اقتباس
ومن نظر إلى ثواب الدعوة ورفعة صاحبها عند الله وصدق بذلك شمر لها واستمر عليها، وصبر على مشاقها، وحرص على هداية الناس وعلى تنويع أساليب التأثير على المدعوين...
القاعدة الثامنة: "الثناء على المدعوين مطلب دعوي مؤثر".
دليلها: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قَالَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ"، قَالَ: مَا هُمَا؟ قَالَ: "الْحِلْمُ , وَالْأَنَاةُ". وفي رواية: "الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا؟ , أَمْ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ , قَالَ: "بَلْ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا", فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا (رواه مسلم).
قال النووي -رحمه الله-: "وسبب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك له: ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرّبه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأجلسه إلى جانبه".
إن الثناء بالحق على المدعو أسلوب له شأن في النفوس؛ فهو يُقبل بها ويحبِّب الداعي والدعوة إليها، ويعطيها تعزيزًا يمضي بها إلى اعتناق الدعوة والتمسك بها والدفاع عنها.
أما الداعي الذي لا يعرف أسلوب الثناء، ولا إنزال الناس منازلهم، أو قد يدنو في دعوته إلى جلد المدعوين بخطاب الشتائم والنقد الحاد والطعن في بعضهم، ويسيء استقبال قلوبهم؛ فهو داع يُبعد ولا يقرِّب، وينفِّر ولا يبشر، ويشتت ولا يجمع.
أين هذا من قول النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي علّق أوسمة ثناء على بعض أصحابه فقال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"(رواه ابن ماجه).
القاعدة التاسعة: "الصبر على مشاق الطريق وترك اللهث في استعجال الفَرَج".
دليلها: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"(رواه البخاري).
قال الكرماني -رحمه الله-:" "ولكنكم تستعجلون" فيه تحريض على الصبر على الأذى، والتحمُّل على المشاق، وعدم الاستعجال في الأمور".
ليست الدعوة إلى الله أمراً يتقبله المجتمع المنحرف بشوق، ويستقبله بحفاوة، بل هي أمر مرفوض في تلك البيئة؛ لأنها طارئ ينغص شهواتهم، ويقطع حبل لذاتهم، ويكدر صفو سكرتهم.
وأما الداعي فقد يسام هناك بمضايقات قد تنتهي سلسلتها ببعض الدعاة إلى الموت.
والداعي في خضم بلاء الدعوة وشدة التضييق عليه وعليها يستشرف الفرج ويطلب سرعته، وربما كان ذلك قبل مضي سنة الله في التقدير الزمني لذلك البلاء الذي قد يطول لحكم يريدها الله -تعالى-، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف:110].
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك"(رواه البخاري).
وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214].
إذاً لابد للداعي من صبر يملأ صدره اطمئناناً، وقلبه رضا، ونفسه تفويضًا تامًا إلى خالقها في انتهاء زمن البلاء، وإتيان زمان الرخاء.
فمن كان كذلك من الدعاة جنى من الثمرات:
1- تهوين البلاء عليه.
ب- الصبر على قساوة الشدة.
ج-الثبات على طريق الدعوة.
د-البعد عن الاعتراضِ على القدر وكراهيةِ طريق الحق.
القاعدة العاشرة: "التسلي بما جرى للدعاة السابقين يهوِّن آلام الدعوة".
دليلها: عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"(متفق عليه).
قال ابن بطال -رحمه الله-: "من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم ما يقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلة في البشر، فطردهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل؛ اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين؛ ألا ترى أن الرسول قد اقتدى في ذلك بصبر موسى".
إن طريق الدعوة إلى الحق واحد في مواجهته، وإن اختلف الزمان والمكان وقدر المواجهة وكيفيتها، ولذلك يجد الداعي اليوم نماذج كثيرة قد ساروا على هذا الطريق الشاق ولقوا فيه من البلاء ما لقوا، ولكن العاقبة كانت لهم.
فهو إن مر بشدة في سبيله فليتسل حينئذ بأمثاله من الدعاة، فذلك يخفف عنه.
وهذا أسلوب قرآني يخاطب الله -تعالى- به نبيه -عليه الصلاة والسلام- في مواضع عديدة من القرآن، خصوصًا في العهد المكي، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)[الأحقاف:35]، وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)[الأنعام:34].
واستحضار هذه القاعدة لدى الداعي:
أ- يبقي أجر الداعي، فلا يستفزه الموقف حتى يمنّ بدعوته فيفسد عمله.
ب- يعينه على الاستمرار وترك الانقطاع.
ج- يدعوه إلى العفو عن المدعو المسيء، ولذلك عفا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الشاك في عدله، وعن أمثاله من المسيئين إليه.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ نَجْدٍ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ القَائِلَةُ، وَهُوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا وَعَلَّقَ سَيْفَهُ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ، وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجِئْنَا، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاخْتَرَطَ سَيْفِي، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، مُخْتَرِطٌ صَلْتًا، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ، فَهُوَ هَذَا" قَالَ: وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (متفق عليه).
القاعدة الحادية عشرة: "اُدعُ لهم ولا تدعُ عليهم".
دليلها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ"(متفق عليه).
قال ابن هبيرة -رحمه الله-: "في هذا الحديث ما يدل على رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته؛ فإنه كان -صلى الله عليه وسلم- يُقبل على الآتي إليه، ويدعو للمدبر عنه؛ ألا تراه حين قال له الطفيل: ادع الله على دوس فقال: "اهد دوسًا وأت بهم". وفي هذا الحديث من الفقه: أن فرصة الخير تُنتهز عند اشتداد ضدها، دعا هذا المحرض على القوم عند يائسة منهم، فانتهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرصة الخير، ودعا لدوس بالهداية، فكان ذلك أليق بسجاياه الكريمة، وأدعى إلى فلاحهم، فعلى هذا أحب لكل من اشتد غضبه على إنسان، أو أُغري به، أن ينتهز الفرصة في ذلك الوقت فيدعو للمغضوب عليه، والشخص الذي قد أغري به ما بلغ ما يمكنه من الخير، كاسرًا صولة طبعه الذي أعان تهييجها، ما كان من مغيظة أو إغراء قائل.
فيطلع الله عز وجل حينئذ على قصده في ذلك الوقت، فيستجيب دعاءه ويغفر به كل ذنب عمله إن شاء الله؛ لأنه جل جلاله إذا رأى من عبده هذه الخلة الحسنة عند اشتداد غيظه، والتهاب طبعه، كان سمته بالعفو والجود؛ أجودَ وأعود".
والعمل بهذه القاعدة شديد على كثير من النفوس؛ لمخالفتها هواها، وانتصارها لغضبها، وإنما يقوم بها من غلب حلمه طيشه، ورحمته غضبه، وعفوه انتقامه، وإيثاره مصلحة الدعوة على مصلحة شخصه.
وقد كان من ثمرة دعوة رسول الله وحلمه، واستمرار الطفيل في دعوته برجوعه إلى قومه وصبره عليهم؛ أن وفد الطفيل على النبي -صلى الله عليه وسلم- عام خيبر بثمانين بيتًا من دوس قد أسلموا.
القاعدة الثانية عشرة: "لا يأسَ من الإجابة حتى الموت".
دليلها: عن سعيد بن المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"(رواه البخاري).
قال الشيخ التميمي -رحمه الله- في فوائد هذا الحديث وفيه: "جِدُّه صلي الله عليه وسلم ومبالغتُه في إسلام عمه".
قد يعرض داعي الحق دعوته على فرد أو جماعة فلا يستجاب له، فمن الدعاة من يكتفي ولا يكرر الدعوة وييأس من الإجابة، ومن الدعاة الموفقين من يستمر ويكرر ويغير الأساليب ويستغل المواقف حتى ينال بغيته؛ اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كنبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- في هذا المثال، ونبي الله نوح عليه السلام الذي قال الله عنه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)[نوح:5-9].
وهذا الجَلد في استمرار دعوة المدعو ثقيل على المرء ولا تنوء به إلا النفوس السامية المجاهدة، غير أن ذلك قد يوصل إلى النتيجة المرجوة، كما قال الشاعر:
اُطلُبْ وَلَا تَضْجَرَ مِنْ مَطلَبٍ *** فآفَةُ الطَّالِبِ أنْ يَضْجَرَا
أَمَا تَرَى الحبلَ بتكرَارِه *** في الصَّخْرَة الصَّمَّاءِ قَدْ أثّرا
وقول الآخر:
أَخْلِقْ بِذِي الصَبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ *** وَمُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا
إِنَّ الأُمُوْرَ إِذَا انْسَدَّتْ مَسَالِكُهَا *** فَالصَّبْرُ يفتح مِنْهَا كُلّ مَا ارْتَتَجَا
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ *** إِذَا اسْتَعَنْتَ بِصبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَا
لا يَمنعنَّك مِن يَأسٍ مطالبةٌ *** فضيِّقُ السُّبْلِ يومًا ربما انتهجا.
وأذكر -وأنا صغير- أني سمعت أن شيخًا ظل يراسل أحد مدعويه يدعوه إلى الهداية بعشرات الرسائل حتى استجاب له بعد الرسالة المائة. وهذا صبر عظيم.
القاعدة الثالثة عشرة: "لا تكن شمعة".
دليلها: عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِي -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ , كَمَثَلِ السِّرَاجِ , يُضِيءُ لِلنَّاسِ , وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ"(رواه الطبراني في الكبير، وهو صحيح).
قال ابن الأمير الصنعاني -رحمه الله-: "وجه الشبه بقوله: "يضيء للناس": في الدنيا وفي الآخرة ينتفعون بما أفادهم "ويحرق نفسه" في الآخرة بنار مخالفته، بل أثره في الدنيا فشؤم المخالفة في الدارين لاحق لصاحبه بصلاح غيره في هلاكه؛ ولذا يقال: العلماء ثلاثة: منقذ لنفسه وغيره من الوبال وهو الراغب إلى الله عن الدنيا ظاهراً وباطناً، ومهلك نفسه وغيره وهو الداعي إلى الدنيا فهذا يحرق نفسه وغيره، ومهلك نفسه منقذ غيره وهو من دعا إلى الله ورفض الدنيا ظاهراً ولم يعمل بعلمه وهو الذي أراده - -صلى الله عليه وسلم- -؛ إذ الثاني ليس معلماً للخير والأول لا يحتاج إلى ضرب المثل. وفي هؤلاء قال عيسى عليه السلام: "يا علماء السوء، جعلتم الدنيا على رؤوسكم، والآخرة تحت أقدامكم!، قولكم شفاء، وعملكم داء" ".
أيها الداعي: لا تنر قلوب الناس وقلبك مظلم، ولا تنشر الأضواء في سبل الخلق وسبيلك إلى الله غير مضيء، ولا تطفئ ظمأ الناس بنمير الحق وتحرم نفسك منه في أوار عطشك، ولا تداو المرضى وتغفل عن مرضك.
ولا تحث الناس على الخير وأنت معرض عنه، ولا تنههم عن الشر وأنت منهمك فيه، فمن فعل ما نهي عنه فلا عقل له؛ فقد ذم الله أحبار أهل الكتاب فقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[البقرة:44].
وقال الشاعر:
ومن العجائب والعجائب جمّة *** قربُ الحبيب وما إليه وصولُ
كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمول.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجلُ المعلِّمُ غيرَهُ *** هلاّ لِنفسِكَ كان ذا التعلِيمُ
تَصِفُ الدواء لذي السِّقَامِ وذي الضنى *** كيما يصحّ به وأنتَ سقيمُ
وأراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عقولَنا *** أبداً وأنت من الرشادِ عقيمُ
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَهُ *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
فابدأ بِنفسكَ فانْهَهَا عن غيِّهَا *** فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حَكِيمُ
فهناك يُقبلُ ما تقُول ويقتدى *** بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
وتذكروا -أيها الدعاة- أن نفوسكم أولى بالنجاة من نفوس غيركم، فابدأوا بها قبل غيرها، واعملوا ثم ادعوا، وتذكروا حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ"(متفق عليه).
ولا يصرفنكم عن العمل والخوف من الله على النفس رؤيةُ أثركم في الناس؛ فإن ذلك أدعى لأن تتوفروا على كثرة العمل وملازمة الخشية، فهذا ابن الجوزي العالم العامل يقول: "ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم علي يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل".
ثم يقول: "وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي. ولقد جلست يومًا، فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه، فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟! فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي: إن قضيت علي بالعذاب غدًا، فلا تعلمهم بعذابي؛ صيانة لكرمك، لا لأجلي، لئلا يقولوا: عذّب من دل عليه.
إلهي: قد قيل لنبيك -صلى الله عليه وسلم-: اقتل ابن أُبَيٍّ المنافق! فقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".
إلهي: فاحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك. حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي".
القاعدة الرابعة عشرة: "الدال على الخير كفاعله".
دليلها: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ يَسْتَحْمِلُهُ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُهُ فَدَلَّهُ عَلَى آخَرَ فَحَمَلَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: "إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ"(رواه الترمذي وأحمد، وهو صحيح).
ويوضحه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا"(رواه مسلم).
قال ابن الأمير الصنعاني -رحمه الله-:" "إن الدال على الخير كفاعله" في الأجر والدلالة على الخير بالفعل؛ كأن يفعل فعلاً صالحاً يقتدي به فيه فيكون نظير من سن سنة حسنة بالقول كتعليم الخير، ويكون بالإشارة وهو بهذا أعم من حديث: "من سن سنة حسنة"، ويحتمل أنه مثله عاماً، وفيه دليل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلائق أجراً؛ لأنه الدال على كل سنة حسنة فله مثل أجور جميع أمته".
وقال الطيبي -رحمه الله-:" "هدى" وهو إما الدلالة الموصلة إلى البغية، أو مطلق الإرشاد، وهو في الحديث ما يهتدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له: هدى، يطلق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله، وعمل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين، وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومن ثم عظم شأن الفقيه الداعي المنذر، حتى فضل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نفعه يعم الأشخاص والأعصار إلى يوم الدين " ثم قال: "ونرجو من رحمة الله وكرمه أن يكون سعينا في هذا الكتاب منتظماً في هذا السلك، ويرحم الله عبداً قال: آمينا".
وقال العظيم آبادي -رحمه الله-: "إنما استحق الداعي إلى الهدى ذلك الأجر لكون الدعاء إلى الهدى خصلة من خصال الأنبياء".
فأنت –أيها الداعي- على طريق يورثك الأجور الكثيرة التي قد لا تنقطع، فكم لك من أجر إذا اهتدى بدعوتك مهتد أو مهتدون: من الكفر إلى الإسلام أو من البدعة إلى السنة أو من المعصية إلى الطاعة، ثم اهتدى بهؤلاء المهتدين آخرون!
إذا لم تستطع التأثير العام فادع أقرب الناس إليك: أسرتك.
القاعدة الخامسة عشرة: "النظر إلى ثواب الدعوة عند الله يعين عليها".
دليلها: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي -رضي الله عنه- يوم خيبر: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"(متفق عليه).
قال النووي -رحمه الله-:" "حمر النعم" هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. وقد سبق بيان أن تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب من الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة".
وهذا يبين فائدتين:
أ- أن الدعوة إلى الله خير من المال.
ب- أن دعوة رجل وهدايته بذلك خير من أن يحصل المرء على مال يتملكه أو يتصدق به.
ومن نظر إلى ثواب الدعوة ورفعة صاحبها عند الله وصدق بذلك:
أ- شمر لها واستمر عليها.
ب- صبر على مشاقها.
ج- حرص على هداية الناس وعلى تنويع أساليب التأثير على المدعوين.
فمن أراد الثواب الجزيل الذي قد يبقى بعد الموت فليضم نفسه في سلك الدعوة إلى الله -تعالى-.
جعلنا الله وإياكم من الدعاة المخلصين، الموفقين العاملين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم