماء أبسط شيء في الحياة وهو بنعمته العظيمة غالي، ولذلك جعله -صلى الله عليه وسلم- مقياساً للإسراف فقال لمن أسرف بالوضوء.. "لا تسرف ولو كنت على نهرٍ جارٍ" (رواه أحمد وابن ماجه).
لأن الإسراف سبب لفقدان النعم.. كم حدَّث التاريخُ عن بيوت عامرة أسّسها آباء مقتدرون صارت إلى أولاد مسرفين، فأفسدوا وأتلفوا ما ورّث آباؤهم، ثم أصبحوا مُعدمين لا يجدون ما ينفقون، وخَربَت بسبب الإسراف بيوتٌ يتكلّفون ما لا يطيقون، وينافسون على ما لا يقدرون، وتناسوا (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 27]، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58].
والإسرافُ نهى الله عنه وعابه (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا وتصدّقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة"، والإسراف علامةُ شرٍ للهلاك (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
من أراد الحياة فليقتنع بالاكتفاء بما يحتاجه وترك ما لا يحتاجه، وإذا فقدت القناعة منه زاد التسخّطُ وافتقد الرضا بما رزَق الله، وحينئذ لا طعامٌ يُشبع، ولا لباسٌ يواري، ولا مراكبُ تحمل.. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقولُ.. "اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه" (أخرجه الحاكم).
بل كان -عليه الصلاة والسلام- يوصي أصحابه بالقناعة وعيش الكفاف، فيقول: "كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكر الناس" (أخرجه ابن ماجة).
ومن عمَّرَ قلبَه بالقناعةِ نَعِمَ بالراحةِ، وعاش حياةَ طيبة بالعزِّ والغنى قال تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97] فُسّرت الحياةُ الطيبة أنها القناعة..
خذ القناعة من دنياك وارض بِها لو لَم *** يكن لك منها إلا راحةَ البدنِ
وانظر لمن مَلك الدنيا بأجْمعها *** هل راح منها بغير القُطن والكفنِ؟!
أخي: إن كنت فقيرًا هناك من هو أفقر منك، وإن كنت مريضًا فيوجد أشدّ منك مرضًا، فلِمَ تنظر لما فوقَك ولا تخفضه لتبصَرَ من هو دونك؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا لمن هو أسفل منكم، ولا تنظروا لمن هو فوقكم، فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" (رواه مسلم).
ومن أراد الغنى فليسمع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس".
إن الناس بعد تأثّر مدخولهم هذه الأيام أصابهم الجزع، ونسوا أن بركة الرزق من الله الرّزاق ذي القوة المتين سواءٌ قلَّ دخلك أو كثر.. وإذا نُزعت البركة فالمال ضرر ولو كثُر! وإذا وُجدت البركة فهو نفعٌ وغنى ولو قلَّ.
وتُنزع بركاتُ الرزق عند التعدي على ثوابت الدين والأخلاق وبأكل الحرام من ربا وسرقة أو مخالفة تعاليم الدين فهذا فيه سلبٌ للأمن ومحقٌ للبركة وقلةٍ للنعم وزوال ولا حول ولا قوة إلا بالله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
مناظر الإسراف والتبذير ظلمٌ ومفاخرةٌ وعصبية والإسراف في البيوت يحتاج لثقافة الاستهلاك تُعلَّمنا ما نحتاجُ فنشتريه وما لا نحتاج فنتركه فإن بينَ القناعةِ وحسنِ الاستهلاك علاقةً وثيقةً، فلا تغترَّ بالعروض وما تبثه شركات الإعلان فلذلك أثره على نمط الاستهلاك وهوس الشراء للناس خاصةً النساء، فالإعلامُ يصوّر مقتنيات السوق أنّها لذّةُ الحياة التي تجلب المتعة!
والإحصاءاتُ تبين أن ثُلثَ ما يتمُّ وضعُه في عربة المشتريات من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها ومصيرها غالبًا إلى سلة النفايات.. فالأرز مثلاً كسلعة مهمة أكثر من ثلثه المستخدم في الأطعمة والمناسبات يُرمى في النفايات أو كطعامٍ للحيوان وقِس عليه أطعمةًٍ أخرى نشتريها ثم نرميها!!
َعباد الله: حسب الإحصاء لقد صرنا بالمركز الأول عالمياً في نفايات الأطعمة بنسبة 34% مما يُشترى ولا حول ولا قوة إلا بالله قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "الخَرَقُ في المعيشة أخوف عندي عليكم من الفقر، فلا يقلُّ شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد".
كثرةُ المطاعم عندنا هل هي طبيعية؟ ما الذي دعا إلى وجودها؟! إنه إقبال كثير من الناس ترفاً عليها والكسل من النساء عن خدمة بيوتهم، والأشد من ذلك أن أولادنا بات أكلُ بيوتهم سيئاً ودائماً أكلُهم من مطاعم تركوا لأجلها بيوتَهم ويشترون بأغلى الأثمان ما قلَّت فائدته ولا يُعلم مصدره ويجلبُ المرض والسمنة..
إنَّ مسؤوليةَ الوالدين تكون في التربية على نبذِ الإسراف وثقافةِ الاستهلاك وحسنِ الادخار لأسرته وأولاده والغذاء المفيد منذ صغره.. كما أن دورَ التجار والجهات المشرفة عليهم في توعية المستهلك وحمايتِه من العبث بعقله من تجار لا يهتمون إلا بزيادة أرباحهم ويبيعون الضارَّ للصحة والجسم أو يتلاعبون بالأسعار حتى لم يستطع البعض أن يُديرَ نفقةَ بيته من سوء إنفاقه فاستدانوا.
مما أوجد تجارَاً للدَّيْنِ والتقسيط جشعين يستغلون حاجتهم فيأخذون فوائدَ مُبالَغٌ بها على من استدان منهم بالبطاقات والسيارات تصل أحياناً على100% عياذاً بالله والمصيبة يُسمونها شرعية أفلا يتقون الله؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليَه عليهم فإن حقًا على الله أن يُقعده بعظم من النار يوم القيامة" (أخرجه أحمد).
فأين الرقابة على التجار والأسعار ومحلات التقسيط والديون وهم ينشرون أسماءهم وأرقامهم هداهم الله، ووضع العقوبات الصارمة والتشهير بما يفعلونه من جشعٍ وطمعٍ ورفعٍ للأسعار وفوائد للدّيْن أو لعبٍ وعبثٍ بعقول المستهلكين بإعلاناتٍ قليلة المصداقية وإغراءاتٍ تُقدَّم لهم بلا تنظيم!!
أيها الإخوة: تركُ الإسراف وعدلُ التجّار سببٌ لبركةِ الأرزاق.. ونحن في بلادنا نحمد الله على نعم حُرمها الكثيرون من وفرة النعم والأمن في البلاد واجتماعٍ للكلمة وائتلاف، وهذا يستحق منا شكرَ الله وحسنَ التصرف فإن النعم إذا شُكرت قرَّت وإذا كُفرت فرّت.
نسأل الله أن يُديم علينا نعمه التي لا تعد ولا تحصى وأن يرزقنا شكرها ويكفينا شرَّ الإسراف فيها ويرزقنا ثقافة الاستهلاك.. وأن يكفينا شر الغلاء.. ويبارك لنا فيما أعطانا ويديم علينا الأمن والإيمان (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]..
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
الإسرافُ والبطر ليس بالطعام فقط بل يتعدّى لضياع الأوقات وفساد العلاقات وقطيعة الأرحام وتخريبِ المنتزهات وإفساد البيئة وسوء استهلاك الطاقة حتى صرنا بلداً مُهدداً بنقص الماء وضعف الكهرباء بسبب ذلك!!
هذه التصرفات أدّت لفقرٍ ألجأ البعض لطرقٍ غير مشروعة للحصول على المال وتوفير ما يحتاج، وحينها لا يُبالي ضعيفُ الإيمان أمِنْ حلالٍ أخذَ المالَ أم من حرام، وتنشأ الأنانية والشحّ والبخل والرشوة والفساد، وتوجد الطبقيّة حيث الأغنياءُ بالأعلى والفقراءُ بالأسفل فيهلك المجتمع وهذا رأيناه في غير ما بلد؛ مما سبَّب المشكلات والأحياء العشوائية الفقيرة والقضايا المُقلقةِ والجرائمِ الغير متوقعة.
لقد أصبح بعضُ الآباء عاجزين عن توفير ما يريده الأولاد وبعضهم يفاخر بإسرافه وذبائحه ويُصور نفسه مجاهرة ولا حول ولا قوة إلا بالله ولنتذكر إخوتي قاعدةَ القرآن (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
المسرفون هم أهل النار -عياذًا بالله- والمبذرون إخوانُ الشياطين، وإذا كان عندك فضل مالٍ فأنفق على الفقراء يا عبد الله يُنفق عليك..
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر فإنه بئس الضجيع ونعوذ بك من البخل والدين وقهر الرجال..
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والإسراف والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.. قنّعنا بالقليل وارزقنا من الإيمان الكثير..
اللهم اجبر كسر إخواننا المسلمين على طغاةٍ لا يبالون بهم ويقصفونهم بكل الأسلحة اللهم فانصرهم على عدوك وعدوهم وانتصر لهم فما لهم غيرك يا ألله.
اللهم اجعل بلادنا وسائر بلاد المسلمين آمنة مطمئنة واجمع كلمتهم على الدين يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم