عناصر الخطبة
1/ قصةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- في سفره, وموقفه مع المرأةِ المشركة وقومها 2/ دروسٌ مستفادةٌ من هذه القصة 3/ دروسٌ من إحسان النبي لعبد الله بن أبي.اقتباس
فذهبت المرأةُ وأَتَتْ أَهْلَهَا, وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ هذه الْمُدَّة, فقَالُوا لها: مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ! لَقِيَنِي رَجُلَانِ, فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ, فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا, فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ, أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا, أي أنَّ ما رأَتْه منه, من أمورٍ خارقةٍ للعادة, لا تكون إلا من ساحرٍ أو نبيّ, ولكنَّها لم تجزم... وقد لاحظَتْ هي وأهلها ذلك, فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أَرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتْرُكُونَكُم عَمْدًا, فَهَلْ لَكُمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ أي: إنَّ هَؤُلَاءِ إنما..
الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب, فقَبِله وعمل به ذَوُوُ العقولِ والألباب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أعدَّ لمن كفر وعاند أشدَّ العذاب, ولمن آمن وانْقاد ألذَّ الطعامِ والشراب, وتقلَّب في الجنانِ بِمَا لذَّ وطاب.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, من اتَّبعه وأحبَّه هُدي إلى الصواب, وفاز بالنعيم وتمسَّك بأفضل الأسباب, صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى الآلِ والأصحاب, والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الحساب.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, كان مُباركاً في حلِّه وترحاله, وجدِّه ومزاحه, فلْنأخذ شيئاً من بركاته, في إحدى غزواته, ولْنَقْتَبِسِ الدُّرر, من ذاك القمر, ولْنعش أجواءً من الإيمان, في زمنٍ هو خير الأزمان, فأرعوا لها الآذان, وفرِّغوا لها القلوبَ والأذهان.
ثبت في الصحيحين عَنْ عِمْرَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, وَإِنَّا أَسْرَيْنَا, أي سرنا في الليل, حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ, قريباً من الفجر, وَقَعْنَا وَقْعَةً, وكأنهم سقطوا عن الحركة من التعب, قال: وَلَا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا, وذلك من شدة التعب والإعياء, فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ, ولمْ يقم أحدٌ لِيوقظهم, ففاتتهم صلاة الفجر.
قال: وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ, حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ, لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ, فقد كَانُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-, يَخَافُونَ مِنْ إِيقَاظه قَطْعَ الْوَحْي, فَلَا يُوقِظُونَهُ لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ, وَكَانَ رَجُلًا جَلِيدًا, أي صلباً قويًّا, فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ, وهذا من أدَبه وفَطْنته -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وَخَصَّ التَّكْبِير من بين الأذكار؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الدُّعَاء إِلَى الصَّلَاة.
فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ, حَتَّى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ, شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ, فقَالَ: لَا ضَيْرَ, أَيْ لَا ضَرَر ولا إثم علينا؛ لأنا لم نتعمَّدْ ترك الصلاة, ثم قال لهم: "ارْتَحِلُوا, فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَان".
وقد أَخَذَ بِهَذَا بَعْض الْعُلَمَاء فَقَالَ: مَنْ اِنْتَبَهَ مِنْ نَوْمٍ عَنْ صَلَاة فَاتَتْهُ فِي سَفَر, فَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ مَوْضِعه، وَإِنْ كَانَ وَادِيًا فَيَخْرُج عَنْهُ.
قال عِمْرَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَارْتَحَلَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ نَزَلَ, فَدَعَا بِالْوضُوءِ فَتَوَضَّأَ, وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاس.
وهذا يدل -عباد الله- على أنَّ من فاتته الصلاة, فالمشروع أنْ يُؤذَّن لها, وأنْ يصليَها جماعةً إنْ كان معه أحد.
قال: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ, أي سلَّم منها, إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ, فقَالَ له: "مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟"، قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ, أي: ليس عندي ماءٌ أغتسل به, فقَالَ له: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ", أي: عليك بالتراب فتيمم به, فإنه يُجْزئك ويكفيك.
وفي هذا دليل, على أنَّ العاجز عن الغسل, إما لفقده أو لمرضه, وعنده ماءٌ يكفي للوضوء, فلا يلزمه أنْ يتوضأ؛ لأن التيمم يقوم مقام الغسل.
ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَلَ, فَدَعَا عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-, فَقَالَ لهما: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ, فَانْطَلَقَا يبحثان عن الماء, وَقَدْ عَطِشَا عَطَشًا شَدِيدًا.
فبينما هما كذلك, في شدةِ العطش والتعب, وَجَدا امْرَأَةً على بعيرٍ لها, مُدَلِّيَةً رِجْلَيْهَا, بَيْن مَزَادَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ, أي بين قِرْبَتَيْنِ كَبِيْرَتَيْنِ, فَقَالَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: هيهات هيهات! ليس لكم ماءٌ حاضرٌ ولا قريب, وأخْبَرَتْهُم أنَّ رِجَالهَا غَابُوا عَنْ الْحَيّ, وأن لها أيتاماً ينتظرونها.
فقَالَا لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا, قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ والصَّابِئُ: هو الذي خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ آخر, فقَالَا لها بأدبٍ ورفق: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ, فَانْطَلِقِي معنا, فانْطلقت معهم.
فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ, فقَالَ لهما، فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا, وَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- بِإِنَاءٍ, فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْقربتين, فَتَمَضْمَضَ فِي الْمَاء وَأَعَادَهُ فِي الْقربتين, لكي تحِلَّ البركةُ فيهما, حيثُ اخْتلطَ رِيقُه الطَّاهِرُ الْمُبَارَكُ بالْمَاءِ, وأذن للناس بأنْ يأخذوا منه, فَسَقَى مَنْ شَاءَ, وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ, وأَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ, فقَالَ له: اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ.
كلُّ هذا, والمرأةُ المشركةُ تنظر باسْتغرابٍ وتعجُّبٍ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا, وكيف صار يكفي هؤلاء الكثرةَ من الناس, بعضهم يشرب منه, وبعضهم يغتسل منه.
قال عمران -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَأيْم اللَّهِ, لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا, وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا, أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا, أي: نظنُّ ونعتقد, أَنَّ مَا بَقِيَ في القربتين مِنْ الْمَاء, أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ أَوَّلًا.
قال: وإنها تكاد تنشقُّ من الماء, هذه بركةُ ريقِه -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, وانظروا وتأملوا كيف تعامل معها, وكيف كافأها وأكرمها, مع أنها مشركةٌ كافرة, وقالت عنه بأنه صابئ, وهي لم تعطه الماء برضاها, بل أُجبرت على ذلك, ورُدَّ عليها الماءُ كما كان, لم يُنْقَصْ منه شيءٌ أبداً.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- لأصحابه: اجْمَعُوا لَهَا, فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ, وهو تمرٌ من أجود التمر بالمدينة, وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ, وهي من أجود الطعام وأطيَبِه, حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا كثيراً, فَجَعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ, وَحَمَلُوهُ عَلَى بَعِيرِهَا, وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا, فلم تكد تُصَدِّق ما ترى.
خرجت تبحث عن لُقمةٍ تسدُّ بها جوعَها, وجوعَ أبنائها الأيتام, فيأخذُها رجالٌ غرباء, إلى مَن تراه عدوَّاً لها ولقومها, فإذا بها ترى الكرم والعدل والإحسان, فترجع إلى أيتامِها وقومِها بأحسن الطعام والشراب.
فقَالَ لَهَا النبي -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- حين ودَّعها: تَعْلَمِينَ مَا رزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا, أَيْ: ما نَقَصْنَا منه شيئا, وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا.
إنها نصيحةٌ مختَصرةٌ عظيمة, لامرأةٍ مشركةٍ تعبدُ الأصنام, بأنَّ الذي سقانا وأروانا, وما رأيتيه من بركةٍ في الماء وكثرتِه, هو من الله وحده, والمعنى الذي يريد إيصالَه لها: آمِنِي بالله وحْده.
فذهبت المرأةُ وأَتَتْ أَهْلَهَا, وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ هذه الْمُدَّة, فقَالُوا لها: مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ! لَقِيَنِي رَجُلَانِ, فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ, فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا, فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ, أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا, أي أنَّ ما رأَتْه منه, من أمورٍ خارقةٍ للعادة, لا تكون إلا من ساحرٍ أو نبيّ, ولكنَّها لم تجزم بأنه نبي؛ لكثرةِ ما قيل عنه بأنه ساحر.
فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ, يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ, أي: يهجِمون عليهم بخيولهم, لأنهم أعلنوا الحرب والعداوة للمسلمين, ومن بين هؤلاء الْمُحاربين والأعداء أهلُ المرأةِ وقبيلتُها, ومع ذلك, كان الصحابةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-, لَا يهجِمون على قبيلتها وأهلها, وفاءً وردًّا للجميل.
وقد لاحظَتْ هي وأهلها ذلك, فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أَرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتْرُكُونَكُم عَمْدًا, فَهَلْ لَكُمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ أي: إنَّ هَؤُلَاءِ إنما تركوكم عَمْدًا, لَا غَفْلَةً وَلَا نِسْيَانًا ولا خوفاً, بَلْ مُرَاعَاةً لِمَا سَبَقَ بَيْنِي وَبَيْنهمْ، فعندها علموا يقيناً أن هذه الأخلاقَ العظيمة, والقِيَمَ النبيلة, لا تصدُرُ من ساحرٍ ولا كذَّاب, بل من نبيٍّ مُرْسَلٍ من الكريمِ الوهَّاب, فَأَطَاعُوهَا واسْتَمَعوا لنصيحتها, فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
نعم؛ قبيلةٌ كاملة, دخلت في الإسلام, لأجل امرأةٍ عاقلة, فما أعظم دورَ الْمرأة! وما أشدّ أثرها على أهلها ومجتمعِها!.
نسأل الله تعالى, أنْ يَنْفَعَنا بسيرةِ نبينا -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, وأنْ يرزقنا العلم والعمل بها, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى, وأضلَّ من شاء وهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم السرَّ وأخفى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبيُّ الْمُصطفى, صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه النجباء، وسلم تسليمًا كثيراً, إلى أنْ يَبْعَث الله الموتى.
أما بعد: أيها المسلمون: ومن فوائد هذه القصة سوى ما تقدَّم:
جَوَازُ اِسْتِعْمَال أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ, مَا لَمْ نتَيَقَّن نجَاسَتها؛ لأنهم شربوا من قِرْبةِ المرأة المشركة.
ومن ذلك أيضاً: أهميَّةُ الأخلاق في نشر الإسلام, فهذه المرأةُ وقبيلتُها,لم يدخلوا في الإسلام من باب الدعوة؛ بل من باب الأخلاقِ الحسنة، فما أجمل أنْ ندعو الكفار, من الخدمِ والعاملين وغيرِهم, بأخلاقنا وقيمنا قبل أقوالنا!.
ومن ذلك أيضاً: أنَّ الوفاء وردَّ الجميل, من أخلاق المسلمين الصادقين.
وتأملوا -معاشر المسلمين- كيف كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُغِيرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ, عدا أهلِ المرأةِ وقبيلتِها, وفاءً لها وردًّا لجميلها, مع أنها لم تفعل ذلك طوعاً بل كرها, وَهَذِهِ الْغَايَة فِي مُرَاعَاة الصُّحْبَة الْيَسِيرَة.
فلْنأخذ من هذا درساً على ردّ الجميل, وعدمِ نسيانِ من أحْسَنَ إلينا ولو كان يسيراً, فالزوجان والأصدقاءُ والأقاربُ والجيرانُ وغيرُهم, لكلِّ واحدٍ على الآخر جميلٌ ومعروف, فلا ينكرْ أحدُهما جميل الآخر, ولو حصل خلافٌ وسوءُ تفاهُم, ولو بدر من أحدهم أخطاء وسيِّئاتٌ, تطغى وتربو على ذلك المعروف, فالكريم العاقل من لا ينسى ذلك, واللئيمُ الأحمق من ينسى ويتناسى.
إلى كلِّ مَن حصل بينه وبين أخيه شحناء, إلى كلِّ زوجين حصل بينهما خلاف: هل تعلمون أحداً في التاريخ, أساء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, أكثرَ وأشدَّ من عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بنِ سلول؟ الذي اتهمه في عرضه وشرفِ زوجه, والذي ألَّب عليه الأحزاب يوم الخندق, وخذل المسلمين في غزوةِ أُحُد, إلى غير ذلك من جرائمه ونفاقه.
ومع كلِّ هذا وذاك, عندما مات عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ, وأُدْخِل في قبره, أمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ من قبره, فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ, وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ, وَأَلْبَسَهُ وكفَّنه قَمِيصَهُ.
أتعلمون لماذا كلُّ هذا البرِّ والإحسان, والكرمِ والعرفان؟ لأنه لَمَّا كان غزوةُ بدرٍ, وأُسر العباسُ بنُ عبد المطلب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وليس مع العباس ثوبٌ يسَعُه، فَطَلَبَ الأَنْصَارُ ثَوْبًا يُلْبِسُونَهُ, فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا يَصْلُحُ عَلَيْهِ إلا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ, فَكَسَوْهُ إيَّاهُ.
قَالَ سُفْيَانُ رحمه الله: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-, أَلْبَسَ عَبْدَ اللهِ قَمِيصَهُ, مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. رواه البخاري.
الله أكبر, ما أعظم هذه القِيَم والأخلاق! وما أعظم صفاءَ قلبه, وسلامةَ صدرِه! فما أسْعد من اقْتدى بأخلاقه وتعامله! وما أشقى مَن تركها وتعامل بغيرها!.
نسأل الله تعالى, أنْ يُحسن أخلاقنا, وأنْ يُطهر قلوبنا, إنه على كل شيء قدير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم