عناصر الخطبة
1/ حرمة قراءة الأبراج 2/ التنجيم المحرَّم 3/ العقل يمنع تصديق المنجمين 4/ التأثر بالغرب في أمر التنجيماقتباس
ومن تأمل أحوال المنجمين وقُرَّاء الأبراج، وكيف يستدلون على السَعد والنحس، وعلى التوفيق والحرمان، زاد يقيناً بضلالهم، وتكذيباً لتخرصاتهم، ولم يساوره شك أن ما هم فيه من ضلالة يسمونها علماً إنما هو تعلق بالخرافات والدجل، وأن ظنونَهم وتخرصاتهم لا يقبلها منطق العقل، فضلاً عن قلبٍ متحلٍّ بحلية الإيمان، والتصديق لله سبحانه ..
أيها الأحبة الكرام: لبعض المسلمين في استقبال العام الجديد شأن عجيب، وأعني عامهم المؤرَّخ بالتاريخ الميلادي، فلم يكفِهم أن قلّدوا غيرهم، فأرخوا بتاريخه، وهجروا تاريخ أمتهم، بل قلدوهم حتى في العادة التي يستقبلون بها عامهم الميلادي الجديد، قلدوهم في أمر هو في نفسه منكر أكبرُ، قبل أن يكون تشبُّهاً وتقليداً.
درَجَت الأمم الغربية النصرانية على استقبال عامها الجديد بتتبع ما يصدر من كتب الأبراج والتنجيم، يقرؤون فيها سَعدَهم وحظّهم، ويقرؤون فيها ما في سَنتهم الجديدة من خصائص أبراجهم، فتبعهم فئام من أمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقتفون أثرهم، ويتلقّفون عنهم عادتهم المنكرة، وصارت لبعضنا عادةُ غيرنا، مما هو منكرٌ في ديننا، ورمتنا العولمة بسهام التغريب، وتهدَّدَتْنا باستلابٍ فكريٍ وأخلاقي، ولا مقاومة تُذكر؛ لأن عقل الجاهل مناخُ من سبق، وصار البلاء ليس في أمية القراءة والكتابة، بل في أمية الفِكر والثقافة، فعقل بلا علم ولا فكر، هو عقلٌ بلا حصانة، سهل الاختراق والاستلاب.
ولَشَدَّ ما يؤلمنا هذا الاستنساخ على الطريقة الغربية! إنَّ الذي يعتز بثقافة دينه وهويته العقدية، يعز عليه أن يرى هذه العادات الغربية عاداتٍ لإخوان له في الدين.
قراءة الأبراج ضرب من التنجيم الذي أجمعت الأمة على تحريمه؛ لأنه رجم بالغيب، وتخرص بلا علم، وتقحم لما استأثر الله بعلمه. فعن ابن عباسٍ قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبةً من السحر" أخرجه ابو دود بسند صحيح.
وحتى لا يستغبيَنا أحد، أو يرميَ علماء الأمة بالجهل ومعاداةِ العلم والمعرفة، فإن التنجيم المحرمَ المذموم ليس هو بمعرفةِ مواقعِ النجوم ومواقيتِها، كيف وذلك مما يستعان به على طاعة الله من معرفة جهةِ القبلة ومواقيت الصلاة، والله سبحانه يقول: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام:97]، وقال: (وعلاماتٍ، وبالنَّجْم هُم يهتدون) [النحل:16].
وليس من التنجيم المحرَّم تعلُّمُ علم الفَلك، والنظرُ في أسرار الكون وعجائبه، فإن ذلك من النظر في ملكوت السماوات، ومن التفكر في خلقها، الداعي إلى تعظيم الله سبحانه، وزيادة الإيمان به وبأسمائه وصفاته.
وليس التنجيمُ المحرم بربط الأحوال الجوية والمواسم المناخية بظهور نجمٍ، أو خفائه، فهذا من ربط الشيء بعلاماته التي عرفت بالاستقراء والتتبع لحركة النجوم وظهورها، كما تعرف الفصول الأربعة بحركات الشمس، وكذلك ارتباطُ المدِّ والجزر بحركة القمر؛ ليس في هذا محظورٌ ما لم يُعتقد أن النجم هو الفاعل لذلك الحدث، المغير للحال، ولا يقول بذلك مسلم صحيح الاعتقاد.
ولكن التنجيم المحرم أن يتنبأ بالنجوم على وقوع الحوادث من خير أو شر، أو يُتنبأَ بالأبراج على السعد أو النحس ، وعلى مدد الأعمار، وعلى قسمة الأرزاق، والغنى والفقر، والتوفيق والخذلان، وما شابه ذلك مما هو من محض الرجم بالغيب، والتخرص بما استأثر الله بعلمه، ولم يُطلعه عليه لأحد من خلقه، لا ملَك مقرَّب، ولا نبي مرسل.
وهذا التنجيم هو ضرب من الكهانة، فحكمه حكمُها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم:"من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدّقه فقد كفر بما أنزل على محمد". وإنما يكفر مصدِّق الكهان والمنجمين لأنه تصديقه إياهم يستلزم اعتقاده بعلمهم للغيب الذي استأثر الله به سبحانه.
ولا يجوز أن يتساهل في هذا مسلم، حتى ولو كان يسأل المنجمين من باب الفضول؛ لأن السؤال ذريعة التصديق، والإنسان لا يأمن أن يقع في قلبه تصديق للمنجم فيما يدعيه، ولذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مجرد سؤال العرّاف سدّاً للذريعة، فقال: "من أتى عرّافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" رواه مسلم. والعرَّاف اسم عام للكاهن، والمنجِّم، والرمَّال، وقارئ الكف والفنجان.
فمَن أتى منجماً أو اتصل به؛ ليسأله عن حظوظ برجه لم تقبل له صلاةٌ أربعين يوماً؛ حتى ولو كان سؤالُه من باب الفضول، دون اعتقاد صدق المنجم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ربط تلك العقوبةَ بمجرد السؤال.
ومن تأمل أحوال المنجمين وقُرَّاء الأبراج، وكيف يستدلون على السَعد والنحس، وعلى التوفيق والحرمان، زاد يقيناً بضلالهم، وتكذيباً لتخرصاتهم، ولم يساوره شك أن ما هم فيه من ضلالة يسمونها علماً إنما هو تعلق بالخرافات والدجل، وأن ظنونَهم وتخرصاتِهم لا يقبلها منطق العقل، فضلاً عن قلبٍ متحلٍّ بحلية الإيمان، والتصديق لله سبحانه.
يقول الفارابي -وهو من مشاهير الفلاسفة -: واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين، فجعلت السعد نحساً، والنحس سعداً، والحار بارداً، والبارد حاراً، لكانت أحكامُك من جنس أحكامهم، تصيب وتخطئ. ومعنى قولِه: أن ما يقولونه ويتنبؤون به مجرد تخرص ورجم بالغيب، إن أصاب فبالصدفة والاتفاقِ غير المبني على دليل صحيح، وإن أخطأ فهذا هو الحقيق به وبكل متخرص متتبع للخرافات.
ومن عجيب أمر المغترِّين بالمنجمين أن تنجيمهم إذا وافق القدر فوقع اغتروا به ونسوا ما سبقه من كذَبات وتخرصات، وإذا خالف الواقعَ اعتذروا للمنجم، وقالوا: هو منجم، ما هو نبي؛ حتى يصدق في كل ما يقول. واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به، ولو أحاط به لصدق في كل شيء.
أراد علي -رضي الله عنه- الخروج لحرب الخوارج فاعترضه منجِّم فقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج. فقال: لأى شىء؟ فقال: إن القمر في العقرب؛ فإن خرجت أُصِبت، وهُزم عسكرك. فقال –رضي الله عنه-: ما كان لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا لأبي بكر ولا لعمر منجم، بل أخرُج ثقة بالله، وتوكلاً عليه، وتكذيباً لقولك. فما سافر علي بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سفرةً أبركَ منها، فقد قتَل الخوارج، وكفى المسلمين شرهم، ورجع مؤيَّداً منصوراً فائزاً ببشارة النبي لمن قتلهم؛ في قوله: طوبى لمن قتلهم!. فكان هذا الظفر ببركة مخالفة ذلك المنجم وتكذيبِه، والثقةِ بالله رب النجوم.
واجتمع جماعة من الكبراء والفضلاء يوما، فقرأ قارىء: ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) إلى قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [التكوير:1-14] وفي الجماعة أبو الوفاء ين عقيل، فقال له قائل: يا أبا الوفاء! هب أن الله أنشر الموتى للبعث والحساب، وزوَّج النفوس بقرنائها للثواب والعقاب، فما الحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال ودَكِّ الأرض وفطْر السماء ونثْر النجوم وتخريبِ هذا العالم وتكويرِ شمسه وخسف قمره؟ فقال ابن عقيل على البديهة: إنما بنى لهم هذه الدار للسكنى والتمتع، وجعلها وما فيها للاعتبار والتفكر، والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، فلما انقضت مدة السكنى، وأجلاهم عن الدار وخرَّبها لانتقال الساكن منها، فأراد أن يعلمهم بأنه في هذه الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وإبداء ذلك الصنع العظيم، بياناً لكمال قدرته، ونهاية حكمته، وعظمة ربوبيته، وعز جلاله، وعِظَم شأنه؛ وتكذيباً لأهل الإلحاد، وزنادقة المنجِّمين، وعُبَّادِ الكواكب والنجوم والأوثان؛ لِيعْلَمَ الَّذِين كَفَرُوا أنهم كانوا كاذبين؛ فإذا رأوا أن منار آلهتهم قد انهدم، وأن معبوداتهم قد انتثرت، والأفلاك التي زعموا أنها هي الأرباب المستولية على هذا العالم قد تشققت وانفطرت، ظهرت حينئذ فضائحهم، وتبين كذبُهم، وظهر أن العالم مربوب محدَثٌ مدبَّر، له رب يصرفه كيف يشاء.
بارك الله
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من عجيب أمر العقلانيين المفتونين بالفلسفة الغربية ومذاهبها العقلانية أننا لا نرى لهم صوتاً في إنكار الخرافة متى ما كانت منتشرة في المجتمع الغربي.
لقد كنا نرى لهم إنكاراً صارخاً للخرافات الملتبسة بالرقى الشرعية، وكنا نرى لهم إنكاراً صارخاً لمسألة الإصابة بالعين، فأنكروا تأثير العين، وقالوا: ليس هناك عائن ولا معيون، وإنما هو مرض خَفِيَ سببُه، فتعلقتم بأوهامٍ تظنونها ديناً، هكذا يقولون، مع أن مسألة الإصابة بالعين ثابتة في السنة، وإن كان الناس يبالغون في خطرها.
ثم رأيناهم يخنسون، ورأينا صوتَهم الصارخ بإنكار الخرافات والجهالات يخفت حتى لا يكادُ يُسمع إذا جاءت مناسبةُ قراءة الأبراج والتنجيم، فها هم ينشرون ما يسمى بقراءة الحظ والأبراج في صحفهم، ويذيعونه لها في قنواتهم، دون أن تقرأ أو تسمع لهم إنكاراً صريحاً جريئاً في اتهام هذه القراءات بالخرافة والدجل والتدليس.
ولا نعلم سبباً لذلك إلا مهابتهم لمخالفة العادات الغربية؛ فالخرافة في أعينهم لا تنبت إلا في بلاد الإسلام، وأما بلاد النصارى فهي منبت العلم والمعرفة والعقل! لا مكان للخرافات فيها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم