عناصر الخطبة
1/أفضل وسيلة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم التعرف على سيرته 2/اصطفاء الله لنبيه وتزكيته لشمائله 3/صفحات من سيرته العطرة 4/وفاته صلى الله عليه وسلم وأثرها على صحابته وأمتهاقتباس
المرء مع مَنْ أحبَّ، وحبُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطٌ في الإيمان، وأفضل وسيلة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هي التعرف على سيرته وشمائله وأخلاقه، فتعرفوا على نبيكم لتعرفوا قدرَه ومنزلته، فتتأتَّى محبتُه وطاعتُه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي ختَم الرسالات السماوية بشريعتنا، وختَم الأنبياء والمرسَلين بنبينا، وجعَل أمتنا وسطًا خيرَ أمة أُخرجت للناس، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يخلُق ما يشاء ويختار، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المصطفى المختار، خيار من خيار من خيار، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانة ونصَح الأمة، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقينُ، صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدِ بنِ عبد الله، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
معاشرَ المسلمينَ: المرء مع مَنْ أحبَّ، وحبُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطٌ في الإيمان، وأفضل وسيلة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هي التعرف على سيرته وشمائله وأخلاقه، فتعرفوا على نبيكم لتعرفوا قدرَه ومنزلته، فتتأتَّى محبتُه وطاعتُه، فلا يؤمن أحدكم حتى يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده وماله والناس أجمعين.
عبادَ اللهِ: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)[الْحَجِّ: 75]، وقد اصطفى محمدًا -عليه الصلاة والسلام- من أنفَسِ المعادن والأنفاس، وأكرَمَه وفضَّله على سائر الناس، قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128]، جعَل هديه معيارًا للفضل والكمال، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)[الْأَحْزَابِ: 21]، زكَّى الله هديَه وخُلُقَه، وعلمَه وعقلَه، وقولَه وفعلَه، وزكَّاه الله تزكية كاملة، ظاهرًا وباطنًا، زكَّاه في عقله فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النَّجْمِ: 2]، وزكَّاه في بصره فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)[النَّجْمِ: 17]، وزكَّاه في قَدْره فقال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[الشَّرْحِ: 1]، وزكَّاه في ذِكْره فقال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشَّرْحِ: 4]، وزكَّاه في صِدْقه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)[النَّجْمِ: 3]، وزكَّاه في عِلْمه فقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)[النَّجْمِ: 5]، وزكَّاه في حِلْمه فقال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128]، وزكَّاه في خُلُقِه كلِّه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4].
عبادَ اللهِ: إن الله -تعالى- خلَق عباده حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحلَّ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطانًا، وإن الله نظَر إلى أهل الأرض فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فاختار من بينهم أنفَسَ المعادن، دوحة العز والشرف، ومنبع الخير والفضل، محمد بن عبد الله بن عبد المطَّلب، العربي القرشي الهاشمي، واختار له أفضل مكان، فوُلِدَ ونشأ وبُعِثَ بمكة أُمِّ القرى ومهبط الوحي، وكان مولدُه في ربيع الأول عام الفيل، بعد نحو اثنين وثلاثين وستمائة من ميلاد المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-، وبُعث في مكة وعمرُه قد ناهَز الأربعينَ، وتوفيَ عن ثلاث وستين.
معاشرَ المسلمينَ: لقد عاش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارة اليُتْم، فتوفي أبوه وهو في بطن أمه، وتوفِّيت أمُّه لنحو ست سنين من عمره، فكَفَلَه جَدُّه عبد المطلب سنتين إلى أن توفي، فضمَّه عمُّه أبو طالب، وظلَّ يحوطه ويحميه ويدافع عنه إلى أن توفي لعشر سنين من البعثة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحيدَ أبويه، ليس له أخٌ أو أختٌ، وقد جمَع الله فيه أوصافَ الخير والفضائل، وخصال الفطرة والشمائل، مارَس التجارةَ، فخرَج إلى الشام غيرَ مرة مع عمِّه، وخرَج في تجارةِ خديجةَ بنت خويلد، كما رعى الغنمَ على قراريط لأهل مكة، وتزوَّج من خديجة وعمره نحو خمس وعشرين، فكانت أفضل مُعِين ومُساعِد له، وأنجب منها جميع أبنائه ما عدا إبراهيم؛ فأمُّه مارية القبطية.
ولَمَّا بلَغ الأربعين اختاره الله فبعثه وختَم به الأنبياء والمرسَلين، فبدأ بالدعوة إلى التوحيد والتخلي عن الشرك، والحثِّ على خصال الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والظلم والفساد، واستمر على ذلك بمكة ثلاثَ عشرةَ سنةً، يدعو سرًّا وجهارًا، ليلًا ونهارًا، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، ومكروا مكرا كُبَّارًا، واستغشوا ثيابَهم وأصرُّوا واستكبروا استكبارًا، وعَتَوْا وعانَدُوا، وكذَّبُوه وآذَوْه، وسَخِرُوا به واستهزَؤوا، واتَّهموه بالسِّحر والكهانة والجنون، وعَظُمَ البلاءُ على أتباعه ومُناصِريه، فعذَّبهم أهل مكة وشرَّدوهم، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[الْبُرُوجِ: 8]، ويأذن الله لنبيِّه بالهجرة إلى المدينة، إلى طَيْبةَ الطيبة، إلى طابة؛ حيث يطيب المقامُ، حيث الدار والإيمان، وحيث يأرِز الإيمان، حيث جنود الله الأنصار، (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْحَشْرِ: 9].
وبدأت دولة الإسلام تترعرع في المدينة، فتأسَّست في فترة وجيزة، وتنزَّلت الأحكام، ثم بدأت تضم الأحلافَ، وتجاهِد في سبيل الله مَنْ حارَب اللهَ ورسولَه، وتُبرِم العقود والعهود والمواثيق، وبقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، كانت مليئة بالأحداث والتشريعات والغزوات، لم تعرف الأرضُ منذ بسَطَها اللهُ ودحاها، ولم يشهد التاريخ منذ بدايته إلى اليوم فترةً ولا جيلًا أقومَ بالحق، وأعدلَ بالصراط المستقيم، وأحب إلى الله من تلك الفترة وذلك الجيل، نسأل الله أن يجمَعَنا معهم في مستقرِّ رحمته، مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الْجُمُعَةِ: 2].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُظهِر الحق ورافعه، ومُذِلّ الباطل ودافِعُه، أرسَل رسولَه بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
عبادَ اللهِ: خلال عشر سنين في الفترة المدنية، أتمَّ الله دينَه، ودخَل الناسُ في دين الله أفواجًا، ودخل الإسلام ربوع الجزيرة العربية، وأذعَن أهلُها فانقادُوا للإسلام، وهذه أشهَر الأحداث خلال تلك الفترة:
ففي السنة الأولى للهجرة: بنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجدَه ومساكنه، وآخَى بين المهاجرين والأنصار، وشُرع الأذان.
وفي السنة الثانية: حُوِّلت القِبلةُ إلى الكعبة، وفيها فُرِضَ صوم رمضان، وفيها فُرضت صدقة الفطر، وفيها كانت غزوة بدر، وتوفيت بها رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعائشة -رضي الله عنها-، وفيها تزوج عليٌّ فاطمةَ بنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة الثالثة: غزوات وسرايا، منها غزوة أُحُد، وغزوة بني النضير، وحُرمت الخمر بعدَها، وتزوَّج فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة بنت عمر بن الخطاب، وتزوَّج عثمانُ أمَّ كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووُلِدَ الحسنُ بن علي لفاطمة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وفي السنة الرابعة: تزوَّج النبي -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة، وشُرع التيمُّم، وقيل: فيها غزوة الخندق، وذات الرقاع، وفيها شُرعت صلاة الخوف.
وفي السنة الخامسة: غزوة دومة الجندل، وفيها شرُع الحجاب.
وفي السنة السادسة: صلح الحديبية، وبيعة الرضوان، وغزوة بني المصطلق، وكسفت الشمس، ونزل الظهار.
وفي السنة السابعة: غزوة خيبر، وعمرة القضاء، وتزوَّج النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم حبيبة، وميمونة، وصفية، ومارية القبطية، وأسلَم أبو هريرة رضي الله عنه.
وفي السنة الثامنة: غزوة مؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة في رمضان، ووُلِدَ ابنُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم، وتُوفيت زينبُ بنتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها غزوة حنين.
وفي السنة التاسعة: غزوة تبوك، وأمَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- على الحج بالناس، وتُوفيت أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتوفي النجاشي -رضي الله عنه-، وتتابعت الوفود.
وفي السنة العاشرة: حجَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وتوفي ابنه إبراهيم -رضي الله عنه-، ونزل قول الله -تعالى-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النَّصْرِ: 1-3].
عبادَ اللهِ: كل نفس ذائقة الموت، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى ما حطَّ ذا عن نعشه ذا يركب
في ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة، وبعد حجة الوداع، ألمَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوجعُ، بأبي هو وأمي، وخيَّره اللهُ فاختار لقاء ربه، اللهم الرفيقَ الأعلى، اللهم الرفيقَ الأعلى، وحان الفراق، فأوصى وودَّع، وأظلمت الدنيا بفِراقه، وتفطَّرت الأكباد، فيا لَله ما أعظم الهول، وما أشد الفاجعة، وما أصعب الخَطْب، وما أثقل اللحظات، كيف لا وقد انقطع بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوحيُ عن الأرض؟ وأظلَم الأفقُ، واضطرب المسلمون؛ فمنهم من دُهِشَ، ومنهم من خُلِّطَ عليه، ومنهم من أُقعِد فلم يُطِقِ القيامَ، ومنهم من اعتُقل لسانه فلم يَطِقِ الكلامَ، يقول أنس -رضي الله عنه-: "لَمَّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلَم منها كلُّ شيء"، لكنها سُنَّة الله.
فالموت لا والدًا يبقي ولا ولدا *** ولا صغيرا ولا شيخا ولا أحدَا
مات النبي فلم يخلد لأُمَّته *** لو خلَّد اللهُ حيًّا قبله خلدَا
للموت فينا سهامٌ غير مخطئة *** مَنْ فاته اليوم سهمٌ لم يفته غدَا
ما ضرَّ مَنْ عرَف الدنيا وغرتها *** ألَّا ينافس فيها أهلها أبدَا
اللهم إنَّا نسألك صدق محبتك ومحبة رسولك -صلى الله عليه وسلم-، اللهم اجزه عنا خير ما جازيتَ رسولا عن أمته، اللهم كما جعلتنا من أهل منته فضلًا منك ومنًّا علينا، اللهم إنَّا نسألكَ أن تجعلنا من أهل شفاعته، وأن تحشرنا في زمرته، وأن تُورِدَنا حوضَه، وأن تجمعنا به في أعلى جنات الخلد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيِّده بتأييدك، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسان، يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم