عناصر الخطبة
1/ سبب سفر موسى للقاء الخضر عليهما السلام 2/ عرضٌ لقصتهما 3/ فوائد من القصةاقتباس
وفي هذا اليوم سنقف مع قصة من قصص هذه السورة الكريمة، سورة الكهف، جاء تفصيلها في السنّة النبوية، وفيها عجائب وعبر؛ إنها قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر. وسأسوق القصة من روايات البخاري ومسلم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بوصية الله لنا ولمن قبلنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء:131].
خاب الذي سار عن دنياه مرتحلا *** وليس في كفّه من دينه طَرَفُ
لا خيرَ للمرءِ إلا خيرُ آخرةٍ *** يَبْقى عليهِ فذاك العزُّ والشرفُ
معاشر الكرام: لعلكم تلوتم قبل قليل سورة الكهف، إذ إن قراءتها يوم الجمعة مستحب؛ ففي الحديث: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين" صححه الألباني.
وفي هذا اليوم سنقف مع قصة من قصص هذه السورة الكريمة، سورة الكهف، جاء تفصيلها في السنّة النبوية، وفيها عجائب وعبر؛ إنها قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر. وسأسوق القصة من روايات البخاري ومسلم.
أخبر نبينا -عليه الصلاة والسلام- أن موسى رسول الله -عليه السلام- ذكّرَ الناس يوما، حتى إذا فاضتِ العيون ورقتِ القلوب ولّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعَتَبَ عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب، فأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي رب، اجعل لي عَلَما أعلمُ ذلك به -أي: علامة- قال: حيث يفارقك الحوت. وفي رواية قال: خذ نونا ميتا، حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتا فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلِّفُك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلّفت كثيرا.
ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، قال: فبينما هو في ظل صخرة في مكانٍ ثَرْيان -أي: مبلول-، إذ تضرّب الحوتُ، وفي رواية واضطرب الحوت، وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرّب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جِريةَ البحر، حتى كأن أَثَره في حَجَر ، وفي رواية: فجعل لا يلتَئِمُ عليه. صار مثلَ الكُوَّةِ.
فلما استيقظ موسى انْطلَقا بَقِيَّةَ يومِهِما ولَيلَتَهُما، فلَمَّا أصْبَحا، قال مُوسَى لِفتاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا من سَفَرِنَا هذا نَصَبًا، ولمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا من النَّصَبِ حتى جاوَزَ المكانَ الذي أمرَهُ اللهُ به، فقال لهُ فتاهُ: أرَأَيْتَ إِذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبا! فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فوجدا خضرا على طُنْفسة خضراء -أي: فرش صغير- على كبد البحر، مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: وعليكم السلام. وقال: هل بأرضي من سلام؟ -إذ إنّ أهل تلك الأرض حينها لم يكونوا مسلمين- من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى! إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه.
وقال الخضر لموسى -عليه السلام-: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. قال: ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول -أي: أجرة-، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر.
فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت. [فكانت الأولى من موسى نسيانا].
فانطلقا، حتى إذا لقيا غلمانًا يلعبون، قال: فانطلق إلى أحدِهم باديَ الرأيِ فقتله، فذعر عندها موسى -عليه السلام- ذَعرةً مُنكرةً. قال: أقتلتَ نفسًا زكيةً بغير نفسٍ؟ لقد جئتَ شيئًا نُكرًا! قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: إن سألتُك عن شيءٍ بعدها فلا تُصاحِبْني. قد بلغتَ من لدُنِّي عُذرًا. قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رحمةُ اللهِ علينا وعلى موسى! لولا أنه عجِل لرأى العجَبَ. ولكنه أخذتْه من صاحبِه ذَمامةٌ"، أي: استحياء؛ لتكرار مخالفته.
فانطلقا، حتى إذا أتَيا أهلَ قريةٍ لِئامًا فطافا في المجالسِ فاستطعَما أهلَها فأبَوا أن يُضيِّفوهما، فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضَّ فأقامه، قال: لو شئتَ لاتَّخذتَ عليه أجرًا! قال: هذا فِراقُ بيني وبينك! وأخذ بثوبِه. قال: سأنَبِّئُك بتأويلِ ما لم تستطعْ عليه صبرًا: أما السفينةُ فكانت لمساكينَ يعملون في البحرِ. إلى آخر الآيةِ. فإذا جاء الذي يُسخِّرها وجدَها مُنخرقةً فتجاوزها فأصلحوها بخشبةٍ. وأما الغلامُ فطُبِعَ يومَ طُبِعَ كافرًا، وكان أبواه قد عَطفا عليه، فلو أنه أدرك أرهقَهما طُغيانًا وكفرًا، فأردْنا أن يُبدِلَهما ربُّهما خيرًا منه زكاةً وأقربَ رُحْمًا. وأما الجدارُ فكان لغلامَين يتيمَين في المدينةِ، وكان تحتَه .... إلى آخر الآية.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يرحم الله موسى! لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما". سقت القصة من مجموع روايات البخاري ومسلم.
نفعني الله وإياكم بكلامه العظيم، وبسنة الرسول الكريم ، وتاب عليّ وعليكم؛ إنه تواب رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ملء السماوات والأرض، وملء ما شاء من شيء بعد، وصلى الله وسلم على صادق الوعد.
أما بعد: إخوة الإيمان، فغيرُ خافٍ أن ما فعله الخضر لم يكن من تلقاء نفسه، إنما كان من أمر الله، كما حكى الله قول الخضر: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف:82].
معشر الكرام: وهذه القصة مليئة بالفوائد، وإليكم عددا مما استنبطه أهل العلم منها، فمن ذلك: فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، فموسى ترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم.
ومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى -عليه السلام-: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف:66]، فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، تأمل: قال: (عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ)، ولم يقل أتعلم.
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
ومن الفوائد: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه.
ومما يستفاد: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه، لقوله: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) [الكهف:73].
ومن الفوائد: القاعدة الكبيرة وهي أنه: "يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير"، ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما؛ كما في خرق السفينة لتسلم من غصب الملك الظالم للسفن السليمة، وقتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا منه.
ومن الفوائد: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومما نستفيده: وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول.
ومن الفوائد: استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء: "رحمة الله علينا وعلى موسى".
ومما يستفاد: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدّر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، وقد يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا وهي صلاح دنياه، كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة للنفس.
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخّط، وكان صدقا؛ لقول موسى: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) [الكهف:62].
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله -تعالى-، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها؛ لقوله: (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) [الكهف:66]، أي: مما علمك الله -تعالى-.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول: (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) [الكهف:69].
ومنها: استعمال الأدب مع الله -تعالى- في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) [الكهف:79]، وأما الخير، فأضافه إلى الله -تعالى-، لقوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الكهف:81]، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80]، وقالت الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن:10]، مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
وختاما: نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.
ثم صلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم