عناصر الخطبة
1/ همة عالية ونفس رخيصة في سبيل الله 2/ قصة الغلام المؤمن كما جاءت في روايات السنة 3/ دروس مستفادة من القصةاقتباس
غلام صغير يبتلى ويؤذى ويعرض للقتل مرارًا، بل يذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفد ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك؛ جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد ..
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
أيها المسلمون: سنعيش هذه الجمعة حدثًا حدث في تاريخ العالم، أو قل: بلاءً ثبت فيه المؤمنون الصادقون، بلاء وأي بلاء، إنه بلاء تزول له الجبال الرواسي، وتنقطع دونه الأرواح الأوابي، بلاء تتفطر الأسماع عند سماعه، وتجود العيون عند فصوله وأحداثه.
نعم، إن الحدث وقع على لحم ودم، ولكنه الإيمان حينما تخالط بشاشته القلوب.
إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهون عليها كل عسير، ويلذذ لها كل صعب وخطير، فتصبح الآلام راحةً، والعذاب نعيمًا، والبكاء فرحًا.
وسترى في هذا الحدث العظيم كيف يصنع الإيمانُ الرجالَ وإن كانوا صغارًا في السن، وربما ازدرتهم الأعين أو استقلتهم النفوس، لكن الإيمان يسمو بهم فيصنعون ما لا يصنعه الرجال.
غلام صغير يبتلى ويؤذى ويعرض للقتل مرارًا، بل يذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفد ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك؛ جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد.
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
قال الإمام مسلم -رحمه الله- حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر"، - أقول: وهذه القصة كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد -عليهما من الله السلام-، قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلامًا أعلمه السحر، وفي رواية الترمذي: "وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلامًا فهمًا أو قال: فطنًا لقنًا فأعلمه علمي هذا، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه".
قال الإمام مسلم في روايته: "فبعث إليه غلامًا يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه ضربة لأنه تأخر عليه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة -وفي رواية أحمد-: "فظيعة"، وعند الترمذي: "فبينما الغلام على ذلك -أي بين الساحر والراهب- إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حسبهم دابة فقال بعضهم: إن تلك الدابة أسد".
قال الإمام مسلم: فقال -أي الغلام-:" اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟! فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ولاحظوا أن الغلام بدأ بالراهب لأنه مستقر في نفسه أن أمر الراهب أفضل ولكن أراد أن يطمئن قلبه.
نعم؛ لأن هناك فرقًا بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، إن لكلام أولياء الرحمن نورًا في النفس، وراحة في القلب، أما كلام أولياء الشيطان من الكفرة والملحدين ظلمة في النفس وضيق في القلب.
"فرماها -رمى الغلام الدابة بالحجارة- فقتلها ومضى الناس"، وفي رواية الترمذي: "فقال الناس: من قتلها؟! قالوا: الغلام، ففزع الناس، وقالوا: لقد علم هذا الغلام علمًا لم يعلمه أحد".
قال الإمام مسلم: "فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني: أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ".
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ومعنى الأكمه الذي خلق أعمى، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمعُ إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله".
نعم، أعطاه الشفاءين: شفاء القلوب وشفاء الأمراض، وصف له الدواء الإيماني ثم أعطاه الدواء الجسماني، وهنا درس للأطباء أن يعطوا مع الدواء الجسماني الدواء الرحماني.
نعم، هكذا ينبغي أن يكون المجتمع بأسره يحمل هم إصلاح الناس، فالطبيب في عيادته، والمدرس في فصله، والمهندس في عمله، والموظف في وزارته، وهكذا ينبغي أن يكون الناس.
أما أن تكون الدعوة والنصح والإرشاد حكرًا على فئة معينة من الناس وطبقة من طبقات المجتمع فلا وألف لا، نعم نحن لا نقول: كل إنسان يخطب ويحاضر ويتكلم، لا، لا نقصد هذا، ولكن لا أقل من أن تساهم في مجالك بالكلمة الطيبة أو النصيحة الهادفة أو مساعدة من يملك القدرة على الكلمة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
قال الإمام مسلم: فآمن بالله -يعني جليس الملك- فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: "من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني: قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فأخذه لم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه".
انظروا للبلاء -أيها الأخوة-، يوقف الرجل فيبدأ بالنشر من مفرق رأسه حتى يقع شقاه ما يرده ذلك عن دينه، سبحان الله، أي إيمان بلغ بهؤلاء حتى صبروا هذا الصبر العظيم، فأين هؤلاء الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصلاة مع الناس بضع دقائق.
انظر -يا أخي- كيف كان يبتلى الناس وكيف أوذوا في جنب الله، وأنت تؤمر بأوامر سهلة ويسيرة على النفس، ومع ذلك تثقل عليك العبادة ويصعب عليك أداؤها، وهؤلاء يقتلون بل ينشرون بالمنشار حتى يموتوا وهو سهل عليهم لأنهم قالوا: ربنا الله.
وأنت تؤمر بصلاة الفجر مع الجماعة فيصعب عليك، فانتبه -يا أخي- وراجع إيمانك.
ثم قال: "ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته -أي أعلاه- فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك".
أيها الإخوة: نعم رجع إلى الملك ليبين له أن ربه ورب الناس جميعًا هو الله وليس أنت -أيها الملك-.
"وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -أي سفينة صغيرة-، فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟! قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني".
يريد أن يضحي هذا الغلام الصغير بأغلى شيء يملكه، يضحي بنفسه التي بين جنبيه لكي يعبد الله وحده لا شريك له، والله أكبر والله أكبر، هذه اهتمامات هذا الغلام الصغير، فما هي اهتمامات غلماننا اليوم أو قل شبابنا!! فما هي اهتماماتهم إلا آخر شريط نزل للمغني الفلاني، أو آخر فيلم عربي أو غربي صدر هذه الأيام، أو قصات أو موضات أو سيارات. وإلى الله المشتكى!! وغلام ناعم الأظفار، صغير الجسم، ضعيف القوى، يضحي بروحه في سبيل الله، فلله درّ هذه القلوب حين خالطها الإيمان، ولله در هذه النفوس حين عانقها الإسلام.
ثم قال: "فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر!! قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها". ومعنى أحموه: أي ارموه فيها، وفي بعض نسخ مسلم: "فأقحموه". بالقاف، ومعناه اطرحوه فيه كرهًا.
قال: "من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها"، أو قيل له: "اقتحم"، شق لهم في الأرض أخدودًا أي سكة، وأشعلوا فيها النار، فإذا النار تلتهب ويأكل بعضها بعضًا، وعلا لهيب النار ليغطي الأخدود، فكأن النار على سطح الأرض والناس طوابير.
من ربك؟! فإن قال: الله، ألقوه فيها، أو قيل له: ألقِ نفسك، فاقتحم الناس النار وتسابقوا إليها، وكأنهم يردون ماءً عذبًا أو يدعون إلى وليمة، لكنها والله الجنة التي يرخص في سبيلها كل غالٍ، ويبذل لنيلها كل نفيس.
ثم قالت الرواية: "حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست -أي توقفت- أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أُمّه: اصبري، فإنك على الحق".
هكذا كان البلاء وهكذا صبر المؤمنون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) [البروج: 4].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم..
الخطبة الثانية:
عباد الله: اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: هكذا سجّل هذا الغلام أعظم تضحية عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله ولكي يعبد الله وحده لا شريك له، فيموت كما يموت الشهداء، فلا يجد من ألم الطعنة إلا كما يجد أحدنا من القرصة، ويأتي يوم القيامة اللون لوح الدم والريح ريح المسك، ولا تأكل الأرض أجسادهم، بل حُرّم عليها أن تأكل شيئًا من أجساد الأنبياء الشهداء، ففي رواية الترمذي لهذه القصة قال في آخره: "فأما الغلام فإنه دفن، فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه، كما وضعها حين قتل". وساق ابن إسحاق خبرًا غريبًا؛ قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد هذا الغلام دفن فيها قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه ممسكًا عليها بيده، فإذا أُخذت يده عنها تنبعث دمًا، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا على الذي كان عليه ففعلوا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم